23 يونيو 2022

الفتاة في منزل جوته

كتبتها : مولي روجرز
مررت أسفل لافتة مكتوب عليها "عقار جوته العائلي" وينتابني إحساس غريب بعدم الارتياح ، الممر محاط بتماثيل مجهولة الوجه ، تتآكل ملامحها بفعل الرياح والأمطار ، والطريق إلى يميني يؤدي إلى أسفل التل، مروراً بصفوف من شواهد القبور متشابهة ، لينتهي عند الدير القديم،  بينما يقف أمامي منزل جوته مانور.

جرى إغلاق الدير منذ عقود وتم التخلي عن منزل جوته لأكثر من قرن ، المبنى الوحيد في العقار والذي لا يزال مشغولاً يقع على بعد نصف ميل وهو مدرسة البنات الكاثوليكية السابقة، والتي جرى تحويلها الآن إلى دار رعاية للراهبات الطاعنات في السن.

يرفع النسيم شعر مؤخرة رقبتي بينما أشد علي سترتي من حولي وأمشي بشكل مستقيم ، لا أستطيع أن أضع سبب عدم ارتياحي جانباً ، مع أنني لا أخشى المقابر وقضيت كثيراً من الوقت داخل المباني المتداعية ،  وربما جرى إحضار تلك الأشجار التي تنمو على طول الطريق من أماكن بعيدة ليعاد زراعتها بأمر من عائلة جوته ، لأن شعوراً خالجني بأنها لا تنتمي إلى هذا المكان.


منزل جوته يلوح في الأفق بشكل أكبر مع اقترابي ، إنه مصنوع من الجص الأصفر الذي يبدو في غير محله تحت الضوء الرمادي لشمس الخريف في بنسلفانيا،  يبدو متعباً مع طلاء مقشر وحواف غارقة ، لكن الغريب أن جميع النوافذ سليمة.

أنحني لأتفقد فراشة ملكية تشرب من شق عبر صدع في حائط البناء ، في ذلك الموسم المتأخر لم أتوقع رؤية هذا الجمال الذي جعلني أبتسم ،أسمع صوت جدتي ، الفراشات جميلة ، لكن العث مميز ،  "إنه يحمل الأرواح إلى القمر".

سألت جدتي مرة : "ماذا يحصل عندما تُحاصر العثة في الداخل ؟  عندئذ ستبقى الروح محاصرة أيضاً،  ولماذا تعتقدين أن العديد من المنازل "مسكونة" ؟ .

ترفرف الحشرة للأعلى وتتسلل عبر نافذة الطابق الثاني،  وجه شاحب يراقبني من غرفة أعرف أنها فارغة، أرفع يدي إلى الفتاة لأحييها فتلتف أصابع عظمية حول معصمي وتضربني.

راهبة كهلة تقرب وجهي من وجهها ، بضعة أسنان منعزلة تبرز من لثتها مثل شواهد القبور المتهالكة في مقبرة منسية وأنفاسها حادة وحامضة : " إنها تلتهم الأخوات اللواتي سرن بلا أقدام "، كانت تبصق، عيناها المملتان تحدقان في عيني ، كأنها تستطيع أن تحفر أفكارها في رأسي بقوة تحديقها،  امتلأت عيناها الرطبة بالدموع : " لا تدعني أموت هنا " ، تبكي بينما ظهرت امرأتان إلى جانبها لإخراج أصابعها المنغرسة في ذراعي : " ليس هنا ، ليس هنا ! ".

قادت إحدى الممرضات الراهبة العجوز بعيداً وربتت على ظهرها وغمغمت لها بكلمات هادئة،  بينما كانت الأخرى الأطول قامة تهز معصم يدي.


وقالت لي : " أنا متأسفة بشدة لذلك ،  هل جرحتك تلك الراهبة ؟ "


فأكدت لها أنني بخير وأنني أقدم اعتذاري إذا ما تسببت بإزعاجها.


فقالت وهي تلوي معصمي يميناً ويساراً : " لا.. لا .. الأخت أغنيس .. ليست على ما يرام.... كانت تقوم بروتين الجري الأسبوعي فحسب " .


فقلت لها : " إذا جاز لي أن أسأل ، من هن الأخوات اللاتي يمشين بلا أقدام ؟ "


فتجاهلت وهي تقول :  " إنها ثرثرة الخرف "،  وحينما أدركت بأن ذراعي لا تزال في حالة سليمة ، تراجعت قليلاً وقالت: " من المفترض أن أخبرك بألا تكون قريباً جداً من المنزل،  يمكنك التجول حول منطقة العقار ،أعلم بأن الطقس جميل في هذا الوقت من العام،  كل ما في الأمر أن هذا المنزل ليس آمناً من الناحية العمرانية ".


أومأت برأسي وأنا أنظر إلى الصدع الذي يمتد من قاعدة المنزل حتى علو ثلاثة طوابق . 


كانت الممرضة ترتجف وهي تقول لي هامسة : " هذا المكان يوتر الأعصاب .. إذ قيل أن راهبتين حاولتا حرق الدير في حادثتين منفصلتين قبل إغلاقه ، انظر هنا ..الجدار الشرقي يميل قليلاً ، وفي يوم من الأيام سوف ينقسم مثل جيفة نتنة ". 


صفقت الممرضة بيديها معاً فسُمع الصدى مرتداً عن جدران المنزل وقالت متجهمة : "يا ويلي ، من الأفضل أن أعود قبل أن أتعرض لمزيد من المشاكل... الأخت أغنيس كبيرة في السن لكنها سريعة ".


فلوحت لها وهي تمشي عبر الحقول متجهة نحو دار المسنات ، وقبل أن أسير متجهاً نحو مبنى الدير القديم اختلست النظر مرة أخرى إلى نافذة الطابق الثاني ، كان فارغاً ، لا يهم ،  سأعثر عليها عندما أعود الليلة.


*****


لن تكون هذه أول مواجهة لي مع الأشباح ، ولا حتى رقم مئة منها، ومع ذلك فإن هذا الإحساس الغريب المنذر لا يزال عالقاً بي وأنا أسرع بين الأشجار التي كانت صورها الظلية موحشة تحت ضوء القمر ، لقد أعاقتني الأشجار من التواصل مع الأرواح وبعد أن أكملت الجزء الخاص بالمشاة نجحت في كسر قفل أبواب البلوط الثقيلة في مقدمة منزل جوته ثم تسللت إلى داخله.


أجد نفسي الآن أقف في الردهة ، حيث يظهر اللون الأصفر والأخضر للجدران بشكل خافت تحت ضوء القمر ويذكرني بسماء صيفية قبل الإعصار.


القمر مشرق الليلة ، ورؤيتي الليلية ممتازة دائماً ، دخلت متسللاً إلى عمق هذا المنزل،  لقد تم تدميره وإزالة جميع الأثاث واللوحات منذ سنوات ، كان غبار البطانيات يغطي الأسطح مثل طبقة من الثلج ، والهواء قديم وجاف.


قلت بهدوء : " مرحباً... أنا هنا لأطلق سراحك "  وأنا أخاطب تلك الفتاة الصغيرة عند قمة الدرج الكبير ، قدرت أنها في السابعة من عمرها،  كانت ترتدي فستاناً أبيض مزيناً بالدانتيل الخفيف وشعرها الأشقر كان من النوع البغيض الذي يتدلى ويأبى أن يلتف ، الغرفة مظلمة لكن الفتاة كانت تتوهج نابضة .. بدت عابسة.


وهمست مرة أخرى : " مرحباً ... أنا هنا لأحررك ، لا أعلم إذا كان بإمكانك اصطحابي إلى أجنحتك "  ، أخترت طريقي عبر ألواح الأرضية التي تصدر صريراً ، ووضعت قدمي اليمنى للأسفل واللوح متشقق متكسر فدخلت قدمي من خلال الفتحة وأنا أتقدم للأمام ،  هبطت بقوة وأنا أستطيع الشعور بالحواف المتشظية تتطاير حول كاحلي ، وكلي يقين أنها سحبت دمي ، وأنا أجفل أخرجت قدمي بحذر شديد من الحفرة ، وعندما أشعلت المصباح الخاص بي اختفت الفتاة ، ثم  أطفأته لأراها تنتظر عند أعلى الدرج ، تنهدت واستمريت في صعود الدرج في الظلام وأنا أحاذر من وقع أقدامي على كل لوح بحذائي لئلا أفقد توازني.


وهكذا ..إلى أن وصلت إلى الدرابزين والقمر يضيء طريقي بشكل أفضل، فقلت لها : "أرني.. أين أجنحتك ؟! "، فدارت الفتاة واندفعت بسرعة عبر الردهة فلحقت بها. 


وصلت الفتاة إلى الباب الثالث من جهة اليسار واخترقته وأنا ألحق بها وألوي مقبض الباب ، والباب تأرجح للداخل فدخلت، وبخلاف مدفأة الطوب بدت الغرفة فارغة تماماً، فعرجت إلى النافذة وتمكنت من رؤية البقعة التي وقفت فيها الفتاة بعد ظهر هذا اليوم.


أشعلت المصباح وزحفت على الأرض لكن لم أعثر على عثة ميتة،  بحثت في الزوايا وتحت اللوحات من ورق الحائط المتدلي لكنني خرجت خالي الوفاض ، نال مني ألم الورك والكاحل فجلست مقابل الحائط  وأنا أدلك ركبتي ثم أطفأت المصباح وصرخت  فيها : "أين أجنحتك ؟ " .


ظهرت الفتاة بجانب المدفأة وهي تمد إصبعها وهي تشير  ، فقلت لها عابساً : " لقد بحثت من قبل في المدفأة "،  كانت تتحرك بساقها النحيلة دون أن تصدر أي صوت منها أو تنثر أي غبار في طريقها.. إنها تلعق إصبعها بإصرار... انطلقت نحو المدفأة واتجهت إلى ما أشارت إليه بذراعها.. كانت تشير إلى طوب أسود،  سطوعها الغريب الذي من عالم آخر جعل من السهل عليّ أن أرى الطوب ليس مثبتاً في البناء بل يبرز منه ، كان الطوب خشناً على أصابعي فقمت بتحريكه ذهاباً وإياباً حتى يسهل علي إزالته بدرجة كافية.


فوجدت خلف الطوب صندوقاً صغيراً مربوطاً بخيوط مجدولة ، نظرت إلى الفتاة وهي الآن في الغرفة وبالقرب من النافذة ورأسها متجه إلى جانب واحد ،  فأخذت الصندوق من التجويف ونفخت لأزيل طبقة سميكة من الغبار عليه ثم فككت الخيط وقمت بفتح الصندوق ورفعت غطائه.


وجدت في داخل الصندوق عثة سوداء ميتة ، لا يمكنني تخيل كيف تم حجزها فيه ، لم يتم الإمساك بها على ما أعتقد، كانت مدفونة فيه.


فكرت في تلك السماء الصفراء والخضراء ورفعت الصندوق باتجاه الفتاة :  "أهذه أجنحتك ؟ "


أومأت برأسها وعيناها كبيرتان حزينتان ، يمكنني أن أتخيلها وهي تجلس مكتئبة أمام المرآة بينما تسحب والدتها شعرها الأشعث في محاولة لجعله جميل المظهر،  أتساءل من هي وماذا كانت وما حصل لها ، إنها مجرد طفلة ، محاصرة بمفردها في هذا المنزل الغير مريح طوال قرن ،  لقد ساعدت عدد لا يحصى من الأرواح الآخرين مثلها على التحرر.


منحتها ابتسامتي وقلت :  "سآخذها للخارج وأطلق سراحك" ، فبادلتني بابتسامة خجولة.


وكنت على وشك إغلاق الصندوق عندما رأيت أجنحة العثة بدأت ترفرف، يكاد الأمر يكون غير محسوساً ، ربما كان مجرد خدعة من الضوء أو أن أنفاسي حركت "جثة الضوء الورقية "، ثم ارتجفت مجدداً.


كنت قد مسحت الغبار من الصندوق ، لقد ظل دون مساس لسنوات عديدة ومع ذلك تحركت العثة.


ولما حركت نظري جانبياً تمكنت من رؤية الفتاة ، وجهها.... هناك شيء ما في وجهها. شيء ما… يرتجف ، كأنها على وشك أن تغير جلدها.


وأنا ألمحها بنظراتي كانت تبدو طبيعية كما تكون عليه طبيعة الشبح الثابت في مكانه.


فقلت لها بلهجة هادئة ومحبة : " هذه أجنحتك ؟ " ،  فأومأت برأسها بشكل قاطع وركضت نحو الردهة وطلبت مني أن أتبعها.


ترددت ، ثم ركزت ضوء مصباحي على الصندوق... العثة كانت بشعة ومشوهة ، كان لها ثمانية أرجل بينما كان من المفترض  أن يكون لها ستة ؛ أجنحتها صلبة ولامعة ، وجسمها طويل جداً. ..فهل هي عثة حقاً ؟


ركزت هنا على ما قالته الأخت أغنيس : " إنها تلتهم الأخوات اللواتي سرن بلا أقدام... الاخوات اللواتي سرن بلا اقدام ...".


كنت قد مشيت عبر الأراضي بعد ظهر هذا اليوم ، سرت عبر الدير الفارغ وحجرات الخدم ، وقفت خارج مدرسة الفتيات السابقة والتي أصبحت الآن داراً لرعاية المسنات،  وتوقعت أن مكاناً قديماً بهذا القدر من التاريخ يعج بالأرواح المقيدة... ومع ذلك وجدت واحدة فقط.


كانت هناك قبضة باردة تلف قلبي... أطفأت المصباح الخاص بي....كانت الفتاة تقف في وسط الغرفة.


سألتها : "هل التهمتيهم  ؟ " ، ثم سألتها بهدوء : " أعني الآخرون ؟"


بدأت ترتجف ووجهها يتلون ويضطرب ، ذراعاها تدلت واختفى توهجها...  وانتشرت بقع داكنة على وجهها مكان عينيها وفمها... كانت مصنوعة من سائل أسود ، من دخان ، أو من لا شيء، عيناها تخفي جروح الظلام النازفة، وفمها غائر أسود....كأنها كانت تنزف ظلالاً... بينما لا تزال ترتدي هذا الفستان الأبيض المزركش.


اندفعت نحوي ، وقلبي ضرب ضلوعي... إنها شبح طاف خلال الباب ، لا يمكنها تحريك طوب ، لا يمكنها لمسي ..لا يمكنها لمسي ، لكنني شعرت بأصابعها ، شعرت بلمساتها كأنها لمسة جسد، ساقاي شعرت بدفء ، وأدركت أنني قد بللت نفسي.


ابتسمت للمخلوقة وأغلقت الصندوق : " حسناً ، دعينا نطلق سراحك ".


عدت إلى الردهة وهممت بالنزول أسفل الدرج وببطء ، وأنا ممسك بالصندوق والروح بداخله بإحدى يداي ، بينما أحمل مصباحي بيدي الأخرى ،  لا أستطيع تحريرها،  يجب أن لا أعطي أي إشارة إلى أنني أريد الفرار ، ولا توجد أي إشارة.


حريق ...الراهبات حاولن حرق المنزل.


إنها بجانبي ، وأمامي ، ومن خلفي،  تظهر ثم تختفي ، محيطة بي،  الدموع انسكبت من عيناي،  لا أستطيع معرفة فيما إذا كان قلبي يتسارع أم أنه توقف تماماً.


ربما .. ربما يمكنني إشعال النار في المنزل ، بإمكاني الخروج ، الخروج بدون العثة ، أسمعها ترفرف داخل الصندوق ، إنها تريد الخروج


أبتسم بحنان في الظلام، أعلم أنها تراقبني رغم أنها لا تملك عيوناً : "دعيني أطلق سراحك"


أبقيت الصندوق مغلقاً وأعدت ربطه بالخيوط.


سأشاهد ألسنة اللهب تلتهم المنزل ، وتلتهم ما بداخله ، وسأضحك أمام ألسنة النيران الجائعة.


الفتاة أمامي... إنها تلمس يدي... 


إنها تعرف، إنها تعرف....  


أعميتها بنور مصباحي ، فأشرق السطوع في وجهها البشع.


لا شيء يحدث، إنها لا تختفي،  ولا تخاف من الضوء... كانت فقط تلعب معي من قبل .. لعبة القط والفأر.


أصرخ وألقي الصندوق في أعماق المنزل المظلم....أتسابق نحو الفجوات في الأبواب ، نحو ضوء القمر الذي يطل من خلالها ، نحو الأمان ، ارتطمت قدماي بحافة الحفرة في الأرض،  كعب قدمي يتدلى فوق لا شيء....بالكاد استعدت توازني .


أصابع صغيرة وحساسة تلتف حول كاحلي وتشدّها.


أسمع طقطقة، أحاول النهوض ، أحاول سحب رجلي من الحفرة ، لكنني أوشكت على الإغماء من الألم،  أشعر بأن ساقي مبللة، مبللة جداً ، وأنا أعلم أنني أنزف بغزارة ،  أصرخ طلباً للمساعدة ، وأصرخ بصوت عالٍ قدر استطاعتي ، لكن أذني فقط هي التي تسمعه.


أشعر بدوار وبحرقة في معدتي،  أحاول الزحف نحو الباب إلا أن قطع الخشب الخشنة تحاصر ساقي، لقد وقعت في فخ.


لم يعد مصباحي قريباً مني أو بمتناول يدي،  نور مصباحي يخفت ويتقطع ... لقد انقطع ضوؤه تمامأً .


في الظلام ما زلت أسمع رعشات الأجنحة وهي تضرب الصندوق.


إنها تقف وتلعب... تنتظر.. إنها تلتهم الموتى فحسب.


واحسرتاه ..لن تحمل أي عثة روحي إلى القمر.


كتبتها مولي روجرز 

كانت قصتها الرابحة في مسابقة أجراها موقع Reedsy Prompts في أكتوبر 2020

ترجمة وإخراج فني : كمال غزال



إقرأ أيضاً ...

- علاقة العثة والفراشات بعالم الأرواح

- تجارب واقعية : رسالة مجهولة تحملها الفراشات

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .