في ليلة حالكة الظلام، كان "سامح" يقود سيارته على طريق منعزل، عائدًا من مهمة متأخرة لتسليم وثائق عمل كان قد أجلها طويلاً. فجأة، اخترق الظلام وميضاً أحمر غامضاً اقترب ببطء من زجاج النافذة. لم يتسنَ له التفكير؛ انطفأ وعيه كشمعة في عاصفة، لتجذبه قوة خفية داخل مركبة فضائية. استفاق ممدًا على سرير معدني بارد، جسده العاري ملفوف بغطاء رقيق من مادة رمادية ناعمة كملمس الجلد، بينما أوثقت أطرافه بأحزمة مضيئة تتوهج بأنوار خضراء تثير في نفسه مزيجًا من القلق والترقب. كان الهواء حوله كثيفاً، مشبعاً برائحة معدنية غريبة تخترق أنفه، وقلبه ينبض بقوة كمحرك يائس يبحث عن معنى لما يحدث !
إظهار الرسائل ذات التسميات قصص وروايات. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات قصص وروايات. إظهار كافة الرسائل
24 مارس 2025
17 مارس 2025
9 مارس 2025
25 فبراير 2025
في حضرة اللاشيء
كان آدم يسير عائدًا إلى منزله في إحدى ليالي الشتاء الباردة. السماء ملبدة بالغيوم، والشارع خالٍ تماماً، باستثناء صدى خطواته الثقيلة. رغم الهدوء التام، كان يشعر بشيء غريب... ذلك الإحساس الذي يتسلل تحت جلدك كأنه همسة من عقل خفي: "هناك من يراقبك."
حاول تجاهل الأمر. ربما كانت مجرد هواجس، أو ربما تأثير الإرهاق بعد يوم طويل في العمل. لكنه لم يستطع طرد الفكرة من رأسه. خطواته بدأت تتسارع، وقلبه يخفق بقوة. شعر ببرودة غريبة تزحف على عنقه، كأن عيونًا غير مرئية تركز عليه من مكان ما خلفه. استدار فجأة. لا أحد. الشارع فارغ كما كان.
تصنيف :
قصص وروايات
24 فبراير 2025
18 فبراير 2025
23 يونيو 2022
الفتاة في منزل جوته
مررت أسفل لافتة مكتوب عليها "عقار جوته العائلي" وينتابني إحساس غريب بعدم الارتياح ، الممر محاط بتماثيل مجهولة الوجه ، تتآكل ملامحها بفعل الرياح والأمطار ، والطريق إلى يميني يؤدي إلى أسفل التل، مروراً بصفوف من شواهد القبور متشابهة ، لينتهي عند الدير القديم، بينما يقف أمامي منزل جوته مانور.
تصنيف :
قصص وروايات
24 سبتمبر 2019
اليحموم : كائن البئر الملعون
مع انفلاق خيوط الفجر الكاذب خرج كعادته منذ 17 عاماً، يحمل فانوساً يضيء به عتمة الليل في طريقه إلى المسجد ليرفع أذان الفجر، وحين وصل الرجل الخمسيني إلى عتبة المسجد وقبل أن يفتح الباب سمع أنيناً في وسط الظلمة يأتي من مكان ما، بالقرب منه، توجه إلى مصدر الصوت، وهناك وجد طفلاً ملفوفاً في قماش أبيض قد لطخته بقع الدماء، أنه حديث الولادة، ربما ولد في ساعات الليل المتأخرة، ولا بد أنه أمه قد تخلت عنه، هذا ما اعتقده المؤذن.
تصنيف :
قصص وروايات
28 يوليو 2013
لسنا إلا عابرين
تأملها طويلاً، بثوبها البسيط الممزوج بأوراق خضر متطايرة على مساحته السوداء، الممتد حتى كاحلي قدميها، يتوسطه خيط من نسيج ثوب آخر؛ يلم خصرها، تعتليه زركشة جميلة، توحي أن الثوب قد خاطته امرأة لم تسمع يوماً بنظرية الألوان المتضادة، أخذت مقاسها من مقاس أثواب بنات جيلها، ولم يعنها كيف ستبدو بثوب منساق مع تفصيلات جسدها، لا محض ثوب يكسوها بألوان براقة.
(نسمة) ابنة الربيع الحادي والعشرين، تسكن قرب الشاطئ، في قرية محاذية لطريق بري، ما بين المدينة والعاصمة.
لم يكن العطب الذي حدث في محرك سيارته هو ما دعاه للوقوف طويلاً، أمام تلك العفوية البرية، والأنوثة الصاخبة. عينان مكتحلتان بأثمد لم تتنازلا عنه، مصحوبتان بنظرة خجلة. شفتاها شاحبتان، بدتا كأرض مالحة، كانت بحيرة ذات يوم فمر بها جفاف، لم يخلف وراءه إلا أرضاً امتصت من شقوقها ملوحة الماء. تربكها خصلات شعرها المضفور، التي تطايرت من تحت الملاءة المنسدلة، مع نسمة هواء رطبة، هبت بين وقت وآخر. تجلس على قمة صخرة، تدلي رجلها لتلامس سطح جرف النهر، وتحرك الماء بأصابعها، حين يتدفق بنشوة نحو رجلها البضة.
(فريد) في حيرة من أمره، هل يصارحها ؟ أم يسألها ؟ أم يباغتها في لمحةً ضوئية ؟ تقدم خطوة من الجرأة وخطوة من الخوف والوجل، اقترب منها عن بعد، وحياها عن صمت. استدارت في لمحة، ملأت جرارها في لمحة، غسلت طرف ثوبها في لمحة، تحايلت مع ضفائرها في لمحة، مشت مدبرة ومشى مقبلاً على الطريق.
كان اليوم الأول الذي جمع فيه لمحات (نسمة) في براويز، متسلسلة على فسحات الجدران البيض. لم تكن إلا هي هناك، ملأت الرواق بفوضى لمحاتها التي نفدت منه في أسبوع، إلا تلك اللمحة التي تعمّد الاحتفاظ بها. لشدة إلهامه بعمق النظرة، كان يحرص عليها من الخدوش، وما قد تؤول إليه ظروف النقل، ما بين المعرض وغرفة كانت أشبه بمخزن للصور، لقد باتت أيقونة معارضه الشخصية، وموديل أحلامه، حلمه الذي أعاده متداعياً إلى ذلك الجرف وتلك النسمات، بحثاً عن نسمته، انتظر طويلاً وكثيراً من الصبر.
سأل نفسه؛ "
هل أسأل عنها وكيف؟ أهل الريف لا يستسيغون السؤال عن نسائهم من رجل أجنبي مثلي، وما من حيلة تنطوي عليهم، لا أعرف مكانها ولا أين هي، وكيف لي أن أوصل لها إحساسي بها في لمحة ضوئية، اقتنصتها منها ذات غفلة
".
عاد بخطواته البطيئة وآماله الكبيرة في أن يحصل على شيء يدله عليها، بحجة كاذبة واهية، كيف له أن يتخلص من هواجسه، كلما وقف أمام برواز صورتها وسحر نظرتها ولذعة حركتها. شيء ما، سر ما يحركه، ليعود مرة أخرى وأخرى، عسى أن تفرغ جرارها، أن يتلطخ ثوبها، أن تسوقها رجلها البضة من جديد إلى الصخرة، لتداعب الماء.
تلك الملاءة تنساب ببطء بين الشجيرات، يعدو مسرعاً هلعاً، يتعثر قلبه قبل قدميه، تخفق شفتيه في أن تناديها باسم ليس اسمها، يكاد يصل على بعد المسافة التي تفصله عنها، تتلفت إليه... من خيبة ظنه يخونه الكلام، يتلعثم :
-
كنت هنا ذات قدر، جاء بي يوماً مصادفة، أضعت شيئاً مني وأنا أبحث عنه الآن.
تجيبه هي، وليست هي :
-
وهل أساعدك لتجد ما أضعت؟ ولكن استبعد أن تجد ضالتك، عادة ما نضيعه هنا لا نجده مجدداً. انسَ ما أضعت ولا تهلك نفسك في البحث.
بنفس طويل وخيبة يرد:
-
أظن ذلك سيدتي.
تمشي، تبتعد عنه مسافة بضعة أقدام. يعيد التفكير، يحاور نفسه وهو مرتبك الحواس؛ "ربما لو سألتها عن تلك النسمة، ربما لو تحججت بأنها كانت هنا يوم أضعت قلبي، وجمدت حياتي في تلك اللمحات.
عاد اليها يناديها من بعيد:
-
سيدتي... هل لي بسؤال ؟
تجيب ضاحكة بنظرة متعجبة:
-
سيدتي؟! ما سمعتها من قبل، عادة تطلق على الأسياد، لا علينا. هات سؤالك أيها العابر.
-
يوم كنت هنا وأضعت أشيائي، كانت هناك على الجرف امرأة، تجلس على تلك الصخرة، كانت تبلل ضفائرها، تغسل طرف ثوبها... لربما هي وجدتها بعدي.
ترد باستغراب :
-
عادة لا تجلس النساء هنا ليبللن أشيائهن على مرأى من الجميع، فقريتنا صغيرة، ونساؤنا يجلسن في عصبة دوماً ! ولكن صفها لي، برغم أننا لا نملك أوصافاً ثابتة.
تأمل في صمت ووصف :
-
هي...
سمراء من لحم ودم
مشقوقة الفم
ارتشفت من عطرها أنفاسي
ارتشفت من ثغرها خمري
إن أقبلت، ناعمة
وإن أدبرت لينة...
بدا في غفلة أخذته بعيداً، نظرت إليه متعجبة، قالت:
-
أيها الغريب ما بالك؟ قلت لك صفها لي لعلي أعرفها لأساعدك.
أجاب وهو منهك القوى بائس الطلة :
-
لا أذكر وصفاً لها، سوى ثوبها الممزوج بالأوراق المتطايرة الخضر على ساحته السوداء، وملاءتها التي تشبه لون ملاءتك. لعله السبب في المجيء صوبك، ظننتك هي.
عاد أدراجه يائس المظهر، قاطع الأمل، حزين الملامح، كئيب الوجه. يحاور نفسه كمجنون أضاع عقله على الجنادل، بمحاذاة الجرف؛ "
ما زلت أحس لها شذى... ما زلت أحس لها أثراً
".
فتح الباب بهدوء، أنار عتمة المكان، وبالهدوء ذاته أغلق الباب. في الغرفة المجاورة لغرفته، اتجه صوب لوحته، تلمسها، مرر أصابعه بمحاذاة شفتيها، طار مع الخصل المنفلتة من ضفائرها، لملم ملاءتها، مسح ما سال من كحلها الأثمد على وجنتيها؛ بشيء من الاشتياق، وعلى أمل اللقاء بها... نام ليلته. مضطجعاً على سرير يتقاسمه وزوجته، حتى صباح آخر، ليوم آخر من الحيرة والصمت.
سألته بجمود ورتابة، على طاولة الفطور، وهي ترشف القهوة :
-
ما بالك منهار القوى كئيباً؟!
-
لا شيء مهم، هي زحمة العمل فحسب. وزيف المجاملات لرواد المعرض، فمنذ أسبوع وأنا أتجمل وأتبسم. اليوم فقط أريد أن أكون على طبيعتي.
رن هاتفه، رد بصوت أجش:
-
أهلا عزيزي، هل من جديد؟... انتظرني إذن.
أنهى اتصاله، خرج من بيته إثر قبلة طبعها على جبين زوجته. هكذا تتحول القبل، بالصعود من الشفاه حتى الجبين، مع كل عيد زواج، تكون المودة أوضح من الحب.
ما إن وصل ستوديو صديقه (حسان)، حتى استقبله بحرارة، لنجاح معرضه والقصة التي قدمها من خلال الصور لـ(نسمة). ألح عليه بأن يبيعه آخر صورة بقيت من الصور:
-
سأضاعف لك المبلغ، أنها لقطة ساحرة أحب أن اقتنيها.
رد عليه بعناد وضجر:
-
كيف لي أن أبيع أحدى نسائي، فهذه الصورة اعتبرها امرأتي التي أبحث عنها، هي ما تبقى لي من الصور، تعمدت أن أبقيها لأهديها لصاحبتها، لعلها تعيد لي ما سلبته مني لحظتها.
أمسك بكتفه وهمس له :
-
لا تظن نفسك قد أحببت هذه الصورة أو صاحبتها يا صديقي، أنت تتوهم الحب، تتوهم الجنون بها، ليس إلا موضع الجمود في حركة الصورة، والإحساس المفعم بالحياة، وعفوية هذه الفتاة هو من ألهمك. لو التقيت بها عن كثب، فلن تحبها كما هي هنا في هذا الموضع.
رد عليه دون قناعة:
-
ربما.
-
حتماً.
تتأجج الرغبة في داخله يسوقه الفضول ليعرف، لربما صدق قول صديقه حسان، لو عرفها عن كثب لعاد قلبه إلى رشده.
بعد رحلة قصيرة في السيارة وقف على قارعة الطريق في ذات المكان، حين عطب المحرك أول مرة لمح بها نسمة. ها هو ذات العطب يعود دون مبرر! برغم أنه قد دقق في محرك السيارة، خصوصاً هذا العطب. لم يكن أمامه إلا راعياً للغنم، يرعى عن بعد أقدام منه.
اتصل بصديقه ليساعده بإحضار مصلح أو شاحنة تنقذ سيارته. فكر في نفسه أن يمضي إلى الراعي ويجالسه قليلاً، ثم يقنعه ببعض الصور التي تعوّد أن يلتقطها حيثما ذهب. كاميرته لا تفارقه طوال الوقت، هو يعشقها ذات العشق الذي عشق به نسمة، التي لم يحاورها ولم يسمع لها صوت. لم يعرف إلا تلك اللحظات المسروقة التي التقطتها الكاميرا، ليجمعها في معرض (بنت الريف)، وما تحمله من جمال فطري. حتى اسمها كان من اختراعه، إذ لم يجد أجمل من نسمة داعبتها حين فضحت حسنها، في هبة أسدلت ملاءتها، وأدلت قلبه حينها.
مع صوت منبه سيارة حسان، انقطع عن آخر لقطة التقطها بين قطيع الأغنام، وهي ترتوي على جرف النهر. نهض بهدوء كعادته، يمشي خطواته بالهدوء ذاته، حتى وصل السيارة. مضى عامل الصيانة يدققها من كل صوب، لم يجد مبرراً لذلك العطب الذي أصلحه في دقائق، متعجباً من بساطته كيف يوقف محرك سيارة؟! فضّل أن يكون في سيارة حسان، وترك لعامل الصيانة سيارته ليلحقه بها، أراد أن يعيش لحظة استرخاء دون قيادة، مقلباً الصور التي التقطها في برهة من الزمن للراعي وأغنامه.
قلب اللقطات بدقة، حين وصلا الستوديو، بحث عن الجودة في الاختيار، دفع الفضول حسان في أن ينظر في الصور؛ ليستعرض ما اقتنصته العدسة أثناء عطل السيارة. مر حسان على الصور دون أن يعلق، وقف عند واحدة برهة مدققاً، باستغراب قال:
-
فريد... كيف استطعت أن تلتقطها بهذه السرعة؟
-
أية واحدة؟
-
تلك التي فيها ملهمتك تبتسم لك، ترتشف الماء بيدها مع أحد الخراف، الجميل أن الخروف مطمئن إلى حد كبير!
رد باستغراب :
-
أية ملهمة، يبدو ان الصور تختلط عليك. لم يكن هناك من أحد سوانا أنا والراعي وبعض النعاج.
-
يا رجل تعال مكاني وأنظر، يبدو أنك تنسى المواضع التي مرت بها عدستك من شدة انغماسك وقتها.
لم تكن سوى الدهشة ما عقدت لسانه! كيف؟ ومتى؟ وأين كان منها إذاً؟ ما الذي جاء بها هنا؟!
من جديد تباغته بنظراتها، دخلت متسللة إلى فوهة العدسة، دخلت عقله، استحوذت على عينه الثالثة ثم اخترقت الأولى بلمحة، لم يحس بوجدها، كيف تفر منه ساعتها؟ كيف يلتفت ولا يراها؟ أين سلت نفسها؟ منذ شهور وهو يبحث عنها، وفي لحظة يأس وبدون عناء جاءته! لم يكن له إلا أن ينتظر فلق الفجر حتى يعود إلى ذات المكان ملهوفاً، باحثاً مبعثر الهندام، منتفخ العينين، بدا عليه تعب ليلة قضاها متقلباً في فراش الدهشة والشوق.
-
ما الذي جاء بي هنا؟ وما حل بي؟ هل هي صورة سرقتني؟ أم هو شيء أكبر من لحظة ضوئية؟ شارد الذهن مسروق القلب متسللاً كاللصوص؟ لست أنا الذي هنا، لست أنا الذي معي، هجرت مضجعي، سلت روحي، ربما فيّ ضرب من الجنون أصابتني به يوم استوقفني ذاك العطب الملعون، نزلت لأبرد نفسي، وما وعيت أنني رحت لاشتعل من بردي.
ليست إلا نسمات الصباح الباكر، مصحوبة برائحة شجيرات (الطرفة)، وصوت حفيفها المتناغم مع صوت انسياب ماء النهر، معزوفة لحنتها الطبيعة. لم يدرك الساعات الباكرة التي صاحبته إلى هنا، كان وقت الشروق قد حان بعد الفجر والسحر. جلس على الصخرة، شهق نفساً طويلاً، يتنهد، خلخل بأصابعه خصلات شعره المسحوبة إلى الخلف، أغمض عينيه ليفتحها على صوت تسلل من خلفه.
-
أ هذا أنت؟
التفت وراءه، رد بعد صمت قصير:
-
جئت في وقتك، وفـّرت عليّ عناء البحث عنك.
-
ماذا جاء بك هنا في هذا الوقت الباكر؟ وما الذي تريده مني؟ عساه خيراً يا رجل؟
-
لم أعد أعرف أين الخير من كل هذا الشر.
يجيبه الراعي متعجباً:
-
أي شر تتحدث عنه؟
-
شر قدر تلك الليلة التي جاءت بي إلى هنا، ليحدث ذلك العطب في سيارتي، فتقف على قارعة الطريق، وأنزل إلى الجرف هنا... صادفني شيء ما، سرق مني خيري كله، ولم يترك لي سوى صمتي وشرودي. أحياناً نترك أشياء دفينة في طي الكتمان عمراً من الزمن، فتأتي لحظة توقظ كل ما دفناه، وما ادعينا نسيانه. أشياء تولد معنا بالفطرة، نواريها، نجعلها أولى خطايانا وأول حب نستسلم له هو أولى خطيئة نرتكبها... هنا ارتكبت خطيئتي. كنت ذلك التقي الذي لا يخطئ في حب، ولا يحمل إثم شوق لحبيب. اليوم أنا المذنب الأول، امتلأ ميزاني بالسيئات، جئت هنا لأكفر ذنوبي وأحاول أن استعيد تلك التقوى، أجلس هنا لأرجم شيطاناً وسوس لي، لأعشق ملاك.
ناداه الراعي كمن ينادي أغناماً شردت عن سرب القطيع.
-
هيّه يا رجل، ما بالك صامت شارد؟ سألتك عن الشر الذي تحدثت عنه، هل تجيب الناس بالصمت والشرود؟ هل أكلت عقلك جنية النهر؟
أجابه متبسماً بمزحة:
-
ربما الجنية التي تحدثت عنها، هي كل شري، وربما هي اللص الذي أبحث عنه.
-
أنا لا أمزح معك يا سيد، لا يهمك مظهري وملابسي الرثة، فأنا خبرت هذا المكان، أعرف عن أسراره الكثير، أكثر من أهله.
-
وتلك الجنية؟
-
هي... لا ليست بلصة كما تظن. ربما تسرق، ولكن أشياء لا تخطر على بال لص آخر، أخبرني ما هو نوع السرقة التي تعرضت لها؟
أجابه بشيء من الحيرة والتردد:
-
ربما أخبرك.
-
ولم تضع تلك الاحتمالات؟
-
أنا غريب عنكم، وخبرت طباعكم.
-
ومن قال لك أنني منهم؟
رد عليه بشيء من اليأس مصحوباً بتعب:
-
كلنا غرباء لسنا إلا عابرين.
نهض مقبلاً إلى الطريق العام، فتح باب سيارته، نادى عليه الراعي من بعيد، وهو يومئ له لينتظره، وصله ووقف عند الطرف الثاني من السيارة، أمسك بيديه زجاج السيارة.
-
قلت إنك تريدني وفي نيتك البحث عني؟
-
ربما في ما بعد ليس الآن.
-
ستعود حتماً.
-
وما هذه الثقة التي تحتم عودتي إليك، أنا قلت ربما، وهو شيء محتمل ليس حتمياً!
-
ستعود، وإن لم تجدني هنا ابحث عني، فأنا قريب دوماً من هنا.
ما إن مشى مسافة حتى عاد أدراجه متردداً في سؤال ذلك الراعي عن مكان نسمة، قدم لنفسه اقتراحات ومبررات عن سبب أسئلته. كان الراعي منصتاً إلى تلعثمه ومبرراته التي فهم منها الكثير، لم يرد عليه إلا ببعض الكلمات التي اختصر بها كل أسئلته:
-
كل شيء سيزول، وربما هو زائل، ولكن لن تحس به أو تدركه حتى ينتهي.
لم يفهم شيئاً من كلام الراعي، حينها أدبر عنه وسلك طريق آخر مبتعداً شيئاً فشيئاً، حتى تلاشى هو وأغنامه.
بين الحين والآخر يعود به الحنين إلى تلك القرية، وعلى جرفها، حتى بدأ رويداً رويداً يتغلغل في القرية، يأخذ بعض الصور من هنا وهناك. ما كان يطمئنه ويثير العجب فيه، أن أهل القرية لم يقتربوا منه، لم يسألوه في شيء، وكأنه لم يمر بهم، ثمة رجل عجوز، كلما مر من أمامه؛ تراوده فكرة الحديث إليه. جلس بقربه، بعد أن ألقى عليه السلام:
-
مرحباً يا عم.
رد عليه العجوز بعد أن رفع رأسه قليلاً، ليمعن فيه النظر:
-
طبت أهلا .ً
-
في خاطري أن أسألك عن أحوالكم هنا، فأنا أجوب المكان منذ مدة ليست بالقريبة، ولم يصادفني أن يسألني أحد منكم من أكون أو ماذا أفعل؟ التقط الصور أينما أريد، أتجول كسائح عرف أهل القرية بمروره مسبقاً.
شهق العجوز نفساً من غيلونه، نفث الدخان، لفت رأسه إلى فريد:
-
وهل بدا منك شيء سيء يثير الفزع فينا، منذ دخلت وأنت بسلام معنا. لم يبدر منك إلا الطيب يا رجل. ولكن هل وجدت تلك الفتاة التي كنت تبحث عنها؟
أجابه بدهشة:
-
وكيف عرفت بأمري؟
-
ليس المهم كيف عرفت، المهم هل عثرت عليها؟
-
لا لم أعثر عليها بعد، لكنني أشم عبق عطرها هنا في كل مكان، سحرتني هي، جعلتني أحب المكان كما أحببتها.
كان ينظر إليه بشيء من الخوف، وهو يسأل نفسه كيف أخذني الكلام، وأخبرته بما لم يجب أن أخبره به. ماذا سيصنع بي، وأنا أتحدث عن نسائهم بهذا الفضول!
أجابه الشيخ بهدوء:
-
لا تخف يا بني، ليس هناك من إثم ارتكبته، ولكن الإثم أن تحب وتعشق من لا تعرفه.
رد فريد بدهشة :
-
وكيف عرفت ما في خاطري من قلق وخوف؟
-
هو ما وجسته منك.
-
هل تعرف شيئاً عنها؟
-
ربما خبرت عنها شيئاً ما، إنها في الحادية والعشرين، تملأ جرارها من الجرف بين الفنية والأخرى، تمر من هنا وقد لا تمر اليوم، أظنها تركت المكان، وسافرت إلى ارض أخرى، وربما أيضاً سنلحق بها قريباً.
-
وهل ستعود يوما ما؟
-
ربما... فهذا أمر ليس بالبعيد، والمسافات التي تقطعها أنت بالليل والنهار، تقطعها هي بلمحة برقية.
قالها مبتسماً... قام من مقامه، مشى وترك فريد بصمت وذهول، عائداً من حيث أتى، فاقد أمل عودتها، مندهشاً من الشيخ وما حدثه به.
مرت بعض الشهور على فريد، وهو منغمس في عمله لترتيب تلك الصور التي أخذها للقرية؛ ليقدمها في معرضه القادم. ما إن بدء يعلقها على جدران الرواق، حتى بدت دهشة حسان أكثر بسحر الصور.
-
برغم بساطة تلك القرية وبيوتها العتيقة، إلا أنك أضفت سحراً من عدستك إليها يا فريد.
أجابه وهو يمز دخاناً من سيجارته ويلقيها على البلاط ليدهسها تحت قدمه، ويطفئ جمرتها، كأنه يطفئ غضباً اشتعل فيه:
-
بل هو سحر المكان، نحن تعودنا العمران والزهو، ونسينا الريف والبساطة، حتى بدت لك سحراً. كل ما نفتقده سحر لنا.
امتلأ المعرض بالرواد، من الفنانين والذواقة، كانت جولة نجاح لفريد لم تسبق أن حدثت له، إلا بعد تجربته في معرض صور نسمة، كانت صورتها في مقدمة الصور منفردة، تكبر الصور حجماً واهتماماً.
أمسية وعشاء جمعته بأصدقائه المصورين، حتى دخل برهانٍ معهم، أن يتحدى من يلتقط صوراً لتلك القرية أكثر منه دقةً. لقد قضى شهوراً بين بيوتها وأزقتها وأطفالها وشبابها، وحادثَ شيخاً يبتسم له، كلما التفت ليراه، وما أن يدير ظهره حتى يتوارى عنه كطيف.
كانت ساعات الفجر الأولى هي ساعة جمعت شمل كل من راهن فريد، على أن يكون أكثر اتقاناً منه. كانت سيارة فريد في مقدمة الركب، كي يدل على مكان القرية. أخذه الحديث مع بعض الأصدقاء، حتى عبر الطريق وأخذ وقتاً أكثر دون أن يتنبه إلى انه قد تخطى المنطقة المقصودة. عاد عدة مرات بحثاً عن العلامة، كانت في أول الطريق، نزل يتفحص المكان، وجد العلامة ملقاة على الأرض، مهملة وكأن سنين مرت عليها وهي مدفونة تحت كومة تراب، لم يظهر منها إلا الرقم (60).
مد يديه إلى حافة القطعة حاملاً إياها من تحت كومة تراب متصلبة، وقد مر عليها وقت طويل متوارية تحت تلك الكومة. ملفتاً النظر إلى جدول ماء منساب في قعر وادٍ صغير، محاط بقصب بري يابس ضئيل، متوارٍ بين كثبان التراب. ما من حياة في تلك المنطقة التي تشبه مربعاً ضحلاً، ليس فيه ما يشرح النفس، ليس هناك إلا ما يغمها ويزيدها انقباضاً. بدا الغضب على وجوه بعض أصدقائه، والعتب على البعض الآخر، منهم من راح يلومه على قلة ذوقه وأنانيته في أن لا يدلهم على تلك القرية، حتى يتجنب أن يباريه أحد، ليبقى هو في الصدارة من حيث الاختيار والتقاط صور أكثر تميزاً من دونهم. اكتفى حسان أن يلقي اللوم على الذاكرة التي خانت صديق عمره فريد، وأضاعته عن المسار. لم يكن يستوعب فكرة الأنانية التي قذفوا بها فريد، إذ خبر حسان طباع فريد وهو أقرب إليه منهم.
تركوه وركبوا سياراتهم متجهين إلى طريق العودة، يصحبهم الغضب والعتب على فريد. ما من أحد سامح فريد سوى حسان، ربت على كتفه واستمع إليه والحيرة تصاحب كلماته:
-
إما أنني أضعت المكان أو أنني أضعت عقلي! أ يعقل أن تمسح قرية عن بكرة أبيها في غضون شهر؟
-
وهل أنت متأكد من موقع القرية في هذا المكان؟
-
بكل ما أوتيت من يقين وثقة، إنها هنا، وهذه القطعة العتيقة التي أكل الدهر عليها وشرب، وكأنها وجدت تحت التراب منغرزة عمداً، تناديني لتدلني وتؤكد لي الموقع.
-
وما حكاية هذا الرقم (60)؟ هو ما تبقى من القطعة، والبقية متآكلة من الصدأ.
-
هذا الرقم كان يوقفني هنا كثيراً، لا أعرف شيئاً عنه، أو مكملاً له، سوى كلمة كانت ترافقه لتكمل الجملة هي (المربع/ 60)!
-
أ لم تسأل عنه يوماً لتفسر هذه الجملة؟
-
لا... لكنني في موقف يدعوني لأسئله كثيرة.
-
إذن ما من شيء أمامنا إلا السؤال عنها.
كان مسرعاً على غير عادته، هلعاً يزيد من ضغطه على دواسة الوقود، ليزيد سرعة السيارة. يلحق به حسان محاولاً أن يجد بعض المبررات لفريد، ليحافظ على هدوئه، حتى وصل إلى مبني البلدية. بعد دخوله راح يسأل عن الأقسام التي تعنى بالتقسيم والخرائط، وترتيب القطع. على الرغم من بحثه الطويل بين الخرائط التي تعود للمناطق المحاذية للمدينة، لم يجد شيء ما يخص تلك القرية، لم تكن على الخارطة التي احتوت تفاصيل دقيقة عن المدينة، وما يعود لها. جلس على الكرسي المقابل لمدير القسم، منهك القوى قاطع الأمل، حتى جاءه أحد موظفي القسم، وطلب منه أن يوضح له ما يحتاج من تلك الخرائط.
شرح له بشكل مختصر أنه مر بقرية ما، قريبة من المدينة، وهو يبحث عنها لأنها نقطة دالة لأمر يهمه، واليوم لا يجد منها ألا تلك القطعة المعدنية التي تشير إلى (المربع/ 60) ولم يفهم من تلك القطعة إلى أي شيء هي تدل. إتجه الموظف إلى حاسوب يخزن فيه الملفات والخرائط، وبعد أن وجد شيء ما يخص المربع، راح يشرح له بهدوء وبطريقة مقنعة:
-
كل ما عرفته عن تلك المنطقة أنها حقل مغناطيسي، والقطعة المثبتة دلالة على موقع ورقم الحقل (المربع/ 60)، إذ أن المنطقة فيها حقول متسلسلة، وهذا الحقل أقرب حقل على الطريق العام.
نظر فريد إلى الموظف، زم شفتيه، قال متأسفاً:
-
أ و كنت في حقل من مغناطيس؟ أم كنت في وهم الحب؟ وهل تجذبنا تلك الحقول، أم نحن من ينجذب إليها؟
خرج فريد يقهقه مع نفسه، قابله حسان يلهث وهو مسرع صوبه خائفاً قلقاً. مر فريد قرب حسان ولم يشعر بوجوده، ركب سيارته وهو يقهقه ضاحكاً، أمسك حسان بمقبض باب سيارة فريد، محاولاً إيقافه ليفهم ما يحدث، لم يشفِ غليله سوى بكلمة ألقى بها على حسان، قبل أن ينطلق بسيارته:
-
لا تتعجب يا صديقي... لسنا إلا عابرين.
تأليف : رقية أبو الكريم
من أعمال رقية أبو الكرم
تصنيف :
قصص وروايات
30 مايو 2013
شبح الأوبرا
رواية للكاتب الفرنسي (غاستون ليروكس) حملت عنوان " شبح الأوبرا" Le Fantôme de l'Opéra ، ونشرت لأول مرة على شكل سلسلة في عام 1909 ، وأدى نجاحها الكبير إلى إنتاج أفلام مستوحاة منها ، يقول الكاتب (غاستون ليروكس) أن شخصية (إريك) المشار إليه بـ "شبح الاوبرا" هي في الواقع شخصية فعلية .
في البداية يقدم لنا الكاتب " كريستين داييه " التي كان أبوها عازف كمان ويجوب أنحاء أوروبا ليعزف الموسيقى التراثية والدينية، وحينما تكون كريستين في السادسة من عمرها تموت أمها ، ومن ثم ينتقل أبوها إلى أرياف فرنسا ليكون مع مديره البروفسور (فاليريوس).
خلال طفولة كريستين يروي لها أبوها قصص عديدة عن "ملاك الموسيقى" الذي هو تجسيد للوحي الموسيقي ، وتقابل كريستين الشاب (راؤول) وهو أحد النبلاء وصديق طفولتها، وتكون قصتهما المفضلة هي قصة لوتيه الصغيرة التي يزورها ملاك الموسيقى ويستحوذ على صوتها السماوي.
يموت والد كريستين فتعيش مع السيدة فاليريوس التي تعتبرها بمثابة أمها وهي أرملة السيد (فاليريوس) الذي كان يساعد أبيها بالمال ، وتتمكن كريستين في النهاية من الحصول على مكان لها في جوقة أوبرا باريس Palais Garnier ، وتبدأ هناك بسماع صوت غريب يغني لها ويحادثها ، فتعتقد أنه لا بد أن يكون هو "ملاك الموسيقى" وتسأله إن كان هو ، ويأتيها رده بالموافقة ، ومن ثم يعرض عليها أن يعلمها " شيئاًُ عن موسيقى السماء"، والصوت هو صوت (إريك) عبقري الموسيقى لكنه مشوه الوجه ومضطرب نفسياً وكان أحد المهندسين المعماريين الذين ساهموا في بناء دارالأوبرا ، فيقع في حب (كريستين)، وقد درج على إبتزاز المال من إدارة الأوبرا لسنين عدة وأصبح يعرف أيضاً بـ "شبح الأوبرا" بين المقيمين فيها.
تبدع كريستين صادحة في ليلة حفل تقاعد مدير الأوبرا وذلك خلال غياب المغنية الأولى (كارلوتا)التي كانت مريضة ، فيسمعها صديق طفولتها (راؤول) ويتذكر حبه لها، ومن ثم يسمع "ملاك الموسيقى" يتحدث معها.
وبعد فترة تقيم أوبرا باريس مسرحية "فاوست" وتكون (كارلوتا) السيدة الأولى فيها لكن هذا كان ضد رغبة (إريك) ، ورداً على رفضهم لإبقاء الحجرة رقم 5 شاغرة له لـ "شبح الأوبرا" يجعل (كارلوتا) تخسر صوتها وتنهار الثريا الضخمة المعلقة على الجمهور.
بعد حادثة سقوط الثريا يقوم (إريك)باختطاف (كريستين) إلى منزله الكائن في الأقبية تحت أرض دار الأوبرا وهناك يكشف لها عن هويته الحقيقية ، وكانت خطته أن يبقيها معه لعدة أيام فقط ، آملاً أن تعود إليه حباً بعد ذلك ، وتجد (كريستين) نفسها متعلقة بخاطفها ، لكنها تجعله يغير من خطته حينما تقوم برفع القناع الذي يغطي به وجهه المشوه الي يوصف بأنه كـ "جثة متعفنة" ، فيصاب الإثنان بالصدمة ، ويغطي (إريك) وجهه بسرعة ويصاب بجنون ويصرخ ، ويخشى أن تتركه كريستين ، فيقرر إبقاءها معه إلى الأبد ، لكن بعد أسبوعين وحينما تطلب منه كريستين فك أسرها يوافق لكن بشرط وهو أن تبقى تلبس خاتمه بإصبعها وتحافظ على إخلاصها له.
وفوق قبة الأوبرا تخبر (كريستين) صديقها (راؤول) عن (إريك) الذي أخذها إلى الأقبية ، فيعدها (راؤول) بأن يبعدها عنه فلا يعرف (إريك ) مكانها حتى لو قاومت ذلك ، وتوافق (كريستين) ، كما يخبرها (راؤول) بضرورة الإلتزام بكل ما يضمن تنفيذ وعده لها في اليوم التالي ، إلا أن (كريستين) تشفق على (إريك) فتقرر الذهاب إليه لتغني له للمرة الأخيرة ومن ثم تفارقه ، ثم تدرك كريستين أن الخاتم انزلق من إصبعها وسقط في الأزقة في مكان ما فتصبح مذعورة ، ويغادر الإثنان من غير أن يعلما بأن (إريك) كان يستمع إلى حديثهما ، فيشعر (إريك) بجرح كبير ، ويقوده جنون الغيرة إلى إرهاب أي شخص يقف في طريقه أو في طريق نجاح مشوار غناء كريستين بمن فيهم القائمون على الأوبرا واستمر ذلك لأسبوع.
وفي الليلة التالية ، يقوم (أريك) باختطاف (كريستين) خلال عرض مسرحية "فاوست" وذلك بعد أن يقوم بنثر الغاز المخدر على العاملين في الكواليس وإطفاء الأنوار في المسرح ويكون انتهى من اختطافها قبل أن تعود الأضواء .
وبالعودة إلى الأقبية ، يجبر (أريك) كريستين على الزواج منه ، ويهددها في حال رفضها بتدمير دار الأوبرا بأكمله مستخدماً متفجرات يزرعها في الأقبية ليقتل كل شخص يقف على أرض المسرح في الأعلى ، لكن (كريستين) تستمر بالرفض إلى أن تدرك أن (راؤول) وشخص يلقب بـ "الفارسي" وهو من معارف (أريك ) القدامى أتيا لإنقاذها فوقعا في حجرة (إريك) للتعذيب.
ومن أجل إنقاذهم وإنقاذ الناس في الأعلى توافق (كريستين) على الزواج من (إريك)، في البداية يحاول (إريك) إغراق (راؤول) و(الفارسي) في المياه المستخدمة لغمر المتفجرات مبرراً ذلك بأنها لا تحتاج إلى آخر ، لكن (كريستين) تتوسل إلى (إريك) وتطلب منه أن تكون "زوجته الحية " ووعدته بأنها لن تنهي حياتها بعد أن تصبح عروسه ، فيقوم (إريك) بإنقاذ الفارسي و (راؤول) من حجرة التعذيب.
وعندما ينفرد (إريك) بـ (كريستين) يرفع عنه قناعه قليلاً لكي يقبلها على جبينها ، وتسمح له (كريستين) بذلك ، ثم تطغى المشاعر الجياشة على قلب (إريك) ويعترف لـ (كريستين) بأمر وهو أنه لم يتلقى أي قبلة من أي أحد في حياته كما لم يسمح له بتقيبل أحد ، حتى أمه . ثم ترد عليه (كريستين) بقبلة ، ثم يدع (كريستين) تذهب ويخبرها : "
اذهبي وتزوجي من الصبي ، ولا داعي لأن تشرحي ، أعلم أنك تعشقينه
" ، ثم تغادر (كريستين) بشرط أنه حينما يموت (إريك) فإنها ستعود إليه لتدفنه.
ولكونه من معارفه القدامى يعلم الفارسي كل أسرار (إريك) التي باح إليه بها بنفسه، وبناء على طلب صريح من (إريك) يعلن الفارسي عن موت (إريك) في صحيفة الأخبار بعد مضي 3 أسابيع ، وفي أسباب الوفاة تكتب الصحيفة " قلب جريح "، ثم تعود (كريستين) لتدفن (إريك) وتعيد خاتمه إلى اصبعه.
أعمال فنية
في عام 1986 وضع (تشارلز هارت) كلمات لأغنية من وحي رواية "شبح الاوبرا" وحملت نفس الاسم، ولحن (أندريه لويد ويبر ) موسيقاها الرائعة وأبدع في تقديمها كمسرحية غنائية في دار أوبرا لندن ، وفي أكتوبر من عام 2011 احتفل بالذكرى السنوية الـ 25 على توالي عرضها في مسرح (رويال ألبرت هول) وحضرها العديد من مغنيي الأوبرا الشهيرين أمثال (سارة برايتمان).
في عام 2004 جرى عرض فيلم "شبح الاوبرا" The Phantom of Opera من إخراج (جول شوماخر) وهو يستند إلى رواية (غاستون ليروكس)، ومنه أنتج فيديو كليب نترككم معه :
إقرأ أيضاً ...
- مسارح "مسكونة "
- أشباح مسرح موهوك
- صفقة فاوست : وهب النفس للشيطان
تصنيف :
قصص وروايات
14 أبريل 2013
لماذا تخليت عني ؟
نسائم النيل تداعب وجنتيه، صباحات ندية ترسم بسمة مخملية على محيا وجهه، تناهى إلى مسامعه صوت ضوضاء المركبات، وصوت الباعة في الشارع، نهض من فراشه الدافئ، استرسل الخطى، حتى باب الشرفة الموارب. تدلت خلفه ستائر شيفون بيض، ترفلها نسمات هواء تنساب بهدوء إلى داخل الغرفة.
ظهر من وراء الستائر، بشعرٍ أسودَ داكنٍ، يرتدي بيجامة نوم، أطلّ عبر باب الشرفة، وقف عند حافة الباب، مرّخ ذراعيه، تثاءب، فرد صدره، شهق نفساً عميقاً ثم زفره ببطء، تقدم نحو سياج الشرفة المطلة على نهر النيل؛ ردد بصوته الناعس :
- ما أجمل صباحك أيها النيل.
عاد بخطواته المتباطئة نحو باب غرفته المطلة على الصالة؛ جذبته قهقهات ضحك، وارب الباب ببطء، بدا قلقاً وهو يسترق السمع عبر الباب؛ فتح عينيه على اتساعهما بفرح :
- إنه صوت رضوى !
أغلق باب الغرفة، اتجه صوب خزانة الملابس، بدا مرتبكاً والفرحة على ملامح وجهه، أخرج ثيابه، ألقى بها على السرير؛ بدت عليه البهجة وهو يرتب هندامه أمام المرآة، خلخل أصابعه في خصل شعره، فرّت روحه قبل جسده إلى الصالة؛ حيث تجلس (رضوى) بفستانٍ زهري ذي كـُم طويل، تنفلت على وجهها الخجل خصلٌ من شعرها الأشقر بانسياب، وقد لمته بكماشة شعر زهرية اللون، تنسجم ولون الفستان. دخل مبتسماً بروح مغمورة بالبهجة والفرح :
- صباح الرضى يا رضوى.
ردت عليه بصوت مرتبك :
- صباح البهجة.
قال بلهفة:
- كيف حالك يا رضوى؟
أجابته بذات اللهفة:
- بخير.
دخلت أخته (ليلى)، تسبقها رائحة البن، وفنجانين يتراقصان في صينية تحملها، قالت وعيناها ترقبهما :
- صباح الخير يا أحمد... هل ستخرج من دون فطور، أراك متهيئاً للخروج؟!
متنهداً أجابها:
- لا أبداً... سأتناول فطوري ولن أخرج الآن، لكنني فكرت أن أستبق الوقت، وأجهز لحضور (عبد المقصود)؛ كي نترافق.
استطرد متململاً في وقفته:
- ليلى، هل لي أن أشارككما القهوة والحديث؟
رمقته ليلى بنظرة ماكرة، ابتسمت:
- طبعاً يمكنك ذلك... ما لم تمانع رضوى.
أجابت رضوى ببهجة :
- قطعاً... لا مانع لدي.
جلس أحمد على الأريكة المقابلة لرضوى، سألها وهو يلمح مجموعة شعرية لـ(نزار قباني) في يدها :
- ما هي اهتماماتك الأدبية يا رضوى؟
- في النثر أحب أن أقرأ لـ(نجيب محفوظ)، وفي الشعر أحب أن أقرأ لنزار قباني.
- جميل... نحن نتشارك بذات الاهتمام في النثر والشعر.
قطع وصال حديثهما منبه سيارة انبعث من أسفل المبنى، اقترب أحمد من النافذة؛ دفع بكفه شباك النافذة، فتح دفتي الشباك، اقترب من أيقونة النافذة، أحنى رأسه نحو الأسفل، نظر نحو الشارع حيث استمر منبه مركبة عبد المقصود، ليبيّن لأحمد أنه على عجلة من أمره، أشار أحمد لعبد المقصود بالتأني، أغلق النافذة، اتجه صوب رضوى يستأذنها بأسف :
- أستأذنك يا رضوى.
صاحت به ليلى وهو يتجه صوب الباب :
- لم تفطر!
رد بمرح ومكر وهو يميل برأسه :
- لقد شبعت.
وقف عبد المقصود متكأ على باب سيارته، خرج أحمد من المبنى ضجراً.
- يا أخي أقلل من ضجيجك حين تمر بي، أصبح الجيران على علم بوقت مرورك لتصحبني.
أجابه عبد المقصود ساخراً:
- يا عمي إركب... أحلى ما في هذه الدنيا الضوضاء التي نخلقها حين نمر بمكان ما؛ لنذكر الناس بنا.
انطلقت السيارة بهما، في زحمة الشارع المكتظ بالمارة والمركبات. أسند أحمد رأسه على مسند الرأس، دندنت أغنية مبهجة داخل مسجـِّل المركبة، بدا على عبد المقصود الضجر وهو يقود المركبة وسط زحام مروري، راح يرمق ساعته بين الفنية والأخرى، ويهز رأسه زاماً شفتيه، تنهد:
- مشكلة كل يوم تتكرر... زحام... زحام... مزعج، سنتأخر على المحاضرة الأولى حتماً.
بدا أحمد شارد الذهن، تخيّل لحظات لقائه برضوى، صوتها حاضر في أذنيه: "في النثر نجيب محفوظ... في الشعر نزار قباني..." وقفت المركبة فجأة، عاد إلى وعيه حين قال له عبد المقصود :
- صباح الخير يا صديقي... أين أنت؟ أين سرحت؟
- هل وصلنا؟
- طبعاً وصلنا، وكيف ستعرف أننا وصلنا! وأنت سارح الذهن شارد؟!
شهق أحمد نفساً عميقاً :
- كنت شارداً في حلم جميل... مع قلبي الذي بدأ يخفق.
- أنزل يا أحمد، تأخرنا على المحاضرة الأولى، لنا حديث الليلة عن موضوع قلبك هذا الذي بدأ يخفق... هيا انزل.
نزلا من السيارة وغابا في حشد من الطلبة.
***
قاعة محاضرات كبيرة في مبنى الجامعة، جلس أحمد في مقعد بين حشد من الطلبة؛ أحنى رأسه على أحد الكراريس، مد يده تحت الكراس، سحب كتيباً صغيراً هو مجموعة شعرية لنزار قباني، همس وهو يقرأ عنوان المجموعة (قصائد متوحشة). قلّب الصفحات، وقعت عيناه على قصيدة، قرأها في سره:
(أحبيني.. بلا عقد
وضيعي في خطوط يدي
أحبيني... لأسبوع... لأيام... لساعات
فلست أنا الذي يهتم بالأبد)
تراءت له وهو يقرأ، عينا رضوى ترمقه بنظرة خجلة، أمسك القلم، رسم دائرة حول الكلمات التي قرأها، أغلق الكتيب، دسه أسفل الكراس.
***
أمام إحدى الطاولات، جلس أحمد في الحديقة، ألقى كتبه على الطاولة، اتجه عبد المقصود صوبه، سحب كرسياً ليجلس عليه، نظر إلى أحمد، سأله :
- ما بالك يا أحمد؟ لست على طبيعتك... ثمة خطب يشغل بالك.
- نعم... قلبي مشغول يا عبد المقصود، شغلت قلبي وملأت فكري.
- من هي يا أحمد؟ ما رأيتك تخاطب فتاة في الكلية.
تنهد أحمد :
- هي من كلية أخرى، صديقة أختي، تزور أختي عندنا في البيت.
- جميل.
انثنى عبد المقصود، قام من كرسيه.
- هيا لنذهب الآن، ولتكمل لي حديثك في الطريق أيها العاشق.
لملم أحمد كتبه من الطاولة، مضى خلف عبد المقصود.
***
دخل البيت وقد بدا عليه التعب، مشى ببطء متجهاً إلى غرفته، مر بجانب المطبخ، لفتت أمه انتباهه وهي تعد طبخة، وقف برهة ثم دخل المطبخ، رحبت به.
- أهلاً بك يا بني... كيف حالك ؟
اتجه أحمد صوبها وقف بجانبها، أمسك رأسها، قبـّله، بدا عليه الارتياح.
- كان الله بعونك يا أماه.
- ربي يحفظك من كل مكروه يا بني؛ ويسعدك مع بنت حلال تريح بالك.
- آمين.
- غيّر ملابسك، ريثما أعد لك الغداء.
أمسك أحمد بيد أمه، قبـّلها، انسحب خارجاً من المطبخ. ابتسمت أمه وحاجباها يرتفعان إلى أعلى بتعجّب، رفعت كفيها، دعت :
- يحفظك الله يا بني، ويوفقك في دراستك ويرزقك بنت الحلال.
دخل أحمد غرفته، أغلق الباب، اتجه صوب النافذة، فتحها، هبت نسمة هواء، أخذ نفساً عميقاً، اتجه إلى طاولة قرب النافذة، ألقى كتبه، قلـّبها، سحب الكتيب الصغير، قلب صفحاته، وقعت عيناه على مقطع شعري، ردده في سره :
(أحبيني.. بكل توحش التتر
بكل حرارة الأدغال
كل شراسة المطر...
ولا تبقي ولا تذري...
ولا تتحضري أبداً... فقد سقطت على شفتيك
كل حضارة الحضر... أحبيني)
أغلق الكراس، اتجه صوب شماعة الملابس، فتح أزرار قميصه... سمع أمه تنادي :
- أحمد... ليلى... الغداء جهاز.
خرج أحمد من غرفته يزر القميص، وصل الطاولة، تناول من يد أمه بعض الأطباق، رصها على السفرة، تقدمت ليلى، جلست على الطاولة، تأكل على عجل.
- ماما... سآكل بسرعة، اتفقت ورضوى أن تزورني مبكرة اليوم، ينتظرنا الكثير لنقرأه.
تلكأ أحمد:
- هل ستزورك رضوى اليوم ؟
أومأت ليلى برأسها بينما فاها ممتلئاً بالطعام :
- نعم ستزورني... ربما بعد لحظات... هكذا اتفقنا.
رن جرس الباب، انتفضت ليلى من مكانها:
- ربما هي رضوى.
قامت لتفتح الباب، ألح أحمد عليها لتكمل غداءها.
- أنا سأفتح الباب، ربما ليست رضوى، ليس من اللائق أن تفتحي الباب وفمك ممتلئ بالطعام هكذا... اجلسي عزيزتي.
اتجه صوب الباب ليفتحه، وقف أمام الباب برهة، عدّل هندامه، رتب شعره بأصابعه، شهق نفساً ثم زفر، أغمض عينيه، وضع كفه على قلبه، ثم على مقبض الباب، فتح الباب، ظهرت رضوى خلف الباب، بابتسامة مشرقة :
- مساء الخير يا أحمد.
رد أحمد وقد بدا مرتبكاً:
- مساء النور... أهلاً رضوى.
بنبرة خجلة، قالت رضوى:
- آسفة على الإزعاج، اتفقت مع ليلى لنبدأ اليوم في وقت مبكر، حتى لا أتأخر في العودة إلى البيت، تأخـُري يغضب والدي.
نظر أحمد في عينيها.
- أي إزعاج؟ أنتِ كنسمة تشرين، عليلة تدخل القلب دون استئذان، وبيتنا وقلوبنا تشتاق هبوبك في أي وقت.
لمعت عينا رضوى خجلاً، أخذت نفساً :
- هل ستسمح لي بالدخول من فضلك ؟
- أسف يا رضوى، فرحتي بوجودك أنستني أنك ما زلت عند عتبة الباب.
تنحى جانباً ليفسح المجال لرضوى كي تدخل، مرت بجنبه، شم عطرها بنفس عميق، مضت، أغلق الباب، وقف برهة، اتكأ على الباب، أغمض عينيه، بدا عليه الارتياح والفرح.
دخلت رضوى إلى الصالة، وقفت قرب طاولة الطعام، أشارت ليلى إلى رضوى وهي مستمرة بالأكل:
- تفضلي يا رضوى شاركينا الغداء.
- شكراً يا ليلى... أكلت في البيت.
جلست رضوى على الكرسي المجاور لليلى، ربتت على كتف ليلى:
- كفي يا ليلى عن التهام الطعام وعجلي.
- طيب يا رضوى، فقط لأشبع قليلاً.
- والله... بعد ساعة فقط ستقول "أنا جائعة".
قامت ليلى من مكانها:
- هيا يا بنت قومي، سنشرب الشاي في الغرفة، تعالي ورائي.
سارت رضوى وراء ليلى، اتجهتا صوب غرفة ليلى، جلس أحمد على الأريكة المقابلة للطاولة، لف ساقاً على ساق، أمسك كتاباً بيده، لبس نظارة قراءة، نظر من أعلى إطار النظارة، رمق رضوى وهي تمر، لم يرفع عينيه عنها حتى غابت عنه خلف الباب.
قالت له أمه:
- غداؤك سيبرد يا بني، تعال أكمل غداءك.
رد أحمد على أمه باسماً وقد بدا عليه الارتياح :
- شبعت يا أمي... أحس بالشبع.
***
صوت طرقات على الباب، يقطع على ليلى ورضوى الهدوء الذي صاحبهما وهما منغمستان في القراءة، نادت ليلى بصوت عالٍ:
- أدخل.
انفتح الباب، دخل أحمد، تقدم نحو ليلى ورضوى :
- ليلى اشتهي قهوتك كثيراً، فانتِ بارعة في صنعها. هلا أعددتِ لنا القهوة؟
رمقت ليلى أحمد بنظرة ماكرة:
- طيب... كما تريد. سأعد لك القهوة، لكنها المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها أن قهوتي تعجبك إلى هذا الحد!
غمزت لأحمد بعينها، مضت خارج الغرفة، دنا أحمد من رضوى، سحب كتيباً صغيراً من جيب سرواله، مد يده ليناول الكتيب لرضوى، رفعت رضوى رأسها، نظرت إلى أحمد :
- أ هو لي؟
- نعم... هو لك.
- شكراً.
تتناول الكتيب من يد أحمد، قلبت صفحاته، بفرحة قالت :
- الله يا أحمد، كم أحب هذه المجموعة... شكراً... شكراً لك.
- ثمة بعض الكلمات، علّمت عليها، أرجوكِ اقرئيها جيداً، حتى يغمرك الإحساس بها، كما غمرني.
لمعت عيناها، احمرت خجلاً، ردت :
- قطعاً... ستغمرني إحساساً.
دخلت ليلى، قطعت حوارهما:
- أ ما زلت تريد القهوة يا أحمد؟ أم أنك شبعت من القهوة كما الغداء؟!
وضعت صينية القهوة على الطاولة، رمقت أحمد ورضوى بنظرة قاصدة، مد أحمد يده ليتناول فنجان قهوة، رفعه إلى شفتيه، رشف أولى رشفة من الفنجان، قال وهو مغمض العينين:
- إنها قهوة بالعسل من يديك... يا ليلى.
نظرت رضوى إلى ليلى باسمة، تبادلتا النظرات، والبسمات.
***
تبدو حديقة الجامعة أكثر زهواً، ثمة طاولات تحت مظلات الشمس، تجلس رضوى على كرسي بجانب إحدى الطاولات، تمسك الكتيب الصغير الذي أهداه لها أحمد، تقرأ في سرها بعض القصائد؛ ترسم خطوطاً حول كلمات في بعض الصفحات.
(أنا تشرين... شهر الريح
والأمطار... والبرد... أنا تشرين...)
تهادى إليها همس قريب وهي منغمسة بالتأمل والقراءة :
- رضوى... رضوى.
التفتت حولها بحثاً عن مصدر الصوت، تفاجأت بأحمد يقف بالقرب منها، قالت مندهشة :
- أحمد؟! ما الذي جاء بك هنا؟
- قلبي يا رضوى.
ردت بهمس:
- أحسه يا أحمد... قلبك يخفق لي... أسمع خفقانه حين أكون قربك.
ردد كلمات قصيدة، وهو يقترب منها اكثر:
(أحبيني... وقوليها
لأرفضُ أن تحبيني بلا صوت
وأرفض أن أواري الحب
في قبر من الصمت
أحبيني... بعيداً عن بلاد القهر والكبت)
***
بلغ الحب ذروته؛ مرت ليالٍ تلهب جمر الأشواقٍ بين رضوى وأحمد، الذي جلس يتفقد قصاصات الذاكرة حين فتح كراساً، ليكتب فيه، على جانبه الأيمن مذياع، على الطاولة كتب مرصوفة بشكل غير نظامي، بجانبه قدح شاي، وأباجورة صغيرة تضيء مساحة من صفحة الكُراس. وقع طرقات متقطعة ناعمة على الباب؛ أذن:
- تفضل.
فتح الباب بهدوء، دخلت ليلى بتردد، مطأطأة الرأس، سارت نحو أحمد، وقفت إلى جانبه برهة:
- مساء الخير يا أحمد.- مساء النور... أهلا يا ليلى... ما بك يا عزيزتي؟ أراك حزينة!
بوجهها العابس أجابت:
- رضوى يا أحمد.
نهض أحمد من مكانه، قال فزعاً:
- ما بها رضوى يا ليلى؟
صمتت ليلى قليلاً، أمسكها أحمد من ذراعيها بضجر:
- تكلمي... تكلمي يا ليلى، ما بال رضوى؟
رفعت ليلى رأسها، ردت بانفعال:
- رضوى ستتزوج يا أحمد... أهلها سيجبرونها على الزواج.
دُهش أحمد:
- وهل هي موافقة على هذا الزواج؟
- هي أبلغتني أن أخبرك، قالت إن عليك أن تتقدم لخطبتها، لأن ظروف أهلها الطاحنة تقف دون إكمال دراستها، أو أن تبقى بلا زواج، هم يجبرونها على الزواج يا أحمد ليتخلصوا من عبئها.
اقترب أحمد من عتبة باب الشرفة، تعرق وجهه، انسابت نقاط العرق على ذقنه، أمسك حافة باب الشرفة بيده، عض على أصبعه، التفت إلى ليلى، أجابها بإصرار:
- يجب أن أتقدم لخطبتها... لن أتخلى عنها... لن أتخلى عنها.
دفع الباب بيده، خرج إلى الشرفة، داعبت نسمة خاطفة ستارة الشيفون البيضاء، استدار مسرعاً، دخل الصالة مرتبكاً، كانت أمه تجلس على الأريكة المقابلة لجهاز التلفزيون، بدت مشدودة إلى برنامج على التلفزيون، اقترب منها:
- يجب أن تساعدينني يا أماه.
إلتفتت إليه، عقدت حاجبيها:
- أساعدك؟!... بماذا؟
جلس أحمد قرب أمه على الأريكة، أمسك بيديها، قال بنبرة توسل:
- أرجوك يا أمي، ساعدني في حل مشكلة رضوى.
ردت الأم بدهشة:
- رضوى؟! ما بال رضوى؟
- أنا أحب رضوى يا أمي، وستتزوج مجبرة، أهلها يجبرونها على ذلك، أريد خطبتها الآن، كي أوقف هذا الزواج.
أجابته أمه بنبرة غاضبة:
- حب... أي حب وأنت ما زلت طالباً في الكلية؟ ألم تفكر بأختك؟ نفسك؟ كيف ستتدبر مصاريف الزواج.
انتفض أحمد من مكانه، ارتسم الحزن على ملامحه، عض شفتيه، وقفت أمه بجانبه، نصحته:
- أحمد... اترك رضوى لقدرها، والتفت إلى مستقبلك، ما تريده ليس مناسباً لك الآن، ما زال الوقت مبكراً على هذه الأمور.
رمقها أحمد بنظرة غاضبة، تركها واقفة، أسرع صوب غرفته، مر بليلى، نظر إليها بيأس، طأطأ رأسه، دخل الغرفة، صفق الباب وراءه بغضب، نظرت ليلى إلى أمها بألم وحزن، انطلقت بخطوات سريعة صوب غرفتها، جلست الأم على الأريكة، لفت ساقاً على ساق، عادت إلى متابعة البرنامج المعروض في التلفزيون.
ردد أحمد في سره:
- يبدو أن رضوى حلم بعيد المنال... ويبدو أنني أعيش الحلم أكثر من الواقع؛ كما قالت أمي. كيف سأتدبر أمر خطبتها، وما زلت طالباً لا أتدبر أمر نفسي؟ ربما ستسعد مع غيري، سنتألم نحن الاثنين في البداية... وبعدها ستكون هي سعيدة.
***
في مقهى شعبي مكتظ بالشباب، ثمة صور بالأسود والأبيض معلقة على حائط المقهى، تبين المقهى قبل ثلاثة عقود، صوت المذياع يملأ المقهى بأنغام اغنية لأم كلثوم (فات الميعاد... وبقينا بعاد...). تحت الصورة طاولة، جلس حولها أحمد وصديقه عبد المقصود، مز أحمد نفساً من أنبوبة الشيشة؛ قرقع جوف الشيشة؛ زفر أحمد الدخان، على الطاولة قدحان من الشاي، انغمس أحمد في قراءة جريدة. عند باب المقهى، ظهر شاب، يرتدي قميصاً مخططاً وبنطال جينز، تقدم نحو أحمد وعبد المقصود، بدا مضطرباً وعلى جهه علامات قلق، وقف على مقربة من أحمد، انحنى على أحمد، قرّب فمه من أذن أحمد، قال بصوت خافت :
- هناك خبر لن يسعدك.
رد أحمد فزعاً:
- هات ما عندك يا إبراهيم، منذ يومين وقلبي يعلمني بمصيبة ستحدث.
رفع إبراهيم رأسه، عدل قوامه، تنهد، انحنى من جديد:
- رضوى... إبنة الحاج إسماعيل... وافتها المنية صباح اليوم.
ذُهل أحمد، سقطت من يده الجريدة على الأرض، حاول أن ينهض من مكانه، انهار جسده على الكرسي، حار جواباً من شدة الصدمة.
***
خيمة عزاء، قرآن كريم يُتلى على مسامع الحاضرين في العزاء، وجوه الحاضرين بدا عليها الحزن، عند زاوية في نهاية الخيمة جلس أحمد، عن شماله عبد المقصود وعن يمينه إبراهيم، بدا أحمد منهاراً، عيناه مغرورقتان بالدموع، لحيته نابتة، نظر عبد المقصود إلى أحمد، لف ذراعه الأيمن على كتف أحمد، قرّب وجهه من أذن أحمد، قال بصوت خافت :
- حافظ على هدوئك يا صديقي، حتى لا يحس زوج رضوى وأهلها... أدعُ لها بالرحمة، ولا تحمل نفسك ما لا طاقة لك به.
- يرحمها الله... ما سكنت امرأة قلبي بعدها، وإن تمُت فهي تعيش معي في قلبي، وتسكن روحي.
عقـّب عليه إبراهيم:
- لنذهب من هنا، يكفي إلى هذا الحد... قم يا أحمد لنغير المكان حتى ترتاح قليلاً.
***
تنهد أحمد، تناهت إليه ذكرياته مع رضوى، اغرورقت عيناه وهام حزناً، جلس على كرسي في المقهى، اتكأ على الطاولة، رشف شاياً، قلّب صفحات جريدة، اقترب منه طفل في السابعة من عمره، يحمل بيده ورقة.
- يا عم... يا عم.
التفت إليه أحمد، ابتسم له:
- أهلا يا صغيري... نعم، ماذا تريد؟
ناوله الصبي ورقة، فتح أحمد الورقة، قرأ محتواها، دهش، طوى الورقة، سأل الغلام:
- من أعاطاك إياها؟
التفت الصبي إلى وراءه قائلاً:
- تلك السيدة.
تلفـّت يمنة ويسرة، استطرد:
- كانت تقف هناك، أعطتني 20 جنيهاً وطلبت أن أسلمك هذه الورقة.
ركض الصبي وترك أحمد الذي تسمّر في مكانه، وقد بدت عليه دهشة أكبر، فتح الورقة مرة أخرى، أعاد قراءتها، ردد ما كتب على الورقة: "
لماذا تخليت عني؟ إذا كنت تعرف أني، أحبك أكثر مني... لماذا؟
"
رفع عينيه عن الورقة، طواها بين يديه بدهشة، قال :
- أنه خط رضوى... خطها!
دس الورقة في جيبه، أخرج من الجيب الآخر بعض النقود، ألقى بها على الطاولة، ترك المكان ومضى على عجل وهو مرتبك.
فتح الباب الرئيس، دخل مسرعاً، ألقى بالجريدة على الأريكة القريبة من الممر المؤدي إلى غرفة ليلى، نادى بصوت عالٍ.
- ليلى... ليلى.
دخل غرفة ليلى وهي جالسة على الطاولة، تكتب في أحد الكراريس، الكتب مبعثرة على جانبيها، فتح الباب بشكل مفاجئ :
- ليلى... أين انت يا ليلى؟
انتصبت بقلق:
- أحمد... ما بك؟! ما الذي حدث؟
مسح العرق عن وجهه، أمسك الطاولة بيديه، مد يده إلى جيبه، أخرج الورقة، أعطاها لليلى، تناولتها منه:
- إقرأيها يا ليلى.
نظرت ليلى إلى أحمد، فتحت الورقة، قرأت الكلمات، مشت بخطوات بطيئة.
- (لماذا تخليت عني؟ إذا كنت تعرف أني، أحبك أكثر مني... لماذا؟).
رفعت عينيها عن الورقة، نظرت إلى وجه أحمد:
- هذه كلمات نزار قباني.
أجابها أحمد:
- نعم... ولكن بخط من كتبت هذه الكلمات؟ أ لا تذكرين؟
اقترب أحمد من ليلى، أمسك بالورقة، ارتعشت يداه وهو يقرب الورقة أكثر من وجه ليلى قائلاً:
- أنظري جيداً يا ليلى... أ لا تذكرين خط صديقتك؟ ها... أنظري.
أمعنت ليلى النظر في الورقة، قطبت حاجبيها، بدهشة:
- إنه خط رضوى... نعم رضوى، لكن أين وجدت هذه الورقة يا أحمد؟
- وصلتني اليوم بيد صبي، وأنا جالس في أحد المقاهي، قال لي أن ثمة امرأة أعطته 20 جنيهاً وطلبت منه ان يعطيني هذه الورقة، بالتأكيد هي رضوى يا ليلى.
- نظرت ليلى إلى أحمد بحزن:
- رضوى ماتت يا أحمد، وهذا واقع، أنا وانت ذهبنا إلى العزاء، إنسَ رضوى يا أحمد، أدعُ لها بالرحمة.
نظر أحمد إلى ليلى نظرة غاضبة، صك أسنانه، سحب الورقة من يد ليلى، مضى نحو باب الغرفة، التفت إلى ليلى، ثم مضي إلى غرفته منزعجاً.
مشى ببطء نحو سريره، ألقى بجسده عليه، أمسك الورقة بين يديه، شمها بنفـَس عميق، ردد في سره:
- حتى العطر... هو ذاته عطر رضوى.
نهض عن السرير، اتجه إلى الطاولة، جلس على الكرسي، أسند رأسه بيديه على الطاولة، بدا على وجهه الخوف والقلق، أتاه صوت رضوى يترنم بكلمات القصيدة: ( لماذا تخليت عني؟ لماذا؟ لماذا؟). غطى وجهه بكفيه، دفع أصابعه إلى الخلف، خلخل بأصابعه خصل شعره، أغمض عينيه، سالت دمعة على خده حتى ذقنه؛ ردد:
- تخليت عنك يا رضوى... نعم تخليت.
***
رن جرس الباب متقطعاً، فتحت الأم الباب لتستقبل عبد المقصود بأمل حين حياها:
- السلام عليكم يا خالة.
- وعليكم السلام يا بني... الله أرسلك لي في الوقت المناسب.
- خيراً إن شاء الله، يبدو عليك القلق.
- أحمد يا بني... يقلقني، لا ينام ليله ولا يأكل أكله، يبدو منهكاً هزيلاً حزيناً، حرت في أمره، أدخل إليه وتحدث معه.
حين ولج عبد المقصود الغرفة، نهض أحمد من مكانه، احتضن عبد المقصود، ربت على كتفيه:
- أهلا يا صديقي أشتقت لصحبتك.
- وما منعك عنها؟
- الحزن والرغبة بالعزلة.
- إرفع عنك الحزن... أنت مؤمن يا أحمد.
جلس أحمد على السرير مد يده نحو درج السرير، أخرج الورقة من الدرج، ناولها لعبد المقصود:
- افتحها وأقرأ.
تناولها عبد المقصود، قرأها وتساءل:
- ما القصد من هذه الورقة؟
- وصلتني من رضوى منذ أيام.
دهش عبد المقصود:
- يا رجل! هل جننت؟ رضوى ماتت، وأمي شاركت في غسلها. وإن لم تصدق؛ فأذهب إلى قبرها.
أمسك عبد المقصود بأحمد من ذراعيه، استطرد:
- أحمد... عد إلى رشدك، أمك تتألم من أجلك.
انتفض أحمد، قال بنبرة غاضبة:
- ما زلت على رشدي يا عبد المقصود... ولكن ما من أحد يصدقني.
- غيّر ثيابك وتعال معي، سأذهب بك إلى الحي الذي كانت تسكنه رضوى، سنمر بقبرها لترى بأم عينيك.
***
سهم أحمد بوجه عبد المقصود، بدا التعب على أحمد، جلس إلى جانب عبد المقصود وهو يقود السيارة:
- أ لم أقل لك يا أحمد... ها انت رأيت بأم عينيك، وتحدثت إلى أهل الحي، وأكدوا لك وفاتها.
توقفت السيارة، فتح أحمد باب السيارة، تهيأ للنزول:
- تصبح على الخير، وشكراً على تحملك إياي طوال الطريق.
نظر عبد المقصود إلى أحمد، ربت على كتفه.
- حباً بالله يا أحمد؛ حاول أن تنم جيداً.
هز أحمد رأسه موافقاً، نزل وأغلق باب السيارة، راقبه عبد المقصود حتى غاب داخل المبنى.
دخل غرفته منهك القوى يائس الطلة؛ فارداً جسده على السرير، غط في نوم عميق. رن جرس الهاتف، نهض من نومه فزعاً، مد يده نحو دُرج قرب السرير، تحسس سطح الدرج، أمسك بالهاتف، نظر إلى رقم المتصل.
- نعم... نعم.
أجابه صوت رقيق خافت.
- أحمد... أحمد.
فز من مكانه، جلس منصتاً.
- أحمد... أحمد.
- نعم... من المتصل؟
- غداً عند الحادية عشرة ليلاً، أنتظرك على جسر (زفتى) أريد أن أراك... لا تتأخر.
انقطع الاتصال، انتفض من فراشه، بدا عليه الخوف والقلق، عاود الاتصال برقم المتصل عدة مرات، أتاه الرد من شركة الاتصالات :
- الرقم المطلوب خارج الخدمة.
عاد إلى فراشه، بقي مستيقظاً حتى الصباح.
***
خرج أحمد من غرفته وقد بدا عليه التوتر، كانت أمه وليلى على الطاولة تتناولان الفطور، اتجه على عجلة من أمره صوب باب الشقة الخارجي، بدت الدهشة على الأم وليلى، قالت ليلى:
- ما خطب أحمد؟! خرج وكأنه لم يرنا جالستين أمامه.
ردت الأم:
- أحمد يقلقني كثيراً، حاله لا تعجبني هذه الأيام.
تركت ليلى الطعام من يدها، نظرت إلى أمها وقد بدت عليها علامات الحيرة.
***
تحلّق مجموعة من الشباب حول طاولة في المقهى، يتبادلون الحديث والضحك، مع لعبة الطاولة؛ صوت زهر النرد يرتطم بالطاولة، علا صوت عبد المقصود بين الشباب، دخل أحمد من باب المقهى، وقف عن بعد، ينادي على عبد المقصود.
- عبد المقصود.
التفت إليه عبد المقصود، أومأ له أحمد بإشارة، كي يقترب منه. ابتعد أحمد عن الباب، لحق به عبد المقصود، أمعن النظر في وجه أحمد، الذي بدا عليه التعب والإرهاق والقلق.
- خيراً يا أحمد ما بك؟ تبدو منهكاً.
- لم أذق طعم النوم منذ منتصف الليل.
- لمَ؟!
- جاءني اتصال بعد منتصف الليلة، من رقم خاص.
- ما نوع هذا الاتصال ليرهقك إلى هذا الحد؟
تلكأً أحمد:
- صوت غير واضح، يبدو لي أنه صوت امرأة قالت لي "غداً عند الحادية عشرة ليلاً، أنتظرك على جسر (زفتى) أريد أن أراك... لا تتأخر". كأنه صوت رضوى يا عبد المقصود.
رد عبد المقصود غاضباً:
- إلامَ يا أحمد ستبقى بهذه الهلوسات؟ متى ستعود إلى رشدك؟
- ليست هلوسات، ولست مجنوناً، أريدك أن تأتي معي الليلة لأثبت لك صحة كلامي.
صمت عبد المقصود برهة، وضع يديه على خصريه، تنهد:
- حسناً... سآتي معك، وأتمنى ان لا تثبت لي شيئاً؛ حتى ننتهي من هذا الموضوع.
- سأمر بك الليلة، قبل الموعد بنصف ساعة... انتظرني.
هز عبد المقصود رأسه موافقاً، نظر إليه أحمد بتحدٍ، تركه ومضي، تنهد عبد المقصود، تلفت يميناً وشمالاً وقد بدا عليه القلق، استدار وعاد إلى الحلقة داخل المقهى.
***
الجسر الذي يربط بين طرفي المدينة، مضاء بمصابيح ضيئلة الإنارة، ما بين الفينة والأخرى تمرق سيارة على الجسر، ليس سوى صوت هدير محركات السيارات، البرد قارص، وقف أحمد عند أول الجسر، جلس عبد المقصود داخل سيارته المركونة، ضم أحمد ذراعيه على صدره، ارتعش برداً، صوت صفير الهواء، يزيده ارتعاشاً؛ يبدو عليه القلق وهو يتلفت باحثاً عن شيء ما، هبت نسمة هواء، تحركت خصلات شعره، نزل عبد المقصود من السيارة، خطا نحو أحمد بتباطؤ، فتح حدقتي عينيه على اتساعهما، تهدل فمه دهشةً، وقف متسمراً في مكانه، أشار لأحمد بأصبعه، نظر أحمد صوبه.
- أحمد... أنظر خلفك هناك.
التفت أحمد خلفه، تغيرت ملامحه إلى البهجة والدهشة صاح:
- رضوى... رضوى.
التفت إلى عبد المقصود، أكد:
- أ لم اقل لك إنها رضوى؟
لم يستطع عبد المقصود التفوّه، فر هارباً إلى السيارة. يركض أحمد وراء شبح رضوى التي تلبس ملابس عصرية، نظرت إليه، ابتسمت له، التفتت، مضت وتركته، ركض أحمد وراء شبحها، لهث، لا يكاد يبلغها، ركض بينما كانت هي تمشي بخطوات بطيئة هادئة، نادى على شبح رضوى وهو يركض :
- تعالي يا رضوى... انتظريني... خذيني معك.
تعب، سقط على الرصيف منهاراً، رفع يده، استمر بمناداة رضوى حتى غابت عنه في عتمة الظلام.
***
شاشة تلفزيون كبيرة داخل المقهى، مجموعة من الشباب تجمعت حول التلفزيون، تابعوا مشاهد من مباراة بكرة قدم، شدتهم اللعبة، علا صراخهم، قفزوا مع قفزات اللاعبين، دخل أحمد من باب المقهى وقد بدا حاله أفضل، نظر إليهم، التفت إليه عبد المقصود وهو جالس مع المجموعة، قام من مكانه، اقترب من أحمد، ابتسم أحمد في وجه عبد المقصود، تعانقا، ربت عبد المقصود على كتف أحمد.
- هون عليك يا صديقي... تعال معي، إجلس هنا واستمتع بحياتك... تعال.
نظر أحمد إلى عبد المقصود، لمعت عيناه، هز رأسه موافقاً، دخلا المقهى، جلسا على كرسيين يتابعان المباراة بشيء من المرح، انفعل أحمد مع المجموعة، انتهت المباراة، تفرق الجمع، اقترح أحمد على عبد المقصود:
- هل تذهب معي للصلاة في مسجد سيدنا الحسين؟
- على الرحب والسعة، لنتوكل على الله.
أنهى أحمد صلاته، تراجع إلى الوراء، اتكأ على أحد أعمدة المصلى، أغمض عينيه وقد بدت على ملامحه الراحة، غفا برهة، ولج في حلم.
(حديقة واسعة خضراء، أطفال يلعبون حول بئر ماء، رجل يسقي الأطفال من البئر، يتقدم أحمد طالباً من الرجل أن يسقيه، يربت الرجل على كتف أحمد، يسقيه ويقول:
- هذا بئر الأماني... أطلب وتمنى، عسى الله أن يحقق لك أمنيتك.
- اتمنى أن أرى جدتي ورضوى.
ينظر الرجل إلى أحمد، يبتسم).
فز أحمد من نومه على صوت عبد المقصود:
- هيا يا أحمد، إنهض، سأقلك إلى البيت لترتاح هناك.
كان الوقت صباحاً، حين دخل أحمد من باب الحديقة، شاهد أطفالاً يلعبون، مشى بين الشجيرات، ردد في سره.
- اشتاق إليك يا جدتي كثيراً، أنت ورضوى... قلبي يشتاق إلى رؤيتكما، وعقلي لا يصدق فكرة اللقاء بكما، مُتـّما وتركتما هذه الدنيا!
هم أحمد بالخروج من الحديقة، مر بطفلة وأمها، سهمت الطفلة بإحدى الشجيرات، التفتت إلى أحمد وهو يسير في الطريق المؤدية إلى خارج الحديقة، ركضت وراءه، نادته.
- يا أستاذ... يا أستاذ.
التفت أحمد إلى الطفلة، قالت له:
- هناك امرأة تناديك، تحت تلك الشجرة.
التفت أحمد، اتجه إلى الشجرة، بدت عليه الدهشة، طاف حول الشجرة، لم يجد أحداً في المكان، تحدث مع نفسه قائلاً:
- لمَ لم أسمع نداءها؟ لا، لا، يجب أن أرجع إلى عقلي، قبل ان أتـَّهم بالجنون.
بدا أحمد مضطرباً، خرج من الحديقة مسرعاً. وصل مقر الشركة التي يعمل فيها ليلاً، فتح الباب، كان المكان مظلماً، شغل أحد المصابيح، اتجه صوب باب إحدى الغرف، فتح باب الغرفة، شغل مصباحاً خافتاً، تقدم نحو جهاز الكومبيوتر، جلس على الكرسي، ضغط على زر التشغيل، أضاءت الشاشة، نقرت أصابعه على أزرار الحاسوب، فتح صفحة للكتابة، بدأ بالكتابة، مد أصابعه لينضد الحروف، تحركت أصابعه بآلية، حدق في الشاشة وهو يكتب، مندهشاً:
(لماذا تخليت عني).
فتح عينيه على اتساعهما، ارتعشت أصابعه وكأن يداً تسحبهما، وتجبره على تنضيد حروف لم يألفها من قبل:
(إصبر فأن الصبر من شيم الأبرار).
سحب ظهره إلى الوراء، اتكأ على الكرسي، مسح وجنتيه واستعاذ:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
عاد إلى الكتابة لا إرادياً:
(انا حولك، ولكنِ حزينة جداً منك... لماذا؟ لأنك تتجاهلني).
أغلق جهاز الحاسوب، خرج مسرعاً من الغرفة.
دخل البيت مضطرباً، صوت يخترق أذنيه يدور في رأسه:
(اسمع... اسمع).
دخل الغرفة، اتكأ على باب الغرفة، ردد بخوف:
- يا ليت الأموات ما ماتوا وتركونا.
تقدم نحو الكرسي أمام الطاولة، أمسك بالكرسي بقبضة يده، تردد صوت في أذنيه:
(أنت انسان قاسٍ... لكنني ساعدتك).
رد أحمد على الصوت وهو يلهث، ووجهه يلمع عرقاً:
- من أنتِ؟
(انت تعرفني... وما دمت تستخدم عقلك سيفشل الحوار).
أجاب أحمد بصوت مترعد:
- أخبروني الناس أنكِ شيطان يريد إضلالي وإذلالي... أو عقلي الباطن، يصور لي امنياتي... أعوذ بالله منك إن كنت شيطاناً.
(هل أقرأ لك آية الكرسي، حتى تصدق أنني لست بشيطان؟).
رفع رأسه إلى أعلى، دار حول نفسه، رد على الصوت :
- قد تكون جنياً مسلماً... لست بفاسق.
(والله يا أحمد، أنا موجودة معك منذ وقت ولم تحس بوجودي).
طرق باب الغرفة بشدة، فتحت الأم الباب، دخلت الغرفة، وهي تقول لأحمد:
- سأحضر لك الغداء يا بني... أ وتدري يا أحمد أن جدتك زارتني في المنام، وهي تلبس ثوباً أبيضَ وقد سألتني عنك.
صمت أحمد، نظر إلى أمه بدهشة، التفت، اتجه صوب الطاولة، فتح المصحف الشريف، بدأ بتلاوة آي من القرآن الكريم، أتاه صوت في أذنيه وهو يقرأ، يقول له:
(يفتح الله عليك).
- هل تكلمتِ معي يا أمي؟
أجابه الصوت يتردد صداه:
- وهل هذا صوت... صوتك نشاز، وهناك أخطاء في التلاوة!
هرول أحمد في أرجاء البيت، نادى على أمه، لم يجدها، دخل غرفته، سحب جواله من جيبه بيدين ترتعشان، حاول تثبيتها على أزرار الهاتف الجوال، اتصل بأمه:
- أمي أين انتِ؟
- أهلا يا بني... أنا في بيت خالتك الآن سأعود بعد ساعة.
بدا عليه الخوف والذهول، أغلق خط الهاتف، التفت نحو باب الشقة، هرول إلى الباب، وهو يردد:
- سلام قولاً من رب رحيم.
***
دخل أحمد غرفته، تجول فيها متفقداً، بدا عليه الخوف، اقترب من النافذة، أغلقها بإحكام، توجه نحو سريره، ألقى بجسده على السرير، تناهى إليه صوت ضحك، قام من مكانه فزعاً، تلفت حوله باحثاً عن مصدر الصوت، نادى:
- رضوى... رضوى... أ هذه انتِ؟ هذه ضحكاتك، أميزها من بين ألف ضحكة.
رد عليه صوت خافت:
(اهدأ... فانت دائماً تتشدق بالشجاعة، وها أنت أثبتّ أنك أمير الجبناء).
- إطلاقاً، أنا لست بجبان... فإن كنت أنتِ رضوى فإنك ميتة.
(من أحب وصبر فكتم؛ فهو شهيد، والشهداء لا يموتون... بل أحياء بين السماء والأرض، منزوعة من أرواحنا إرادة الخير والشر، نستمتع بملكوت الله).
أجهش أحمد بالبكاء، سالت دموعه على خديه حتى بلغت ذقنه، توسّلها:
- إظهري لي يا رضوى... أشتقتك.
ساد الصمت، لا جواب... عاد أحمد بجسده إلى الفراش، أغمض عينيه، غط في نوم عميق من شدة التعب والإرهاق. انقشع الظلام، تسلل النور، دخل شعاع الشمس إلى الغرفة، فتح أحمد عينيه على ضوء النهار، بدت عليه علامات الراحة والطمأنينة، قام من فراشه، اتجه صوب الشرفة، فتح باب الشرفة، هبت نسمة هواء داعبت خصل شعره، رفلت حوله ستائر الشيفون البيض، استنشق نفساً عميقاً، فرد صدره ويديه، شعر كأنه إنسان يولد من جديد، نظر إلى نهر النيل من الشرفة:
- ما أجمل الحياة... وما أجمل صباحك أيها النيل.
تقدم نحو الشرفة، مط ذراعيه، أسند يديه على حافة الشرفة، نظر إلى نهر النيل، التفت يمنة ويسرة، حدّق في نهر النيل المتدفق منذ آلاف السنين.
ملاحظة
- القصة أعلاه من وحي تجربة واقعية.
تصنيف :
قصص وروايات
3 أبريل 2013
ظل التوت
التوت المتناثر تحت ظلال الشجرة، يجذب أمي أكثر؛ لتلتقطه من الأرض وتمضغه بلذة. تمسك الغصن بيدها البضة، تهزه بضحكة فيتساقط عليها التوت، تلمه مع البهجة في صحن كبير.
كل شيء خالد في ذاكرتي، حبات التوت الأحمر الناضج، تشتهيه النفس وتهفو إليه، عرائش العنب، صوت حفيف وريقاته؛ يرن كجرس في أذني، تلك الأصوات والصور تعيش معي، ولا تكاد تفارقني، كما هو ظلي الذي يطاردني، منذ كنت في الرابعة من عمري، وأنا أحني ظهري، ألملم التوت في حِجري، أملأ كفيّ منه وألتهمه قضمة واحدة، ليترك آثار العفوية على شفاهي، وبقعاً أخرَ على خديّ الطفلين.
كل شيء خالد في ذاكرتي، حبات التوت الأحمر الناضج، تشتهيه النفس وتهفو إليه، عرائش العنب، صوت حفيف وريقاته؛ يرن كجرس في أذني، تلك الأصوات والصور تعيش معي، ولا تكاد تفارقني، كما هو ظلي الذي يطاردني، منذ كنت في الرابعة من عمري، وأنا أحني ظهري، ألملم التوت في حِجري، أملأ كفيّ منه وألتهمه قضمة واحدة، ليترك آثار العفوية على شفاهي، وبقعاً أخرَ على خديّ الطفلين.
ظله الأسود يقترب مني أكثر، وأنا ألتصق بأمي أكثر. كلما اقترب ظله، زدت التصاقاً، وعلا صراخي. اصفرّ وجهي، ثم بدا أفقع صفرة. امتدت يد الظل نحوي، راحت تدغدغني، من أسفل قدميّ، وصراخي المفزع يعلو، حتى أفلتت طرف الثوب من يدي، وتناثر التوت من حجري.
تقافزت حباته حولي، انكسر الصحن الكبير، تناثر قطعاً، قطعاً. تلقفتني أمي في حضنها، شدت عليّ بيديها، حملتني وركضت بي إلى داخل الدار، فركت رأسي ودلكت صدري، قرأت ونفثت في وجهي:
-
بسم الله الرحمن الرحيم... قل أعوذ برب الفلق... قل أعوذ برب الناس
.تفتح أمي عينيها مفزوعة مما أصابني، تمسك ذراعيّ، تهزني قائلة :
-
ما أصابك يا بنت؟! منذ برهة كنتِ تلعبين تحت ظل الشجرة !
تشدني إلى صدرها الحنون، تشد عليّ أكثر حتى يهدأ روعي. ثم أقص عليها ما أفزعني بصوت خائف مرتعش:
- كان هناك يا أمي... اقترب منك، وقف أمامك... مد يده أسفل قدميّ ودغدغني.
أقولها وأنا أشير إلى أسفل قدميّ، ولوني مخطوف، ويداي باردتان، بدتا كقطعتي ثلج بيضاوين، بلا دم ولا حياة.
ترد عليّ أمي بنظرة وجلة، وخوف تخفيه تحت جفنيها :
-
من هو يا نهلة ؟
أجيبها وانا أوشك أن أنهار بكاءً :
-
تنظر إلي بشفقة وخوف، تهزني في حجرها، تمد يدها نحو شفتيّ لتمسح بقع التوت. يسرقني النوم في غفوة على رائحة حجرها الدافئ، تعاود عليّ ما قرأته، مراراً وتكراراً، حتى سرى الدم في وجهي، وسخنت يداي، وهدأت رعشتي.
فراشي الدافئ يعبق برائحة الحنان، أدس رأسي تحت لحافي المزركش، وبنظرة متفحصة؛ تزوغ عيناي إلى أمي وضيفتها (بثينة). تتناهى إليّ أطراف حديثهما، حبات زهرة الشمس تتكسر بين أسنان بثينة، وهي تقذف بالقشرة أبعد من حجرها. ترمقها أمي بنظرات حذرة، محاولة تنبيهها إلى تضايقها من القشور المتناثرة على الأرض.
تحمل بثينة الكثير من المكر والدهاء، تتعمد المراوغة، تهوى الاستفزاز. كانت أمي تهوى سهرات بثينة، وتتجنب دعوتها. مجيئ بثينة يتكرر عند كل مساء، تأتي حاملةً كيس اللب، وقصص الرعب التي ترويها لأمي. أسترق السمع وأرتعد خوفاً؛ كأنه يسمعها وهي تروي عنه حكايات (الظل العاشق)، الذي يجوب المَزارع باحثاً عن طفلة يداعبها :
-
قالتها بثينة وعيناها مفتوحتان باتساع، وحاجباها معقودان. تسربت الكلمات إليّ، مخرت أذني وعادت بذاكرتي إلى ذلك الظل الذي كان يدغدغ أسفل قدميّ، عند شجرة التوت، يوم كنت أجني التوت مع أمي.
ما زلت أنصت الى حديث أمي والجارة؛ فجأة يقترب مني مواء قطط تحوم حولي، فوق رأسي، على فراشي، قرب وجهي. اختلط مواء القطط بلمسات يدين تدغدغاني من أطراف جسمي، تلمسان وجهي، كأنهما تطلبان مني اللعب.
تتسارع ضربات قلبي، أحس بأنفاس تنفث قرب أذني، أرتعش في فراشي، أتصبب عرقاً، يصفر وجهي؛ فيثير انتباه بثينة صديقة أمي. تشير إلي، تنادي على أمي لتنتبه لما يحدث لي، أحس بيدي أمي تهزانني بقوة، ثم تصرخ بوجهي :
-
ما إن لامستني يدا أمي حتى انفجرت بنوبة بكاء، كانت بثينة تنظر إلي بنظرة عجب واستغراب، رفعتني أمي وضمتني إلى صدرها، رحت أقص على أمي ما مر بي من أصوات قطط، ولمسات أصابع تتحسس جسدي وتدغدغني، وأنفاس تنفث عند أذني. حينها أصرت بثينة أن كل ما يقال عن هذه المزرعة حقيقة، وليس بخرافة، عن الظل العاشق والسيدة التي كانت تسكن هذا المنزل؛ وقد قـُتلت، وهي الآن تجوب المكان وتفزع كل من يقترب من المنزل. لم تصدق أمي حكايات بثينة، بل راحت تشكك بكل ما قالته، وقالت إن ما أصابني رعشة حمى ونوبة فزع من حكايتها.
كانت فرحتي تجعلني أتقافز على السرير مبتهجة، حين سمعت أبي يقترح على أمي أن نترك المزرعة وهذا المنزل المشؤوم، وننتقل إلى منزل آخر ابتاعه لنا، وراح يصف لأمي مدى اتساع الغرف التي فيه، وأشجار العنب التي تلف سقوف ممرات الدخول، وارتفاعه عن الشارع الذي يضفي على البيت هيبة، وعلى ساكنيه رفعة ومنزلة. كل تلك المغريات جعلت أمي توافق على الفور، وتحزم الأغراض، وتستعد للرحيل إلى المنزل الجديد، و كُروم العنب التي أحلم بها تتدلى بعناقيدها المتلألئة.
جميلة تلك الليالي الصيفية التي نقضيها في حديقة منزلنا الجديد، والأجمل كرمة العنب، التي طالما شدتني إليها، وصوت حفيف أوراقها يعزف لي حتى أنام تحتها، بجانب أخواتي وأخوتي، ثم تغطينا أمي، لنكمل نومتنا حتى تداعبنا خيوط شمس الصباح.
في إحدى الليالي الصيفية، حيث اعتدت أن أنام وأخوتي، أفقت على حفيف الأوراق تصحب ظلاً أسودَ يقف فوق كرمة العنب، كأنه يقطف العنب، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة، كنت أراقبه من تحت الغطاء، كانت أختي الأكبر تنام إلى جنبي، فألتصق بها وأهمس بأذنها.
-
ترد عليه بضجر :
-
كانت أختي تسمع حفيف الأوراق، وظنت أن الهواء من حرك الورق. لم ألحظ ليلتها أي هواء يهب ويحرك الأوراق! كان الليل ساكناً هادئاً، والريح تكاد تكون منعدمة. لم يكن هناك سوى ظل أسود يقفز بين أغصان العنب، ويتحرك بسرعة أفزعتني.
أجلس ليلاً مع أمي وصديقاتها، وهن يتبادلن الحديث. أذني مصغية إلى ما يدور بينهن من كلام، لكن عينيّ ترقبان بعيداً، حيث يمر الظل بكرمة العنب مجدداً كل ليلة أقضيها قرب الكرمة. كنت أراه من حيث لا يراه الآخرون، صديقات أمي يستغربن حركة عيني التي ترقب الظل المتسلل من بين أغصان العنب.
لم يمض وقت طويل، حتى تركنا منزلنا الثاني. حين انطلقت بنا سيارة أبي، بدا المنزل يغيب في عمق الطريق، لم تغب عن عينيّ كرمة العنب، كأني كنت أنتظر من أودعه على تلك الكرمة، من لم أكلمه يوماً، ولم ألتق به عن قرب، ولم يكن إلا ظلاً متسللاً يطوف حولي.
يحين المساء، ألتف في فراشي ليلاً، تتناهى إلي ذكريات شجرة التوت، وكرمة العنب. مر وقت طويل، لم أعد أرى الظل، تتسرب إلي الأفكار. تركته في ذاك المنزل؛ لم يعد يعرف مكاناً لي. كان صوت تنهيدة أمي وهي تربت على كتف أخي الصغير، يدخل الطمأنينة إلى قلبي، والسكينه إلى نفسي، نام أخي وهو يلقي برأسه على صدرها الحنون. ناديتها بصوت خافت، كي لا أوقظ أخي من نومته الهانئة، حاولت مراراً أن أناديها، لم تكن تسمع ندائي، كانت تبتعد عني. أطفأتْ الأنوار وغابت عني، ثمة صوتٌ يجيبني بدلاً عنها، صوتٌ أجش، ينبعث من تحت السرير، حاولت أن أكذّب سمعي وأغمض عينيّ بشدة، وأرص على أذنيّ؛ حتى لا يتسرب إلي ذلك الصوت. يقترب مني شيئاً فشيئاً، يخرج من تحت سريري، يزيد خوفي ورعشتي وفزعي.
فتحتُ عينيّ على اتساعهما، لم يكن إلا ظلاً طويلاً يقف أمامي، عند رأسي؛ يتأملني، أغلقت عينيّ لئلا أراه، لكن وقوفه الهادئ حثني على أن أفتح عينيّ مجدداً. مال عليّ حتى ظننته سيأكلني، دنا مني، قبلني من خديّ، كانت قُبلتاهُ كلسعتين باردتين، وقف إلى جانبي، نظرت إليه مذهولةً، محاولة البحث عن ملامحه الغائبة في عتمة السواد الذي يكسوه. لمست يدُهُ شعريَ بهدوء، راح يمررها وكأنه يخبرني أن لا أخاف ويهدئ من روعي.
التفت نحو الباب، حينها تناهت إلي ذكريات ظل التوت، وظل كرمة العنب، كان هذا الظل الذي يتبعني من منزل إلى آخر، هو ذاته الذي قبلّ خدي ولمس شعري وخرج مخترقاً باب الغرفة الموصد.
ما زالت أصابعي تتلمس آثار قبلاته، طبعها على خديّ، وتلك اللمسة الحنون التي انسابت على شعري، تطوف بي في غفلةٍ، حين أستلقي على ظهري في فناء المنزل الواسع، تبدو النجوم متلألئة في فضاء السماء، كرمة العنب تدلي أغصانها المتسلقة على حائط البيت الملاصق لبيتنا، تزيدني فضولاً وإلحاحاً في سؤال نفسي؛ من هو؟ وكيف لي أن آراه دون الآخرين ؟!
تمر السنين... أكبر يوماً بعد يومٍ، وكل تلك الأحداث ما زالت ترافقني مع ظلي الذي يغيب، ثم يعود. أنتفض من مكاني، حفيف أوراق العنب يناديني، يد الظل تمد إلى عناقيد العنب، تقطف العنقود، تتساقط حبات العنب على وجهي، وحبة في حجري، أرفع رأسي إلى أعلى، شاخصة بنظري نحو الجدار، ألتف حول الجدار باحثة عمن يصدّق قولي ممن هم حولي، ليس هناك سوى أختي وخطيبها، أنادي عليهما بلوني المخطوف :
-
ينتفض خطيب أختي من مكانه، يدور قرب الجدار، يمعن النظر، يتفحص المكان، يعود إلي بخيبة :
-
-
ألزم الصمت، أكتفي بتصديق عقلي لما تراه عيناي !
يمر الوقت فيزداد خوفي، لم أعد أستطيع النوم في غرفة مظلمة لوحدي، إن حدث واستيقظت في الظلام؛ أصاب بنوبة هلع. تلك الأصوات ما زالت تهمس في أذنيّ، أرص أذنيّ كي لا تتسلل إلى مسمعي، أشياء تختفي عني، وتظهر فجأة في ذات المكان.
ليالٍ طوال لم أستطع النوم، كلما أغمضت أجفاني، شعرت بجبل يرتمي على صدري، يقطع نفـَسي، يوقف نبض قلبي. أصارع وأتشبث بروحي، حتى أفيق من نومي، مثقلة بالشيء الجاثم على صدري.
كنت كثيرة الدعاء لله، يومها وأنا أتلو آيات في نفسي من القرآن الكريم، سرت روحي في نومٍ عميق؛ كان دربي شاقاً، حتى وصلت أرضاً لم أعهدها من قبل. حارسان يقودانني إلى بناية أشبه بمحكمة، دخلت من بوابة مبنى كبير، ممراته واسعة. قلبي يخفق، جسدي يرتعش، عرقي يتصبب... عبرت قدماي عتبة الباب، دخلت غرفة واسعة، ليس أمامي إلا رجلاً في قفص، يحمل من الملامح ما يخطف بصري ويثير دهشتي. ينظر إليّ بتودد، كنت ساهمة فيه، حتى علا صراخ امرأة تقف أمام منصة القضاة، أشارت إليّ بإصبع اتهام، صاحت بغضب :
-
كنت مذهولة مما أسمع، حرت جواباً. اخترق القضبان واقترب مني، تسلل عطره الشذي إلى قلبي.
لامست يداه شعري، انسابت بهدوء، توغلت أصابعه بين الخصل، أسرتني عيناه، زدتُ دهشة، ارتعش صوتي وبدت يداي صفراوان يابستان. انسابت نقاط عرق على ظهري، حتى بلغت أسفله، قال وهو يوغل النظر فيّ :
-
لم أنطق إلا بحيرة أربكتني :
-
أجاب بصوت تردد صداه :
-
عاد إلي السؤال ذاته، كأن الحروف ضاعت، توقف ترتيب الجمل، سوى جملة واحدة :
-
نفذت همساته مسترسلة إلى أذني:
-
استيقظت من نومي فزعةً، يرن صوته كناقوس في أذني، ألتفت وإذا بصاحب ذلك الوجه المبتسم مستلقٍ بجانبي. حالما انتفضت من فراشي؛ اختفى، غابت ابتسامته عني.
عاد إليّ بعد ليلة أخرى؛ بذات الملامح الأخاذة، اقترب مني؛ ما بين صحوة وغفوة، هممت أن أسند يدي على الوسادة في محاولة لجمع قواي، كي أقترب إليه وأملأ عينيّ وأصدق عقلي. امتدت يده نحوي؛ لامست يدي. سحبني بهدوء؛ ليساعدني على النهوض من سريري، برودة يديه أشعرتني بلسعة الخوف الذي يتأجج داخلي؛ كلما رأيته. لا أستخلص من الرؤية سوى ابتسامة غائبة، متسربة من ظل لا ظليل له.
احسست بثقل في جفنيّ، لم أعد أقوى على فتحهما، كأن يداً تضغطهما وتطبق عليهما. أنفاس تنفث، تتسلل حول رقبتي، ويد أخرى تطوق جسدي، وصوت هادئ متناهٍ من كلماته :
ظل التوت يا أمي
.تنظر إلي بشفقة وخوف، تهزني في حجرها، تمد يدها نحو شفتيّ لتمسح بقع التوت. يسرقني النوم في غفوة على رائحة حجرها الدافئ، تعاود عليّ ما قرأته، مراراً وتكراراً، حتى سرى الدم في وجهي، وسخنت يداي، وهدأت رعشتي.
فراشي الدافئ يعبق برائحة الحنان، أدس رأسي تحت لحافي المزركش، وبنظرة متفحصة؛ تزوغ عيناي إلى أمي وضيفتها (بثينة). تتناهى إليّ أطراف حديثهما، حبات زهرة الشمس تتكسر بين أسنان بثينة، وهي تقذف بالقشرة أبعد من حجرها. ترمقها أمي بنظرات حذرة، محاولة تنبيهها إلى تضايقها من القشور المتناثرة على الأرض.
تحمل بثينة الكثير من المكر والدهاء، تتعمد المراوغة، تهوى الاستفزاز. كانت أمي تهوى سهرات بثينة، وتتجنب دعوتها. مجيئ بثينة يتكرر عند كل مساء، تأتي حاملةً كيس اللب، وقصص الرعب التي ترويها لأمي. أسترق السمع وأرتعد خوفاً؛ كأنه يسمعها وهي تروي عنه حكايات (الظل العاشق)، الذي يجوب المَزارع باحثاً عن طفلة يداعبها :
-
كان التوت ما يجذب الظل، وهو عاشق التوت، كل من تقترب من التوت؛ يسرق عقلها
.قالتها بثينة وعيناها مفتوحتان باتساع، وحاجباها معقودان. تسربت الكلمات إليّ، مخرت أذني وعادت بذاكرتي إلى ذلك الظل الذي كان يدغدغ أسفل قدميّ، عند شجرة التوت، يوم كنت أجني التوت مع أمي.
ما زلت أنصت الى حديث أمي والجارة؛ فجأة يقترب مني مواء قطط تحوم حولي، فوق رأسي، على فراشي، قرب وجهي. اختلط مواء القطط بلمسات يدين تدغدغاني من أطراف جسمي، تلمسان وجهي، كأنهما تطلبان مني اللعب.
تتسارع ضربات قلبي، أحس بأنفاس تنفث قرب أذني، أرتعش في فراشي، أتصبب عرقاً، يصفر وجهي؛ فيثير انتباه بثينة صديقة أمي. تشير إلي، تنادي على أمي لتنتبه لما يحدث لي، أحس بيدي أمي تهزانني بقوة، ثم تصرخ بوجهي :
-
نهلة... نهلة اصحي يا ابنتي ؟!
ما إن لامستني يدا أمي حتى انفجرت بنوبة بكاء، كانت بثينة تنظر إلي بنظرة عجب واستغراب، رفعتني أمي وضمتني إلى صدرها، رحت أقص على أمي ما مر بي من أصوات قطط، ولمسات أصابع تتحسس جسدي وتدغدغني، وأنفاس تنفث عند أذني. حينها أصرت بثينة أن كل ما يقال عن هذه المزرعة حقيقة، وليس بخرافة، عن الظل العاشق والسيدة التي كانت تسكن هذا المنزل؛ وقد قـُتلت، وهي الآن تجوب المكان وتفزع كل من يقترب من المنزل. لم تصدق أمي حكايات بثينة، بل راحت تشكك بكل ما قالته، وقالت إن ما أصابني رعشة حمى ونوبة فزع من حكايتها.
****
كانت فرحتي تجعلني أتقافز على السرير مبتهجة، حين سمعت أبي يقترح على أمي أن نترك المزرعة وهذا المنزل المشؤوم، وننتقل إلى منزل آخر ابتاعه لنا، وراح يصف لأمي مدى اتساع الغرف التي فيه، وأشجار العنب التي تلف سقوف ممرات الدخول، وارتفاعه عن الشارع الذي يضفي على البيت هيبة، وعلى ساكنيه رفعة ومنزلة. كل تلك المغريات جعلت أمي توافق على الفور، وتحزم الأغراض، وتستعد للرحيل إلى المنزل الجديد، و كُروم العنب التي أحلم بها تتدلى بعناقيدها المتلألئة.
****
جميلة تلك الليالي الصيفية التي نقضيها في حديقة منزلنا الجديد، والأجمل كرمة العنب، التي طالما شدتني إليها، وصوت حفيف أوراقها يعزف لي حتى أنام تحتها، بجانب أخواتي وأخوتي، ثم تغطينا أمي، لنكمل نومتنا حتى تداعبنا خيوط شمس الصباح.
في إحدى الليالي الصيفية، حيث اعتدت أن أنام وأخوتي، أفقت على حفيف الأوراق تصحب ظلاً أسودَ يقف فوق كرمة العنب، كأنه يقطف العنب، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة، كنت أراقبه من تحت الغطاء، كانت أختي الأكبر تنام إلى جنبي، فألتصق بها وأهمس بأذنها.
-
هل ترين ذاك الظل، يمر من فوق كرمة العنب ؟!
ترد عليه بضجر :
-
لا أرى سوى أنك تهذين... نامي بهدوء ودعيني أنام، ليس هناك سوى حفيف وريقات العنب بفعل الهواء
.كانت أختي تسمع حفيف الأوراق، وظنت أن الهواء من حرك الورق. لم ألحظ ليلتها أي هواء يهب ويحرك الأوراق! كان الليل ساكناً هادئاً، والريح تكاد تكون منعدمة. لم يكن هناك سوى ظل أسود يقفز بين أغصان العنب، ويتحرك بسرعة أفزعتني.
****
أجلس ليلاً مع أمي وصديقاتها، وهن يتبادلن الحديث. أذني مصغية إلى ما يدور بينهن من كلام، لكن عينيّ ترقبان بعيداً، حيث يمر الظل بكرمة العنب مجدداً كل ليلة أقضيها قرب الكرمة. كنت أراه من حيث لا يراه الآخرون، صديقات أمي يستغربن حركة عيني التي ترقب الظل المتسلل من بين أغصان العنب.
لم يمض وقت طويل، حتى تركنا منزلنا الثاني. حين انطلقت بنا سيارة أبي، بدا المنزل يغيب في عمق الطريق، لم تغب عن عينيّ كرمة العنب، كأني كنت أنتظر من أودعه على تلك الكرمة، من لم أكلمه يوماً، ولم ألتق به عن قرب، ولم يكن إلا ظلاً متسللاً يطوف حولي.
يحين المساء، ألتف في فراشي ليلاً، تتناهى إلي ذكريات شجرة التوت، وكرمة العنب. مر وقت طويل، لم أعد أرى الظل، تتسرب إلي الأفكار. تركته في ذاك المنزل؛ لم يعد يعرف مكاناً لي. كان صوت تنهيدة أمي وهي تربت على كتف أخي الصغير، يدخل الطمأنينة إلى قلبي، والسكينه إلى نفسي، نام أخي وهو يلقي برأسه على صدرها الحنون. ناديتها بصوت خافت، كي لا أوقظ أخي من نومته الهانئة، حاولت مراراً أن أناديها، لم تكن تسمع ندائي، كانت تبتعد عني. أطفأتْ الأنوار وغابت عني، ثمة صوتٌ يجيبني بدلاً عنها، صوتٌ أجش، ينبعث من تحت السرير، حاولت أن أكذّب سمعي وأغمض عينيّ بشدة، وأرص على أذنيّ؛ حتى لا يتسرب إلي ذلك الصوت. يقترب مني شيئاً فشيئاً، يخرج من تحت سريري، يزيد خوفي ورعشتي وفزعي.
فتحتُ عينيّ على اتساعهما، لم يكن إلا ظلاً طويلاً يقف أمامي، عند رأسي؛ يتأملني، أغلقت عينيّ لئلا أراه، لكن وقوفه الهادئ حثني على أن أفتح عينيّ مجدداً. مال عليّ حتى ظننته سيأكلني، دنا مني، قبلني من خديّ، كانت قُبلتاهُ كلسعتين باردتين، وقف إلى جانبي، نظرت إليه مذهولةً، محاولة البحث عن ملامحه الغائبة في عتمة السواد الذي يكسوه. لمست يدُهُ شعريَ بهدوء، راح يمررها وكأنه يخبرني أن لا أخاف ويهدئ من روعي.
التفت نحو الباب، حينها تناهت إلي ذكريات ظل التوت، وظل كرمة العنب، كان هذا الظل الذي يتبعني من منزل إلى آخر، هو ذاته الذي قبلّ خدي ولمس شعري وخرج مخترقاً باب الغرفة الموصد.
ما زالت أصابعي تتلمس آثار قبلاته، طبعها على خديّ، وتلك اللمسة الحنون التي انسابت على شعري، تطوف بي في غفلةٍ، حين أستلقي على ظهري في فناء المنزل الواسع، تبدو النجوم متلألئة في فضاء السماء، كرمة العنب تدلي أغصانها المتسلقة على حائط البيت الملاصق لبيتنا، تزيدني فضولاً وإلحاحاً في سؤال نفسي؛ من هو؟ وكيف لي أن آراه دون الآخرين ؟!
****
تمر السنين... أكبر يوماً بعد يومٍ، وكل تلك الأحداث ما زالت ترافقني مع ظلي الذي يغيب، ثم يعود. أنتفض من مكاني، حفيف أوراق العنب يناديني، يد الظل تمد إلى عناقيد العنب، تقطف العنقود، تتساقط حبات العنب على وجهي، وحبة في حجري، أرفع رأسي إلى أعلى، شاخصة بنظري نحو الجدار، ألتف حول الجدار باحثة عمن يصدّق قولي ممن هم حولي، ليس هناك سوى أختي وخطيبها، أنادي عليهما بلوني المخطوف :
-
هل تريان ذاك الظل؟ إنه يقفز على الجدار عند كرمة العنب
.ينتفض خطيب أختي من مكانه، يدور قرب الجدار، يمعن النظر، يتفحص المكان، يعود إلي بخيبة :
-
ما من شيء يا نهلة... ربما هي قطة تسللت فوق الجدار
.-
بل هي قطط تدور حولي
.ألزم الصمت، أكتفي بتصديق عقلي لما تراه عيناي !
يمر الوقت فيزداد خوفي، لم أعد أستطيع النوم في غرفة مظلمة لوحدي، إن حدث واستيقظت في الظلام؛ أصاب بنوبة هلع. تلك الأصوات ما زالت تهمس في أذنيّ، أرص أذنيّ كي لا تتسلل إلى مسمعي، أشياء تختفي عني، وتظهر فجأة في ذات المكان.
ليالٍ طوال لم أستطع النوم، كلما أغمضت أجفاني، شعرت بجبل يرتمي على صدري، يقطع نفـَسي، يوقف نبض قلبي. أصارع وأتشبث بروحي، حتى أفيق من نومي، مثقلة بالشيء الجاثم على صدري.
كنت كثيرة الدعاء لله، يومها وأنا أتلو آيات في نفسي من القرآن الكريم، سرت روحي في نومٍ عميق؛ كان دربي شاقاً، حتى وصلت أرضاً لم أعهدها من قبل. حارسان يقودانني إلى بناية أشبه بمحكمة، دخلت من بوابة مبنى كبير، ممراته واسعة. قلبي يخفق، جسدي يرتعش، عرقي يتصبب... عبرت قدماي عتبة الباب، دخلت غرفة واسعة، ليس أمامي إلا رجلاً في قفص، يحمل من الملامح ما يخطف بصري ويثير دهشتي. ينظر إليّ بتودد، كنت ساهمة فيه، حتى علا صراخ امرأة تقف أمام منصة القضاة، أشارت إليّ بإصبع اتهام، صاحت بغضب :
-
هي من سرقت قلب صالح
.كنت مذهولة مما أسمع، حرت جواباً. اخترق القضبان واقترب مني، تسلل عطره الشذي إلى قلبي.
لامست يداه شعري، انسابت بهدوء، توغلت أصابعه بين الخصل، أسرتني عيناه، زدتُ دهشة، ارتعش صوتي وبدت يداي صفراوان يابستان. انسابت نقاط عرق على ظهري، حتى بلغت أسفله، قال وهو يوغل النظر فيّ :
-
عشقتك... وكان الحبس مصيري
.لم أنطق إلا بحيرة أربكتني :
-
من أنت ؟
أجاب بصوت تردد صداه :
-
ظلك العاشق... منذ التقيتك عند ظل التوت، وأنتِ تقطفينه وتمضغين بعضه، ثم تلمين الباقي في حِجرك... حينها اقتربتُ، دنوتُ منك، هربتِ مني، فتبعتك وتعلقت بك
.عاد إلي السؤال ذاته، كأن الحروف ضاعت، توقف ترتيب الجمل، سوى جملة واحدة :
-
من أنت ؟
نفذت همساته مسترسلة إلى أذني:
-
أنا مِن عالمٍ آخر، ليس بعالمك، لكنني مخلوقٌ مثلك
.استيقظت من نومي فزعةً، يرن صوته كناقوس في أذني، ألتفت وإذا بصاحب ذلك الوجه المبتسم مستلقٍ بجانبي. حالما انتفضت من فراشي؛ اختفى، غابت ابتسامته عني.
عاد إليّ بعد ليلة أخرى؛ بذات الملامح الأخاذة، اقترب مني؛ ما بين صحوة وغفوة، هممت أن أسند يدي على الوسادة في محاولة لجمع قواي، كي أقترب إليه وأملأ عينيّ وأصدق عقلي. امتدت يده نحوي؛ لامست يدي. سحبني بهدوء؛ ليساعدني على النهوض من سريري، برودة يديه أشعرتني بلسعة الخوف الذي يتأجج داخلي؛ كلما رأيته. لا أستخلص من الرؤية سوى ابتسامة غائبة، متسربة من ظل لا ظليل له.
احسست بثقل في جفنيّ، لم أعد أقوى على فتحهما، كأن يداً تضغطهما وتطبق عليهما. أنفاس تنفث، تتسلل حول رقبتي، ويد أخرى تطوق جسدي، وصوت هادئ متناهٍ من كلماته :
-
-
غبت في نفسٍ عميق استنشقه مني؛ ويدين اعتصرتا جسدي. صارعت لأفتح جفنيّ، عساي أجد ما يطوف بي ويطوق جوانحي. فتحت عيني مستلقية على فراشي، كأنني كنت في سفر طويل؛ منهكة القوى، متألمة. استيقظت حينها مغمومة، في عالم آخر.
اشتقتكِ جداً.
-
دعني اتوهمك حباً.
غبت في نفسٍ عميق استنشقه مني؛ ويدين اعتصرتا جسدي. صارعت لأفتح جفنيّ، عساي أجد ما يطوف بي ويطوق جوانحي. فتحت عيني مستلقية على فراشي، كأنني كنت في سفر طويل؛ منهكة القوى، متألمة. استيقظت حينها مغمومة، في عالم آخر.
ملاحظة
هذه القصة مستندة إلى أحداث تجربة واقعية.
إقرأ أيضاً ...
- من تجاربكم : ظلال تتسلل حولي
- أصحاب الظلال : فرضيات التفسير
تصنيف :
قصص وروايات
19 يناير 2013
ود البحر
يواظب خالد على اقتناء الصحف اليومية، يقلب في صفحاتها باحثاً عن خبرٍ جديد وغرائب تحدث في كل يوم. (كلاب وذئاب، أم حواء وضنب تملأ سماء الخرطوم)، عنوان بارز للصحفية الرصينة (آخر لحظة). يُشد انتباه خالد، ليقرأ تفاصيل الخبر بصوته الأجش على زملائه في الجامعة، حول موضوع يدور عن كلاب وذئاب برية جاءت من (أثيوبيا) عبر الحدود، تهاجم الأطفال والحيوانات ليلاً، أما (حواء أم ضنب) فتعني حواء التي لها ذيل، حكاية عن قبيلة أو قبائل سكنت غرب السودان، تمارس طقوساً ترتبط بالجن والعفاريت، فتتحول إلى مسوخ بأذناب، تعتدي على البشر ثأراً وانتقاماً.
لم تكن الجريدة هي المصدر الوحيد، في البحث الذي يشغل وقت (خالد)، ثمة أصدقاء وزملاء يشاركونه رحلته، على متن باخرة تمخر عباب نهر (النيل الأزرق)، وصولاً إلى الجنوب في (الفونج)، حينما استقرت بهم الباخرة في القرية النائية (يابوس)، على الحدود السودانية - الأثيوبية. كان مقصده في البحث، دراسة عادات وطبائع القبائل، وبيئتهم.
نسمات الهواء تفتح قريحة الأصدقاء؛ لقضاء ليلة على ضفة نهر (خور يابوس)، حيث المياه المنسابة تتدفق بسرعة من عمق الأراضي الأثيوبية، تغري بالمكوث وقضاء ليلة سمر. قهقهات ضحك تتعالى، مع دخان نار موقدة، تكوروا حولها؛ لتمنحهم الضوء والحماية من الدواب، التي تتواجد بكثرة على ضفاف نهر يابوس.
(علاف) سائق الباخرة، قبطان الرحلة، تعوّد أن ينام على الباخرة، هروباً من دواب اليابسة، وما قد يؤول إليه من مخاطر بعد منتصف الليل الساكن، خَبـِرْ المكان جيداً، وحذّر خالد ورفاقه من خطر اليابسة قرب جرف يابوس، وبيّن أن ما من مكان آمن لهم، سوى باخرة تعوم على سطح الماء. أخذ علاف أعلى المركب مستقراً له لينام بأمان، وهم ينظرون إليه مستغربين خوفه وكثرة احترازه من اليابسة، لم يكن ينصت إليهم وهم يتغامزون وينادون عليه :
-
هيه يا علاف... تعال يا رجل، سنحميك إذا ما هاجمك ضب هنا.
يردف أحدهم قائلاً:
-
نحن كثرٌ، واحد منا يكفي ليشبع ضباً أو نمراً قد يهاجمنا؛ ريثما تهرب أنت ومن معك.
يستمر ضحكهم ومناداتهم على علاف، وهو لا يرد بجواب يشفي فضولهم. كان نومه أهدأ من سكرة النهر وما يحيطه، بعد منتصف الليل.
سكن الأصدقاء، غط بعضهم في نومٍ عميق. الهدوء يعم المكان، بدا القمر أكثر سطوعاً؛ بدراً يتوسط السماء، والنجوم مصابيح تتلألأ من حوله.
تصاعد صوت جريان الماء، كأن شيئاً ما يلج منه، ظن خالد أنه أحد رفاقه انساب إلى النهر؛ لينتشي بالماء ويُذهب التعب عنه. نهض خالد، وبهدف المزحة تسلل خلال الشجيرات الصغيرات، محاولاً إخافة من ظنه انساب إلى النهر من رفاقه. توقف خالد في مكانه، وعيناه مفتوحتان على وسعهما، وهو يراقب مخلوقاً يخرج من وسط النهر، يتحرك صوب الضفة، منتصباً كإنسان يمشي على قدميه. كانت الرؤية واضحة، ما جعلت خالد يعود راكضاً الى أصدقائه، ينادي الصاحين منهم ويوقظ النائمين.
اتجه بسرعة صوب حقيبته، فضها بارتباك، استل منها الكاميرا ليصور المشهد. ولكن سرعان ما هرب المخلوق، اختفى بين الأشجار المكتظـّة على الضفة الأخرى. هرع خالد ورفاقه إلى الباخرة وهم ينادون على علاف ليوصلهم إلى الضفة الأخرى من النهر، ليلحقوا بالمخلوق، ويتحققوا من أمره.
ما إن حطت أقدامهم على الضفة الأخرى، وبدأوا بتفقد المكان، حتى ظهر لهم حارس ببزة عسكرية رافعاً السلاح في وجوههم بحزم... أمرَهم بأن يعودو أدراجهم.
وقفوا في أماكنهم مصغين لأمر الحارس، وهو يقول لهم بحزم وشدة :
-
اتركوه بسلام، فهو يتعايش معنا، يأكل النباتات والفواكه، وأحياناً يأكل السمك، لا يأكل البشر ولا يؤذي أحداً.
عادوا أدراجهم بهدوء تام، استلقوا على متن الباخرة حتى الصباح، كان علاف طيلة الوقت في صمت غريب، لم يتفوه بكلمة، بينما خالد ورفاقه تسودهم الدهشة. اقترب خالد من علاف محاولاً ان يستلّ منه بعض المعلومات، كون علاف من أهل ضواحي النيل الأزرق، ويعرف عن أسرار هذه المنطقة ما لا يعرفه القادمون إلى ضفاف النيل في الجنوب.
وقف علاف قرب سارية الباخرة الصغيرة، نظر بإسهاب إلى النهر أمامه، اقترب منه خالد بعد أن صعد إلى السارية، شرح الهواء نفسه، أطرب حفيف الشجيرات مسمعه، كأنه سمفونية تعزف أوتارها بانسجام تام، وقف خالد قرب علاف وسأله :
-
أشهـِدتَ ما شهـِدناه ليلة أمس؟ وكأنه كان حلماً !
أجابه علاف وهو مدبر عنه، قرب السارية :
-
شهدت كل شيء، وحذرتكم قبل ذلك.
-
وهل كنا نعقـِل وجود مخلوقات تعيش في الماء والبر؟ كان منتصباً يمشي على الماء، شيء عجيب! هل رأيته أنت ؟
استدار علاف نحو خالد مبتسماً بملامح غريبة؛ تغير كل شيء في وجهه، بدا جلده كجلد تمساح، وعيناه واسعتان كعيني سمكة، نما له شاربان طويلان رفيعان، وكبر فمه. تجمد خالد من هول ما رآه، لم يستطع أن ينطق بكلمة، نظر علاف في عينيه وقال :
-
كل يوم أراه لأنه مني وأنا منه... نخافكم وتخافوننا.
قفز علاف بسرعة إلى النهر، أغمي على خالد، لم يصحُ إلا وهو في ردهة الطوارئ، يهلوس ويصرخ:
-
علاف... علاف... علاف.
ملاحظة
هذا إخراج فني قامت به الكاتبة رقية أبو الكرم وهو مستند إلى وقائع تجربة واقعية سبق أن نشرت على موقع ما وراء الطبيعة وتحمل نفس عنوان عبد البحر .
تصنيف :
قصص وروايات
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)