26 أبريل 2025

طائفة الشمعة السوداء

تأليف : كمال غزال
في ظلمة المكتبة الوطنية في مدينة ميونيخ الألمانية، كان يوسف - طالب جامعي عراقي يدرس العلوم الإنسانية - منهمكاً في إعداد مشروع تخرجه حول الميثولوجيا في ثقافات العالم. يتنقل بين رفوف الكتب القديمة، يتتبع مصادر نادرة تشبع فضوله العلمي. 

في أحد الممرات الضيقة بين الكتب، لفت نظره كتابٌ قديمٌ بارز يكاد يسقط من مكانه. بفضول وحذر، تناوله بين يديه وبدأ يتصفحه ليجد رموزاً وطلاسم غريبة، أثارت فضوله بشكل كبير. قرر يوسف حمل الكتاب معه إلى طاولته، محاولاً فك شيفرة هذه الرموز والطلاسم.

وبينما كان يوسف غارقاً في دهاليز الكتاب العتيق، تتبع عيناه تلك الطلاسم الغامضة كما يتتبع العطشان سراب الماء، كان ثمة ظلٌ يقف خلفه، ثابتاً كأنما انبثق من ظلمة المكتبة نفسها.

ببطءٍ ثقيل، تقدم الغريب -  رجل طويل القامة، نحيل حد المبالغة، كأن جسده مجرد إطار هش لقوة غامضة داخله. بشرته شاحبة تميل إلى الرماد، وعيناه المطفأتان بلون الغبار كانتا تلمعان بوميض موارب لا يشي بالثقة ولا بالعداء، بل بشيء ثالث غريب لا اسم له. بين وجنتيه البارزتين وفمه الضيق الذي رسم ابتسامة باردة، كان يحمل ملامح رجل يعرف الكثير… ولا يقول شيئاً.

وقف قرب الطاولة حتى كاد ظلُّه يغمر صفحات الكتاب المهترئة، ثم بصوت عميق خافت كأنه صادر من جدران المكتبة نفسها، قال:
" تبحث عما وراء الكلمات؟ "

التفت يوسف بفزعٍ خفيف، عابس النظرة، وقال بتوتر:
" أبحث عن معنى… أي معنى ! "

كان الغريب يرتدي معطفاً داكناً طويلاً ينسدل خلفه، وخاتم فضي ضخم يلمع بشكل مشؤوم على سبابته المرتخية. 

تقدم خطوة أخرى، حتى صار صوته أشبه بهسيس قرب الأذن:

"أنا هانز... ولدي ما هو أكثر من المعاني لأقدمه لك."

تبع يوسف هانز نحو مكان سري، قاعة مخبأة أسفل مبنىً عتيق، كانت أضواء الشموع ترقص مع الظلال، بينما موسيقى هامسة تغمر الحضور. لم يشعر يوسف بنفسه حينما انضم إلى الرقصة الغريبة، محاطاً بشخصياتٍ صامتة، عيونهم متلهفة وجائعة. تلك الليلة، شعر كأنما جزء منه بقي هناك، ولم يعد أبداً.

توالت الليالي، وأخذت الطقوس تزداد عمقاً وغرابةً. وجد نفسه يوقع على أوراق غامضة، يُقطر دمه على تماثيل حجرية، وكل مرة يتحقق شيء من أحلامه القديمة: نجاح أكاديمي غير مبرر، أموال تتدفق دون تفسير، لذات حسية تغرقه في غيبوبة من النشوة والغفلة.

وفي ليلة مدلهمة، اقتاد هانز يوسف عبر ممرات ملتوية تحت سواد الغابة حتى بلغوا بوابة المقابر القديمة. الهواء كان كثيفاً، فاسداً، كأن الأنفاس التي لفظها الموتى على مدى قرون لا تزال عالقة هناك.

مشوا بصمت ثقيل بين القبور المتداعية، كل خطوة فوق التراب الرطب تصدر خشخشة خافتة كأنها أنين الأرواح المدفونة. كانت رائحة التراب والعفن والرطوبة تخنق الأنفاس، والضباب يزحف زحف الكائنات المجهولة بين الشواهد الحجرية.

توقفوا عند قبر نُسي اسمه، محفور فوقه بالكاد حروف ممحية، قيل إنه كان مأوىً لقاتلٍ أراق دماءً بريئة بدم بارد. أخرج الأتباع الشموع السوداء، وزرعوها حول القبر بنظام مريع. لم تكن مجرد شموع، بل بدا وكأن كل لهب منها يتنفس ظلالاً شريرة ترتجف وتدور.

بعيون مفرغة من الشعور، شاهد يوسف الأتباع -  وجوههم مخفية تحت عباءاتهم الداكنة -  وهم يرددون تعاويذ بلغة صدئة، همساتهم ترتفع وتخفت كأنها نحيب قديم. ببطء مرعب، راحوا ينبشون القبر بأيديهم المجردة، حتى ظهرت بقايا الجثة، جافة، سوداء، كأن التراب ذاته قد رفض ابتلاعها.

استلّ أحدهم خنجراً وقطع رأس بومة كانت بين يديه وخرج الدم الساخن دافقاً فوق الأرض، راسمين به دائرة ملعونة حول القبر. كل قطرة دم تلمع للحظة قبل أن يغمرها التراب المتعطش، فيما تتزايد الهمسات لتتحول إلى زمجرة خافتة قادمة من الأعماق.

في قلب الدائرة وضعوا عظام الجثة أو ما بقي من أشلائها ، وحين علت الكلمات الخفية آخر مرة، شعر يوسف برجفة رهيبة تخترق عموده الفقري، كأن هناك شيئاً تحرك في ظلال المقبرة... شيئاً كان ينتظر طويلاً أن يُستدعى.

في تلك اللحظة، فهم يوسف -  دون حاجة لكلمات -  أن الكيانات السفلى لم تعد مجرد خرافة تُهمس بها في الكتب القديمة… بل حقيقة تُنتزع من رحم الظلام.


وفي إحدى الليالي الحاسمة، أُخذ هانز وأتباعه  يوسف إلى غرفة مخفية، حيث قُيدت يداه بالحديد البارد على مذبح من حجر. اقترب منه هانز ممسكاً بأداة وشم متوهجة بالنار، ليحفر على صدره رمز الشمعة السوداء - العلامة المقدسة للطائفة، ألمٌ رهيب جعله يصرخ بحدةٍ اخترقت سكون الغرفة. بعد انتهاء الوشم، أُجبر يوسف على تجرع شراب أسود مُرٍّ وغريب الطعم، شعر معه بحرارة عجيبة تسري في جسده. ومنذ تلك الليلة، بدأ يتلقى زيارات من كيان أنثوي فاتن وغامض: "الساكوبس".

كانت "الساكوبس" تزحف إلى فراشه كل ليلة، كطيف أنثوي يفوح بالعطر الغامض. كانت البداية همسات مشبعة بحرارة خفية، تنزلق إلى أذنه كخنجر مغموس في العسل، توقظ أعمق مناطق الرغبة المكبوتة داخله.

كانت أناملها الباردة تنساب فوق جلده كأنها خيوط حرير مغموسة بالجمر، تتلمس كل انحناءة، كل رعشة، حتى لا يظل في كيانه موضعٌ لم تطرقه الرغبة.

يوسف كان يغرق تدريجياً؛ لم يعد يقاوم، بل كان يتلاشى تحت ثقل تلك المتعة الساحقة. كل قبلة وكل لمسة كانت تسحبه نحو قاعٍ سحيقٍ من النشوة حتى يفقد الإحساس بكل شيء حوله. في ذروة الغياب، حين يصبح جسده محضَ لهبٍ خامل، كانت "الساكوبس" تبدأ طقوسها: تمتص طاقته رويداً رويداً، كأنها تمتص روحه نفسها، تاركة جسده ممدداً واهناً على السرير، شاحباً حتى الضحى.

أما الطائفة، فقد كانت تجرّه كل أسبوع إلى ليالٍ أسوأ:
ليلة الطقوس الجماعية.

حيث يتقاطع اللحم باللحم، والأنفاس بالأنفاس، وسط قاعة مُحاطة بالشموع السوداء. رجال ونساء، وجوههم مموهة بالظلال، ينغمسون في طقوس انصهار شهواني صاخب، كأن أجسادهم تقدم قربانًا إلى كيان خفي يراقبهم من الظلمة، مبتسمًا ابتسامة شيطانية راضية.

في تلك الليالي، لم يكن يوسف مجرد شاهد. كان يذوب... حرفياً. روحه تتفتت بين اللذة والإثم، بين الإغراء والرعب، حتى صار يشعر أن جلده نفسه قد تخلى عنه، وأنه مجرد ومضة مشتعلة وسط دوامة لا مخرج منها.


في ليلة اكتمال القمر، وصل يوسف إلى ذروة الخوف والرهبة. مذبح حجري وسط دائرة من الملح الأسود، وضحية مقيدة على منصة الذبح. انتفض قلبه حين رأى هانز يرفع خنجراً مشعًا بضوء الشموع، تردد صوتُ تعويذات بلغة غامضة. انسكب الدم، وتصاعد دخان أسود كثيف، ظهر من خلاله شكل ظلي مخيف، كيان مظلم يحوم فوق الجسد الممزق، وهمس صوت مزمجر يخاطب هانز: " أنت الآن منا."

بدأ يوسف يدرك أنه أصبح أسيراً لتلك الطقوس الشيطانية، وحين حاول الابتعاد، واجهه هانز بتهديدات صارمة. أظهر له مقاطع فيديو توثق مشاركاته في الطقوس الجنسية والدموية، وهدد بكشفها للجميع وتدمير سمعته، وهدده أيضاً بالموت إن حاول الخروج عنهم. شعور الغضب واليأس تحول إلى جمرة مشتعلة في صدره.

في ليلةٍ عاصفةٍ، حيث كانت الريح تعوي كأنها أصوات الأرواح المعلقة بين السماء والأرض، اقتيد يوسف عبر دروب ملتوية إلى مبنى ناءٍ تغلفه الظلال، أطلقوا عليه اسم "بيت النبض الأسود".

كان كوخاً حجرياً قاتم اللون، كأن صخره انتزع من بطن الليل نفسه. جدرانه المتشققة لم تكن ساكنة، بل كانت تنبض ببطءٍ مريب، كعروقٍ دموية تُضخ حياةً خبيثة في أرجائه، وتهمس همسات خافتة تحمل من الوعيد أكثر مما تحتمل الأذن البشرية.

في قلب القاعة المستديرة، كانت تنتصب شمعة سوداء عملاقة، شعلة ليل دائم، مضاءة منذ قرن، ولسبب مريب لم يبدُ أنها تذوب أو تتضاءل. حولها نسجت الطائفة كل طقوسها المظلمة، إذ كانت هذه الشمعة تمثل الجسر المقدس إلى شيطان جهنمي يُدعى "زاغراش" -  كيان بدائي يتغذى على الأرواح الضعيفة وتُسفك باسمه القرابين.

كان باب بيت النبض الأسود موصداً بإحكام، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه بلا إذن. على جانبيه يقف حارسان يتناوبان الحراسة ليل نهار، يحرسان الشعلة التي لا تنطفئ. ولم يكن مفتاحه يُمنح لأحد؛ فقد كان محفوظاً فقط في يد هانز -  الكاهن الأكبر وزعيم الطائفة.

وبينما كان يوسف هناك تذكّر بوضوح كلمات جدته القديمة: "حين تغمرك الظلمة، اصرخ باسم النور." وبقوة مندفعة، وبتحدٍ مجنون، تقدم نحو الشمعة وأطفأها بنفخة واحدة. انفجر "زاغراش" غضباً بجنون مطلق، وصرخ صرخة هائلة ترددت في أرجاء البيت، أثارت الرعب في قلوب أتباع الطائفة الذين فروا مذعورين تاركين يوسف ينهار في مكانه.

بقي يوسف فاقداً للوعي حتى الصباح، عندما لمحه أحد عابري السبيل وهو يرى باب بيت النبض الأسود مفتوحًا بشكل غريب، هب لإنقاذه، فوجده في حالة غيبوبة شبه ميت.

في المستشفى النفسي، أصبح يوسف يهذي بأمور مخيفة: " الظلال تأتي لتأخذني… الشمعة لا تزال تشتعل في قلبي… زاغراش قادم ليحصد روحي…"

ببطء، وكمن يعود من حافة عالم آخر، استعاد يوسف أنفاسه عبر جلسات علاجية مضنية، جلسات حفرت في ذاكرته دروب الألم والانبعاث معاً.

على أوراق مذكراته، سكب دموع الخوف والندم، كاشفاً كل خطوة سقط فيها، وكل غواية كادت تقتله، محذراً الآخرين من ظلماتٍ تبتلع الأرواح تحت ستار المعرفة واللذة.

وحين خرج أخيراً إلى نور النهار، لم يكن ذاك الشاب الذي دخل عالم الظلال مترنحاً بين الشك والضياع.
كان رجلاً ولد من جديد، رجلاً أدرك أن هناك نوراً واحداً فقط لا يخفت ولا يخون: نور الله.

وقف يوماً عند حافة الحقول الممتدة، رفع رأسه إلى السماء، وتمتم بحمدٍ خافت، عابق بالدموع: " الحمد لله الذي أنقذني من براثن الظلام... ومن قبضة الشيطان. "

اختار يوسف أن يستقر في قرية نائية، بعيداً عن صخب المدن وضجيج الفتن. عمل بصمت في مركز لإعادة تأهيل المراهقين، يزرع في قلوبهم بذور النور الذي كاد يفقده.

ولم يعد يبحث عن أسرارٍ مدفونة في ظلال الكتب القديمة… بل عن حياةٍ بسيطة، مستقيمة، تسير بثقة تحت عين الله الرحيمة.


تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .