تأليف : رقية أبو الكرم |
التوت المتناثر تحت ظلال الشجرة، يجذب أمي أكثر؛ لتلتقطه من الأرض وتمضغه بلذة. تمسك الغصن بيدها البضة، تهزه بضحكة فيتساقط عليها التوت، تلمه مع البهجة في صحن كبير.
كل شيء خالد في ذاكرتي، حبات التوت الأحمر الناضج، تشتهيه النفس وتهفو إليه، عرائش العنب، صوت حفيف وريقاته؛ يرن كجرس في أذني، تلك الأصوات والصور تعيش معي، ولا تكاد تفارقني، كما هو ظلي الذي يطاردني، منذ كنت في الرابعة من عمري، وأنا أحني ظهري، ألملم التوت في حِجري، أملأ كفيّ منه وألتهمه قضمة واحدة، ليترك آثار العفوية على شفاهي، وبقعاً أخرَ على خديّ الطفلين.
كل شيء خالد في ذاكرتي، حبات التوت الأحمر الناضج، تشتهيه النفس وتهفو إليه، عرائش العنب، صوت حفيف وريقاته؛ يرن كجرس في أذني، تلك الأصوات والصور تعيش معي، ولا تكاد تفارقني، كما هو ظلي الذي يطاردني، منذ كنت في الرابعة من عمري، وأنا أحني ظهري، ألملم التوت في حِجري، أملأ كفيّ منه وألتهمه قضمة واحدة، ليترك آثار العفوية على شفاهي، وبقعاً أخرَ على خديّ الطفلين.
ظله الأسود يقترب مني أكثر، وأنا ألتصق بأمي أكثر. كلما اقترب ظله، زدت التصاقاً، وعلا صراخي. اصفرّ وجهي، ثم بدا أفقع صفرة. امتدت يد الظل نحوي، راحت تدغدغني، من أسفل قدميّ، وصراخي المفزع يعلو، حتى أفلتت طرف الثوب من يدي، وتناثر التوت من حجري.
تقافزت حباته حولي، انكسر الصحن الكبير، تناثر قطعاً، قطعاً. تلقفتني أمي في حضنها، شدت عليّ بيديها، حملتني وركضت بي إلى داخل الدار، فركت رأسي ودلكت صدري، قرأت ونفثت في وجهي:
- بسم الله الرحمن الرحيم... قل أعوذ برب الفلق... قل أعوذ برب الناس.
تفتح أمي عينيها مفزوعة مما أصابني، تمسك ذراعيّ، تهزني قائلة :
- ما أصابك يا بنت؟! منذ برهة كنتِ تلعبين تحت ظل الشجرة !
تشدني إلى صدرها الحنون، تشد عليّ أكثر حتى يهدأ روعي. ثم أقص عليها ما أفزعني بصوت خائف مرتعش:
- كان هناك يا أمي... اقترب منك، وقف أمامك... مد يده أسفل قدميّ ودغدغني.
أقولها وأنا أشير إلى أسفل قدميّ، ولوني مخطوف، ويداي باردتان، بدتا كقطعتي ثلج بيضاوين، بلا دم ولا حياة.
ترد عليّ أمي بنظرة وجلة، وخوف تخفيه تحت جفنيها :
- من هو يا نهلة ؟
أجيبها وانا أوشك أن أنهار بكاءً :
- ظل التوت يا أمي.
تنظر إلي بشفقة وخوف، تهزني في حجرها، تمد يدها نحو شفتيّ لتمسح بقع التوت. يسرقني النوم في غفوة على رائحة حجرها الدافئ، تعاود عليّ ما قرأته، مراراً وتكراراً، حتى سرى الدم في وجهي، وسخنت يداي، وهدأت رعشتي.
فراشي الدافئ يعبق برائحة الحنان، أدس رأسي تحت لحافي المزركش، وبنظرة متفحصة؛ تزوغ عيناي إلى أمي وضيفتها (بثينة). تتناهى إليّ أطراف حديثهما، حبات زهرة الشمس تتكسر بين أسنان بثينة، وهي تقذف بالقشرة أبعد من حجرها. ترمقها أمي بنظرات حذرة، محاولة تنبيهها إلى تضايقها من القشور المتناثرة على الأرض.
تحمل بثينة الكثير من المكر والدهاء، تتعمد المراوغة، تهوى الاستفزاز. كانت أمي تهوى سهرات بثينة، وتتجنب دعوتها. مجيئ بثينة يتكرر عند كل مساء، تأتي حاملةً كيس اللب، وقصص الرعب التي ترويها لأمي. أسترق السمع وأرتعد خوفاً؛ كأنه يسمعها وهي تروي عنه حكايات (الظل العاشق)، الذي يجوب المَزارع باحثاً عن طفلة يداعبها :
- كان التوت ما يجذب الظل، وهو عاشق التوت، كل من تقترب من التوت؛ يسرق عقلها.
قالتها بثينة وعيناها مفتوحتان باتساع، وحاجباها معقودان. تسربت الكلمات إليّ، مخرت أذني وعادت بذاكرتي إلى ذلك الظل الذي كان يدغدغ أسفل قدميّ، عند شجرة التوت، يوم كنت أجني التوت مع أمي.
ما زلت أنصت الى حديث أمي والجارة؛ فجأة يقترب مني مواء قطط تحوم حولي، فوق رأسي، على فراشي، قرب وجهي. اختلط مواء القطط بلمسات يدين تدغدغاني من أطراف جسمي، تلمسان وجهي، كأنهما تطلبان مني اللعب.
تتسارع ضربات قلبي، أحس بأنفاس تنفث قرب أذني، أرتعش في فراشي، أتصبب عرقاً، يصفر وجهي؛ فيثير انتباه بثينة صديقة أمي. تشير إلي، تنادي على أمي لتنتبه لما يحدث لي، أحس بيدي أمي تهزانني بقوة، ثم تصرخ بوجهي :
- نهلة... نهلة اصحي يا ابنتي ؟!
ما إن لامستني يدا أمي حتى انفجرت بنوبة بكاء، كانت بثينة تنظر إلي بنظرة عجب واستغراب، رفعتني أمي وضمتني إلى صدرها، رحت أقص على أمي ما مر بي من أصوات قطط، ولمسات أصابع تتحسس جسدي وتدغدغني، وأنفاس تنفث عند أذني. حينها أصرت بثينة أن كل ما يقال عن هذه المزرعة حقيقة، وليس بخرافة، عن الظل العاشق والسيدة التي كانت تسكن هذا المنزل؛ وقد قـُتلت، وهي الآن تجوب المكان وتفزع كل من يقترب من المنزل. لم تصدق أمي حكايات بثينة، بل راحت تشكك بكل ما قالته، وقالت إن ما أصابني رعشة حمى ونوبة فزع من حكايتها.
****
كانت فرحتي تجعلني أتقافز على السرير مبتهجة، حين سمعت أبي يقترح على أمي أن نترك المزرعة وهذا المنزل المشؤوم، وننتقل إلى منزل آخر ابتاعه لنا، وراح يصف لأمي مدى اتساع الغرف التي فيه، وأشجار العنب التي تلف سقوف ممرات الدخول، وارتفاعه عن الشارع الذي يضفي على البيت هيبة، وعلى ساكنيه رفعة ومنزلة. كل تلك المغريات جعلت أمي توافق على الفور، وتحزم الأغراض، وتستعد للرحيل إلى المنزل الجديد، و كُروم العنب التي أحلم بها تتدلى بعناقيدها المتلألئة.
****
جميلة تلك الليالي الصيفية التي نقضيها في حديقة منزلنا الجديد، والأجمل كرمة العنب، التي طالما شدتني إليها، وصوت حفيف أوراقها يعزف لي حتى أنام تحتها، بجانب أخواتي وأخوتي، ثم تغطينا أمي، لنكمل نومتنا حتى تداعبنا خيوط شمس الصباح.
في إحدى الليالي الصيفية، حيث اعتدت أن أنام وأخوتي، أفقت على حفيف الأوراق تصحب ظلاً أسودَ يقف فوق كرمة العنب، كأنه يقطف العنب، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة، كنت أراقبه من تحت الغطاء، كانت أختي الأكبر تنام إلى جنبي، فألتصق بها وأهمس بأذنها.
- هل ترين ذاك الظل، يمر من فوق كرمة العنب ؟!
ترد عليه بضجر :
- لا أرى سوى أنك تهذين... نامي بهدوء ودعيني أنام، ليس هناك سوى حفيف وريقات العنب بفعل الهواء.
كانت أختي تسمع حفيف الأوراق، وظنت أن الهواء من حرك الورق. لم ألحظ ليلتها أي هواء يهب ويحرك الأوراق! كان الليل ساكناً هادئاً، والريح تكاد تكون منعدمة. لم يكن هناك سوى ظل أسود يقفز بين أغصان العنب، ويتحرك بسرعة أفزعتني.
****
أجلس ليلاً مع أمي وصديقاتها، وهن يتبادلن الحديث. أذني مصغية إلى ما يدور بينهن من كلام، لكن عينيّ ترقبان بعيداً، حيث يمر الظل بكرمة العنب مجدداً كل ليلة أقضيها قرب الكرمة. كنت أراه من حيث لا يراه الآخرون، صديقات أمي يستغربن حركة عيني التي ترقب الظل المتسلل من بين أغصان العنب.
لم يمض وقت طويل، حتى تركنا منزلنا الثاني. حين انطلقت بنا سيارة أبي، بدا المنزل يغيب في عمق الطريق، لم تغب عن عينيّ كرمة العنب، كأني كنت أنتظر من أودعه على تلك الكرمة، من لم أكلمه يوماً، ولم ألتق به عن قرب، ولم يكن إلا ظلاً متسللاً يطوف حولي.
يحين المساء، ألتف في فراشي ليلاً، تتناهى إلي ذكريات شجرة التوت، وكرمة العنب. مر وقت طويل، لم أعد أرى الظل، تتسرب إلي الأفكار. تركته في ذاك المنزل؛ لم يعد يعرف مكاناً لي. كان صوت تنهيدة أمي وهي تربت على كتف أخي الصغير، يدخل الطمأنينة إلى قلبي، والسكينه إلى نفسي، نام أخي وهو يلقي برأسه على صدرها الحنون. ناديتها بصوت خافت، كي لا أوقظ أخي من نومته الهانئة، حاولت مراراً أن أناديها، لم تكن تسمع ندائي، كانت تبتعد عني. أطفأتْ الأنوار وغابت عني، ثمة صوتٌ يجيبني بدلاً عنها، صوتٌ أجش، ينبعث من تحت السرير، حاولت أن أكذّب سمعي وأغمض عينيّ بشدة، وأرص على أذنيّ؛ حتى لا يتسرب إلي ذلك الصوت. يقترب مني شيئاً فشيئاً، يخرج من تحت سريري، يزيد خوفي ورعشتي وفزعي.
فتحتُ عينيّ على اتساعهما، لم يكن إلا ظلاً طويلاً يقف أمامي، عند رأسي؛ يتأملني، أغلقت عينيّ لئلا أراه، لكن وقوفه الهادئ حثني على أن أفتح عينيّ مجدداً. مال عليّ حتى ظننته سيأكلني، دنا مني، قبلني من خديّ، كانت قُبلتاهُ كلسعتين باردتين، وقف إلى جانبي، نظرت إليه مذهولةً، محاولة البحث عن ملامحه الغائبة في عتمة السواد الذي يكسوه. لمست يدُهُ شعريَ بهدوء، راح يمررها وكأنه يخبرني أن لا أخاف ويهدئ من روعي.
التفت نحو الباب، حينها تناهت إلي ذكريات ظل التوت، وظل كرمة العنب، كان هذا الظل الذي يتبعني من منزل إلى آخر، هو ذاته الذي قبلّ خدي ولمس شعري وخرج مخترقاً باب الغرفة الموصد.
ما زالت أصابعي تتلمس آثار قبلاته، طبعها على خديّ، وتلك اللمسة الحنون التي انسابت على شعري، تطوف بي في غفلةٍ، حين أستلقي على ظهري في فناء المنزل الواسع، تبدو النجوم متلألئة في فضاء السماء، كرمة العنب تدلي أغصانها المتسلقة على حائط البيت الملاصق لبيتنا، تزيدني فضولاً وإلحاحاً في سؤال نفسي؛ من هو؟ وكيف لي أن آراه دون الآخرين ؟!
****
تمر السنين... أكبر يوماً بعد يومٍ، وكل تلك الأحداث ما زالت ترافقني مع ظلي الذي يغيب، ثم يعود. أنتفض من مكاني، حفيف أوراق العنب يناديني، يد الظل تمد إلى عناقيد العنب، تقطف العنقود، تتساقط حبات العنب على وجهي، وحبة في حجري، أرفع رأسي إلى أعلى، شاخصة بنظري نحو الجدار، ألتف حول الجدار باحثة عمن يصدّق قولي ممن هم حولي، ليس هناك سوى أختي وخطيبها، أنادي عليهما بلوني المخطوف :
- هل تريان ذاك الظل؟ إنه يقفز على الجدار عند كرمة العنب.
ينتفض خطيب أختي من مكانه، يدور قرب الجدار، يمعن النظر، يتفحص المكان، يعود إلي بخيبة :
- ما من شيء يا نهلة... ربما هي قطة تسللت فوق الجدار.
- بل هي قطط تدور حولي.
ألزم الصمت، أكتفي بتصديق عقلي لما تراه عيناي !
يمر الوقت فيزداد خوفي، لم أعد أستطيع النوم في غرفة مظلمة لوحدي، إن حدث واستيقظت في الظلام؛ أصاب بنوبة هلع. تلك الأصوات ما زالت تهمس في أذنيّ، أرص أذنيّ كي لا تتسلل إلى مسمعي، أشياء تختفي عني، وتظهر فجأة في ذات المكان.
ليالٍ طوال لم أستطع النوم، كلما أغمضت أجفاني، شعرت بجبل يرتمي على صدري، يقطع نفـَسي، يوقف نبض قلبي. أصارع وأتشبث بروحي، حتى أفيق من نومي، مثقلة بالشيء الجاثم على صدري.
كنت كثيرة الدعاء لله، يومها وأنا أتلو آيات في نفسي من القرآن الكريم، سرت روحي في نومٍ عميق؛ كان دربي شاقاً، حتى وصلت أرضاً لم أعهدها من قبل. حارسان يقودانني إلى بناية أشبه بمحكمة، دخلت من بوابة مبنى كبير، ممراته واسعة. قلبي يخفق، جسدي يرتعش، عرقي يتصبب... عبرت قدماي عتبة الباب، دخلت غرفة واسعة، ليس أمامي إلا رجلاً في قفص، يحمل من الملامح ما يخطف بصري ويثير دهشتي. ينظر إليّ بتودد، كنت ساهمة فيه، حتى علا صراخ امرأة تقف أمام منصة القضاة، أشارت إليّ بإصبع اتهام، صاحت بغضب :
- هي من سرقت قلب صالح.
كنت مذهولة مما أسمع، حرت جواباً. اخترق القضبان واقترب مني، تسلل عطره الشذي إلى قلبي.
لامست يداه شعري، انسابت بهدوء، توغلت أصابعه بين الخصل، أسرتني عيناه، زدتُ دهشة، ارتعش صوتي وبدت يداي صفراوان يابستان. انسابت نقاط عرق على ظهري، حتى بلغت أسفله، قال وهو يوغل النظر فيّ :
- عشقتك... وكان الحبس مصيري.
لم أنطق إلا بحيرة أربكتني :
- من أنت ؟
أجاب بصوت تردد صداه :
- ظلك العاشق... منذ التقيتك عند ظل التوت، وأنتِ تقطفينه وتمضغين بعضه، ثم تلمين الباقي في حِجرك... حينها اقتربتُ، دنوتُ منك، هربتِ مني، فتبعتك وتعلقت بك.
عاد إلي السؤال ذاته، كأن الحروف ضاعت، توقف ترتيب الجمل، سوى جملة واحدة :
- من أنت ؟
نفذت همساته مسترسلة إلى أذني:
- أنا مِن عالمٍ آخر، ليس بعالمك، لكنني مخلوقٌ مثلك.
استيقظت من نومي فزعةً، يرن صوته كناقوس في أذني، ألتفت وإذا بصاحب ذلك الوجه المبتسم مستلقٍ بجانبي. حالما انتفضت من فراشي؛ اختفى، غابت ابتسامته عني.
عاد إليّ بعد ليلة أخرى؛ بذات الملامح الأخاذة، اقترب مني؛ ما بين صحوة وغفوة، هممت أن أسند يدي على الوسادة في محاولة لجمع قواي، كي أقترب إليه وأملأ عينيّ وأصدق عقلي. امتدت يده نحوي؛ لامست يدي. سحبني بهدوء؛ ليساعدني على النهوض من سريري، برودة يديه أشعرتني بلسعة الخوف الذي يتأجج داخلي؛ كلما رأيته. لا أستخلص من الرؤية سوى ابتسامة غائبة، متسربة من ظل لا ظليل له.
احسست بثقل في جفنيّ، لم أعد أقوى على فتحهما، كأن يداً تضغطهما وتطبق عليهما. أنفاس تنفث، تتسلل حول رقبتي، ويد أخرى تطوق جسدي، وصوت هادئ متناهٍ من كلماته :
تنظر إلي بشفقة وخوف، تهزني في حجرها، تمد يدها نحو شفتيّ لتمسح بقع التوت. يسرقني النوم في غفوة على رائحة حجرها الدافئ، تعاود عليّ ما قرأته، مراراً وتكراراً، حتى سرى الدم في وجهي، وسخنت يداي، وهدأت رعشتي.
فراشي الدافئ يعبق برائحة الحنان، أدس رأسي تحت لحافي المزركش، وبنظرة متفحصة؛ تزوغ عيناي إلى أمي وضيفتها (بثينة). تتناهى إليّ أطراف حديثهما، حبات زهرة الشمس تتكسر بين أسنان بثينة، وهي تقذف بالقشرة أبعد من حجرها. ترمقها أمي بنظرات حذرة، محاولة تنبيهها إلى تضايقها من القشور المتناثرة على الأرض.
تحمل بثينة الكثير من المكر والدهاء، تتعمد المراوغة، تهوى الاستفزاز. كانت أمي تهوى سهرات بثينة، وتتجنب دعوتها. مجيئ بثينة يتكرر عند كل مساء، تأتي حاملةً كيس اللب، وقصص الرعب التي ترويها لأمي. أسترق السمع وأرتعد خوفاً؛ كأنه يسمعها وهي تروي عنه حكايات (الظل العاشق)، الذي يجوب المَزارع باحثاً عن طفلة يداعبها :
- كان التوت ما يجذب الظل، وهو عاشق التوت، كل من تقترب من التوت؛ يسرق عقلها.
قالتها بثينة وعيناها مفتوحتان باتساع، وحاجباها معقودان. تسربت الكلمات إليّ، مخرت أذني وعادت بذاكرتي إلى ذلك الظل الذي كان يدغدغ أسفل قدميّ، عند شجرة التوت، يوم كنت أجني التوت مع أمي.
ما زلت أنصت الى حديث أمي والجارة؛ فجأة يقترب مني مواء قطط تحوم حولي، فوق رأسي، على فراشي، قرب وجهي. اختلط مواء القطط بلمسات يدين تدغدغاني من أطراف جسمي، تلمسان وجهي، كأنهما تطلبان مني اللعب.
تتسارع ضربات قلبي، أحس بأنفاس تنفث قرب أذني، أرتعش في فراشي، أتصبب عرقاً، يصفر وجهي؛ فيثير انتباه بثينة صديقة أمي. تشير إلي، تنادي على أمي لتنتبه لما يحدث لي، أحس بيدي أمي تهزانني بقوة، ثم تصرخ بوجهي :
- نهلة... نهلة اصحي يا ابنتي ؟!
ما إن لامستني يدا أمي حتى انفجرت بنوبة بكاء، كانت بثينة تنظر إلي بنظرة عجب واستغراب، رفعتني أمي وضمتني إلى صدرها، رحت أقص على أمي ما مر بي من أصوات قطط، ولمسات أصابع تتحسس جسدي وتدغدغني، وأنفاس تنفث عند أذني. حينها أصرت بثينة أن كل ما يقال عن هذه المزرعة حقيقة، وليس بخرافة، عن الظل العاشق والسيدة التي كانت تسكن هذا المنزل؛ وقد قـُتلت، وهي الآن تجوب المكان وتفزع كل من يقترب من المنزل. لم تصدق أمي حكايات بثينة، بل راحت تشكك بكل ما قالته، وقالت إن ما أصابني رعشة حمى ونوبة فزع من حكايتها.
****
كانت فرحتي تجعلني أتقافز على السرير مبتهجة، حين سمعت أبي يقترح على أمي أن نترك المزرعة وهذا المنزل المشؤوم، وننتقل إلى منزل آخر ابتاعه لنا، وراح يصف لأمي مدى اتساع الغرف التي فيه، وأشجار العنب التي تلف سقوف ممرات الدخول، وارتفاعه عن الشارع الذي يضفي على البيت هيبة، وعلى ساكنيه رفعة ومنزلة. كل تلك المغريات جعلت أمي توافق على الفور، وتحزم الأغراض، وتستعد للرحيل إلى المنزل الجديد، و كُروم العنب التي أحلم بها تتدلى بعناقيدها المتلألئة.
****
جميلة تلك الليالي الصيفية التي نقضيها في حديقة منزلنا الجديد، والأجمل كرمة العنب، التي طالما شدتني إليها، وصوت حفيف أوراقها يعزف لي حتى أنام تحتها، بجانب أخواتي وأخوتي، ثم تغطينا أمي، لنكمل نومتنا حتى تداعبنا خيوط شمس الصباح.
في إحدى الليالي الصيفية، حيث اعتدت أن أنام وأخوتي، أفقت على حفيف الأوراق تصحب ظلاً أسودَ يقف فوق كرمة العنب، كأنه يقطف العنب، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة، كنت أراقبه من تحت الغطاء، كانت أختي الأكبر تنام إلى جنبي، فألتصق بها وأهمس بأذنها.
- هل ترين ذاك الظل، يمر من فوق كرمة العنب ؟!
ترد عليه بضجر :
- لا أرى سوى أنك تهذين... نامي بهدوء ودعيني أنام، ليس هناك سوى حفيف وريقات العنب بفعل الهواء.
كانت أختي تسمع حفيف الأوراق، وظنت أن الهواء من حرك الورق. لم ألحظ ليلتها أي هواء يهب ويحرك الأوراق! كان الليل ساكناً هادئاً، والريح تكاد تكون منعدمة. لم يكن هناك سوى ظل أسود يقفز بين أغصان العنب، ويتحرك بسرعة أفزعتني.
****
أجلس ليلاً مع أمي وصديقاتها، وهن يتبادلن الحديث. أذني مصغية إلى ما يدور بينهن من كلام، لكن عينيّ ترقبان بعيداً، حيث يمر الظل بكرمة العنب مجدداً كل ليلة أقضيها قرب الكرمة. كنت أراه من حيث لا يراه الآخرون، صديقات أمي يستغربن حركة عيني التي ترقب الظل المتسلل من بين أغصان العنب.
لم يمض وقت طويل، حتى تركنا منزلنا الثاني. حين انطلقت بنا سيارة أبي، بدا المنزل يغيب في عمق الطريق، لم تغب عن عينيّ كرمة العنب، كأني كنت أنتظر من أودعه على تلك الكرمة، من لم أكلمه يوماً، ولم ألتق به عن قرب، ولم يكن إلا ظلاً متسللاً يطوف حولي.
يحين المساء، ألتف في فراشي ليلاً، تتناهى إلي ذكريات شجرة التوت، وكرمة العنب. مر وقت طويل، لم أعد أرى الظل، تتسرب إلي الأفكار. تركته في ذاك المنزل؛ لم يعد يعرف مكاناً لي. كان صوت تنهيدة أمي وهي تربت على كتف أخي الصغير، يدخل الطمأنينة إلى قلبي، والسكينه إلى نفسي، نام أخي وهو يلقي برأسه على صدرها الحنون. ناديتها بصوت خافت، كي لا أوقظ أخي من نومته الهانئة، حاولت مراراً أن أناديها، لم تكن تسمع ندائي، كانت تبتعد عني. أطفأتْ الأنوار وغابت عني، ثمة صوتٌ يجيبني بدلاً عنها، صوتٌ أجش، ينبعث من تحت السرير، حاولت أن أكذّب سمعي وأغمض عينيّ بشدة، وأرص على أذنيّ؛ حتى لا يتسرب إلي ذلك الصوت. يقترب مني شيئاً فشيئاً، يخرج من تحت سريري، يزيد خوفي ورعشتي وفزعي.
فتحتُ عينيّ على اتساعهما، لم يكن إلا ظلاً طويلاً يقف أمامي، عند رأسي؛ يتأملني، أغلقت عينيّ لئلا أراه، لكن وقوفه الهادئ حثني على أن أفتح عينيّ مجدداً. مال عليّ حتى ظننته سيأكلني، دنا مني، قبلني من خديّ، كانت قُبلتاهُ كلسعتين باردتين، وقف إلى جانبي، نظرت إليه مذهولةً، محاولة البحث عن ملامحه الغائبة في عتمة السواد الذي يكسوه. لمست يدُهُ شعريَ بهدوء، راح يمررها وكأنه يخبرني أن لا أخاف ويهدئ من روعي.
التفت نحو الباب، حينها تناهت إلي ذكريات ظل التوت، وظل كرمة العنب، كان هذا الظل الذي يتبعني من منزل إلى آخر، هو ذاته الذي قبلّ خدي ولمس شعري وخرج مخترقاً باب الغرفة الموصد.
ما زالت أصابعي تتلمس آثار قبلاته، طبعها على خديّ، وتلك اللمسة الحنون التي انسابت على شعري، تطوف بي في غفلةٍ، حين أستلقي على ظهري في فناء المنزل الواسع، تبدو النجوم متلألئة في فضاء السماء، كرمة العنب تدلي أغصانها المتسلقة على حائط البيت الملاصق لبيتنا، تزيدني فضولاً وإلحاحاً في سؤال نفسي؛ من هو؟ وكيف لي أن آراه دون الآخرين ؟!
****
تمر السنين... أكبر يوماً بعد يومٍ، وكل تلك الأحداث ما زالت ترافقني مع ظلي الذي يغيب، ثم يعود. أنتفض من مكاني، حفيف أوراق العنب يناديني، يد الظل تمد إلى عناقيد العنب، تقطف العنقود، تتساقط حبات العنب على وجهي، وحبة في حجري، أرفع رأسي إلى أعلى، شاخصة بنظري نحو الجدار، ألتف حول الجدار باحثة عمن يصدّق قولي ممن هم حولي، ليس هناك سوى أختي وخطيبها، أنادي عليهما بلوني المخطوف :
- هل تريان ذاك الظل؟ إنه يقفز على الجدار عند كرمة العنب.
ينتفض خطيب أختي من مكانه، يدور قرب الجدار، يمعن النظر، يتفحص المكان، يعود إلي بخيبة :
- ما من شيء يا نهلة... ربما هي قطة تسللت فوق الجدار.
- بل هي قطط تدور حولي.
ألزم الصمت، أكتفي بتصديق عقلي لما تراه عيناي !
يمر الوقت فيزداد خوفي، لم أعد أستطيع النوم في غرفة مظلمة لوحدي، إن حدث واستيقظت في الظلام؛ أصاب بنوبة هلع. تلك الأصوات ما زالت تهمس في أذنيّ، أرص أذنيّ كي لا تتسلل إلى مسمعي، أشياء تختفي عني، وتظهر فجأة في ذات المكان.
ليالٍ طوال لم أستطع النوم، كلما أغمضت أجفاني، شعرت بجبل يرتمي على صدري، يقطع نفـَسي، يوقف نبض قلبي. أصارع وأتشبث بروحي، حتى أفيق من نومي، مثقلة بالشيء الجاثم على صدري.
كنت كثيرة الدعاء لله، يومها وأنا أتلو آيات في نفسي من القرآن الكريم، سرت روحي في نومٍ عميق؛ كان دربي شاقاً، حتى وصلت أرضاً لم أعهدها من قبل. حارسان يقودانني إلى بناية أشبه بمحكمة، دخلت من بوابة مبنى كبير، ممراته واسعة. قلبي يخفق، جسدي يرتعش، عرقي يتصبب... عبرت قدماي عتبة الباب، دخلت غرفة واسعة، ليس أمامي إلا رجلاً في قفص، يحمل من الملامح ما يخطف بصري ويثير دهشتي. ينظر إليّ بتودد، كنت ساهمة فيه، حتى علا صراخ امرأة تقف أمام منصة القضاة، أشارت إليّ بإصبع اتهام، صاحت بغضب :
- هي من سرقت قلب صالح.
كنت مذهولة مما أسمع، حرت جواباً. اخترق القضبان واقترب مني، تسلل عطره الشذي إلى قلبي.
لامست يداه شعري، انسابت بهدوء، توغلت أصابعه بين الخصل، أسرتني عيناه، زدتُ دهشة، ارتعش صوتي وبدت يداي صفراوان يابستان. انسابت نقاط عرق على ظهري، حتى بلغت أسفله، قال وهو يوغل النظر فيّ :
- عشقتك... وكان الحبس مصيري.
لم أنطق إلا بحيرة أربكتني :
- من أنت ؟
أجاب بصوت تردد صداه :
- ظلك العاشق... منذ التقيتك عند ظل التوت، وأنتِ تقطفينه وتمضغين بعضه، ثم تلمين الباقي في حِجرك... حينها اقتربتُ، دنوتُ منك، هربتِ مني، فتبعتك وتعلقت بك.
عاد إلي السؤال ذاته، كأن الحروف ضاعت، توقف ترتيب الجمل، سوى جملة واحدة :
- من أنت ؟
نفذت همساته مسترسلة إلى أذني:
- أنا مِن عالمٍ آخر، ليس بعالمك، لكنني مخلوقٌ مثلك.
استيقظت من نومي فزعةً، يرن صوته كناقوس في أذني، ألتفت وإذا بصاحب ذلك الوجه المبتسم مستلقٍ بجانبي. حالما انتفضت من فراشي؛ اختفى، غابت ابتسامته عني.
عاد إليّ بعد ليلة أخرى؛ بذات الملامح الأخاذة، اقترب مني؛ ما بين صحوة وغفوة، هممت أن أسند يدي على الوسادة في محاولة لجمع قواي، كي أقترب إليه وأملأ عينيّ وأصدق عقلي. امتدت يده نحوي؛ لامست يدي. سحبني بهدوء؛ ليساعدني على النهوض من سريري، برودة يديه أشعرتني بلسعة الخوف الذي يتأجج داخلي؛ كلما رأيته. لا أستخلص من الرؤية سوى ابتسامة غائبة، متسربة من ظل لا ظليل له.
احسست بثقل في جفنيّ، لم أعد أقوى على فتحهما، كأن يداً تضغطهما وتطبق عليهما. أنفاس تنفث، تتسلل حول رقبتي، ويد أخرى تطوق جسدي، وصوت هادئ متناهٍ من كلماته :
- اشتقتكِ جداً.
- دعني اتوهمك حباً.
غبت في نفسٍ عميق استنشقه مني؛ ويدين اعتصرتا جسدي. صارعت لأفتح جفنيّ، عساي أجد ما يطوف بي ويطوق جوانحي. فتحت عيني مستلقية على فراشي، كأنني كنت في سفر طويل؛ منهكة القوى، متألمة. استيقظت حينها مغمومة، في عالم آخر.
- دعني اتوهمك حباً.
غبت في نفسٍ عميق استنشقه مني؛ ويدين اعتصرتا جسدي. صارعت لأفتح جفنيّ، عساي أجد ما يطوف بي ويطوق جوانحي. فتحت عيني مستلقية على فراشي، كأنني كنت في سفر طويل؛ منهكة القوى، متألمة. استيقظت حينها مغمومة، في عالم آخر.
ملاحظة
هذه القصة مستندة إلى أحداث تجربة واقعية.
إقرأ أيضاً ...
- من تجاربكم : ظلال تتسلل حولي
- أصحاب الظلال : فرضيات التفسير
يااااااااااااااه ما اجملها من قصة في قمة الروعة مزجت مابين الخيال والتمني بالفارس الذي نحته الخيال بالوجدان... لابد ان تكون للقصة بقية، دعو نهله تمضي في سباتها العميق علها تجد فارسها يوما
ردحذفياااااااااااااااااااه قصة في غاية الروعة وقد مزجت ما بين براءة الصبا وعفويتها وبين الخيال وحلم اليقظة بلقاء الفارس الذي نحته الخيال بالوجدان، دعو نهلة تمصي في سباتها علها تجد ضالتها فعشق الطفولة وبراءتها تجعل الصبايا يرون وم لا يراه الاخرون، دعوهم يروا الحياة بمنظورهم وليسبنظرتنا... للقصة بقية دون ادني شك.
ردحذف