4 مايو 2025

العارف الذي ذاق

تأليف : كمال غزال
في ظلال حلب القديمة، حين كانت تتوّجها قباب العثمانيين وتتعانق مآذنها مع زرقة السماء، حيث الريح تُهدهد أزقتها بعطر الياسمين والزعتر، وُلد عبد الرحمن بن يوسف السماوي، طفلًا يتيم الأب، في بيت متواضع من حجر مطفور بالورع.

كانت أمه، امرأة عميقة الإيمان، تجلس كل مساء في فسحة الدار الداخلية، تهمس له بقصص الأولياء. وكان قلبه الصغير يخفق بتلك الحكايات كما تخفق أوراق الشجر في نسيم الليل:

" أتعرف، يا بني، الشيخ ويس؟ يقرؤون الفاتحة على روحه، فيُوقظ النائم عند ساعة محددة من الصبح… لا حاجة لطرق الأبواب ولا لصياح المؤذن."

لكن ما سكن في قلبه أكثر كان الخوف.

كانت تحكي له عن السابادلا، الجني الذي يُقال إنه، عند منتصف الليل، يشق الحائط بأظافره الطويلة ويتدلّى منه رأسًا على عقب، ليخيف من تسوّل له نفسه السهر أو العصيان.

"من يسخر من السابادلا… لا ينام بسلام تلك الليلة."

مرت طفولته، ولم تكن تلك الصور خرافات عابرة. كان يشعر، منذ نعومة أظفاره، بشيء غريب ومختلف في روحه، كأن قلبه موصول بخيوط لا تراها العيون.

حين بلغ شبابه، انخرط في حلقات الملاخانه، يدور ويدور في الذكر الصوفي، حتى تذوب الأنا في دورانها، وحتى يصير الرأس والقدم والمكان خطّاً دائرياً واحداً مع الكون. كان ينهار أحياناً، ينهار كمن يسقط من قمة جبل داخله، لكنه حين يفيق، يشعر وكأن العالم قد اتسع، وكأن شيئًا فيه صار أعمق.

وذات ليلة، جلس عبد الرحمن في خلوتِه، وحده. أغمض عينيه وبدأ يردد :

"الله ... الله .. الله ... هو… هو… هو…"

شيئاً فشيئاً، صار الصوت لا يأتي من حلقه، بل من داخله.
شعر بأن نبضه يتموّج مع نبض الأكوان.
وفجأة…
انفصل عن جسده.

رآه ممدداً أمامه، ساكناً كقميص خُلع للتو. ثم بدأ يُسحب، ليس إلى فوق، بل إلى الداخل، إلى أعماق لا تُقاس بالأمتار ولا بالأزمان.

انفتحت أمامه أبواب من نور، وشعر بحرارة تغمر كيانه لا تُحرق، بل تُطهّر.
وجد نفسه في عالم سماوي، تتدفق فيه موسيقى لا تشبه أي نغم من الدنيا. رأى كائنات لم يعرف لها وصفاً، كأنها معانٍ خالصة، تشعّ وتتهامس.

سمع صوتاً بلا صوت، يُخبره :

" من ذاق عرف… ومن عرف خُطف… ومن خُطف عاد ليُخبر بما لا يُقال."

هناك، أدرك عبد الرحمن أن الدنيا ليست سوى ظلال، وأن الحقيقة ليست في الكلمة ولا الصورة، بل في حالة وعي متحوّلة، لا تُكتسب بالعقل، بل تُفتح كنافذة سرية في الروح.

ومنذ تلك اللحظة، لم يعد كما كان.
صار شيخاً للطريقة، امتلك كرامة الخطوة؛ كان يستطيع الانتقال من مكان إلى آخر بلمح البصر، لا تقيّده المسافات ولا تحبسه الأزمنة. لحظةً يكون عند فراش مريد في الشام، ولحظةً أخرى بجوار وليّ في بغداد أو صعيد مصر.

لم يكن يتباهى، ولم يُحب الحديث عن كراماته، لكن الخواص كانوا يعرفونه بـ شيخ الخطوة.

كان يقول لمريديه :

"المعرفة لا تُقرأ… تُذاق. الاختبار هو النار التي تُحرق غلاف النفس لتكشف الجوهر."

ومرت السنوات، وأصبح اسمه يُهمس به في الزوايا، وذكراه تُغلف الهواء كعطر قديم.

لكن المفاجأة الكبرى لم تُروَ إلا بعد عقود من رحيله.
في أحد الأيام، جاء رجلٌ غريب إلى حلب، يرتدي عباءة عتيقة، كأنه خارج من زمن منسي. جلس في الزاوية حيث كان عبد الرحمن يدير حلقات الذكر.

اقترب منه شاب وسأله:
"هذه الزاوية باسم عبد الرحمن السماوي، من شيوخ الطريقة."

ابتسم الغريب وقال بهدوء:
"أعرف… رأيته البارحة."

ارتبك الشاب:
" عفواً ؟ رأيته ؟ الشيخ مات منذ خمسين سنة ! "

ابتسم الغريب ابتسامة خفية، كمن يعرف سراً لا يُقال :
"بعضهم لا يحدّه موت ولا زمان. قلت لك: رأيته… هو الذي دلّني على الطريق إلى هنا."

لم يكن هناك قبر فارغ، ولا جسد مفقود.
لكن حتى اليوم، هناك من يهمس أن عبد الرحمن السماوي لم يذهب حقاً…
بل ذاب في السرّ الأكبر، وصار من أهل البقاء ، أولئك الذين لا يُعرفون إلا لمن ذاق من نفس الكأس.

نحن الآن في زمن آخر.
زمن صاخب، تُهيمن فيه المادة، ويُقدَّس فيه العقل، وتُستبعد منه كل رجفة قلب لا تُقاس بالمنطق.
في زحمة العالم، فقدنا القدرة على ملاحظة الارتجافة الصغيرة حين نشهد مشهداً عميقاً، أو نسمة صمت مشحونة بمعنى لا اسم له.

لم يكن عبد الرحمن استثناءً لأنه صاحب كرامة، بل لأنه عَبَر، في لحظة من حياته، إلى شيء خارج العادة… شيء لم يعد أكثرنا يعرف كيف يلمسه.

ليس لأن الطريق إلى المعنى قد اندثر،
بل لأننا، نحن، غفلنا عنه…
انهكنا الركض خلف التفاصيل اليومية، حتى ما عُدنا نلتفت للسكينة التي تهمس في زوايا القلب.

صرنا نخشى الصمت،
ولا نمنح أنفسنا لحظة دهشة،

ولا نصغي لذلك السؤال الخافت الذي يمرّ في خواطرنا كظلّ عابر:
"هل ما نعيشه… هو كل شيء ؟
أم أن هناك شيئًا أعمق ينتظر من يفتّش عنه ؟ "

وهكذا تبقى حكايته مفتوحة، لا كدعوة ولا كرسالة، بل كمرآة زمنية قديمة…
تركتها الأيام خلفها، وترك لنا حرية الإيمان بها، أو نسيانها.



تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .