![]() |
تأليف : كمال غزال |
اسمي ريم
طالبة طب، أسكن بمفردي في الغرفة B24 بالسكن الجامعي.
لطالما كانت الوحدة لي ملاذاً، أهرب إليها من ضجيج العالم وصخبه، أجد في صمتها صفاءً يشبه حضناً خفياً يُهدّئ قلبي المتعب.
لكن منذ أسابيع… بات هذا الصمت غريباً.
لم يعد صمتاً عادياً، بل كأن وراءه شيئاً يراقبني.
في كل ليلة، كنت أستيقظ على تفاصيل صغيرة تافهة… لكنها تُربكني:
كتاب موضوع بالمقلوب على الطاولة.
مصباح مضاء رغم أنني أطفأته قبل النوم.
باب الخزانة نصف مفتوح، كأن يداً خفية مرت عليه.
في البداية، كنت أضحك. أقول لنفسي: الإرهاق، هذا كل شيء.
لكن الضحكة ماتت في حلقي، حين بدأت أسمع الخطوات.
خطوات خفيفة في الممر الطويل خارج باب غرفتي.
تتوقف للحظة عند عتبتي، ثم تمضي.
ولم يكن هناك أحد.
تفاقم كل شيء.
صرت أسمع الهمسات، قادمة من زوايا الغرفة.
أصحو على همهمة خافتة، كأن الجدران تتنفس… كأن الغرفة نفسها تحكي أسراراً لا أفهمها.
وذات صباح، استيقظتُ لأجد كأسي الزجاجي الموضوع بعناية على الطاولة وقد تغيّر مكانه… أصبح موضوعاً بدقة فوق دفتري المفتوح، كما لو أن يداً خفية أرادت لفت انتباهي.
في تلك اللحظة، انتفض داخلي إدراك مرعب: هناك شيء يعيش معي… يتسلّل إلى عالمي دون أن أراه.
وعندما هبط الليل، بدا وكأن كل شيء في الغرفة قد تبدّل.
جلستُ في الظلمة، أسترق السمع، أراقب ارتعاش الظلال التي تتموّج على الجدران.
كان الهواء مشحوناً بحركة خفيفة، همسات واهية… كخشخشة أنفاس لا جسد لها.
ثم، فجأة، ارتجف وميض شمعة في الزاوية، فتشبّث بصري بالمكان، وعيناي تتسعان ذهولاً.
وببطء، أخذت الصورة تتكوّن أمامي، كأن الضباب ينقشع:
ثلاث شابات يجلسن حول طاولة خشبية قديمة، يشبكن أيديهنّ بتوتر، عيونهنّ قلقة، ترتجف أنفاسهنّ في الهواء الثقيل.
من أين جئن ؟!
إحداهن همست، كأنها تخترق جدار عالمي:
ـ "هل هناك أحد هنا ؟ "
شعرتُ بقشعريرة تجتاحني.
أنا هنا… نعم !
اردت الرد… لكن صوتي اختفى !
همست الثانية، بصوت مرتعش :
ـ " ما اسمك؟ "
شعرت بشيء يسحبني بقوة، يجذبني ناحية اللوح الموضوع على الطاولة .
المؤشّر تحرك ببطء على أحرف اسمي :
ر… ي… م.
شهقن جميعاً.
الأصغر بينهن أجهشت بالبكاء، والأخرى أمسكت يدَي صديقتيها كأنها تتمسك بالحياة نفسها.
ثم جاء الهمس من أطولهن قامة والذي فجّر كل شيء:
ـ "أرجوكِ… أثبتي وجودك."
في تلك اللحظة، غمرني غضب عارم، لا كلمات تستطيع احتواءه.
أي جرأة هذه التي تجعلهن يتطفلن علي؟
لماذا تتشبث نظراتهن بي وكأنني الغريبة هنا، وكأنني دخيلة على مكاني ؟
هذه غرفتي… أنا كنت هنا قبلهن… أنا كنت هنا دائماً !
دون أن أدرك ما أفعل، شددتُ بصري نحو رفّ الكتب.
شعرت بيديّ، بكياني، بشيء عميق داخلي… يدفعها بقوة.
ارتجّت الكتب فجأة، كأن الهواء نفسه انفجر من حولها، ثم ارتفعت للحظة خاطفة قبل أن تهوي دفعة واحدة إلى الأرض بصوت مروّع، شطرَ الصمت إلى أشلاء.
صرخت الفتيات الثلاث بصوت واحد، اندفعن نحو الباب، ركضن في الممر الطويل، أصواتهن تتشابك بين شهقات وبكاء وتمتمات مرتعشة بالمعوذات.
أما أنا… بقيتُ متسمّرة في مكاني، أحدّق في يديّ المرتجفتين، قلبي يخفق بقوة لا أفهمها.
لماذا كل هذا الرعب ؟ لماذا يهربن ؟
وفجأة، شعرت بثقل رهيب يسحبني.
كأن الهواء نفسه انكمش حولي.
تلاشت الغرفة.
تلاشى الصوت.
تلاشى الضوء.
غبتُ عن وعيي.
***
لم تدرك ريم أبداً.
لم تعرف أنها لفظت آخر أنفاسها قبل عام، حين التهم الحريق مطبخ السكن الجامعي، وانطفأت روحها بهدوء بين جدران الغرفة B24.
لم تفهم أنها باتت شبحاً، عالقة في شقّ هش بين عالمين، تسير فوق خيط رفيع يفصل بين الحضور والغياب.
أما الفتيات الثلاث… فلم يكنّ سوى طالبات عاديات، يحاولن النجاة من ظلّها المرتجف، وحاولن التواصل معها عبر لوح الويجا.
ظنّت ريم أنهنّ أشباح تقتحم عالمها، وظنن هنّ أنها الروح الطارئة التي تطل من العدم.
لم تكن الغرفة B24 مجرد غرفة…
كانت عتبة صامتة بين عالمين، مكاناً يتعثر فيه الراحلون دون أن يعرفوا أين أخطأوا الطريق.
هناك، تتقاطع خطوات الأرواح مع أنفاس الأحياء، فلا يعرف أيّ منهما من يطارد الآخر.
وفي عمق الليل، حين يبتلع الصمت أروقة السكن، تلمع فجأة نظرة من عيني ريم، كأنها تُبصر أخيراً الحقيقة التي تهرّبت منها طويلاً.
تمد يدها نحو الباب نصف المفتوح، تحاول عبوره… لكن الفراغ وحده يستجيب.
وفي تلك اللحظة، يمرّ نسيم خفيف في الممر، يحمل همساً لا يسمعه سواها:
"لقد غادرتِ منذ زمن… فلماذا ما زلتِ عالقة هنا ؟ "
تُخفض ريم يدها ببطء، وتبتسم ابتسامة باهتة، كمن فهم أخيراً مصيره.
ثم تتلاشى كقطرة ضوء في بحر ظلام.
تمت
الشوق للأموات أليم جداً لايشعر بهذا الشعور سوى من فقد شخص عزيز عليه ،، ياترى كيف هو حالنا ونحن في وحشة القبر ؟
ردحذف