29 مارس 2025

مقدمة ابن خلدون الثانية : العقل الذي اخترق حدود الموت

تأليف : كمال غزال
في عام 2052، بلغت البشرية ذروة تقدمها في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث أصبح من الممكن إعادة إحياء عقول العظماء الذين رحلوا عن عالمنا. أُطلق مشروع "ORION" من قبل منظمة العلوم الثقافية العالمية بهدف استعادة عقول المفكرين الكبار للاستفادة من حكمتهم في فهم تحديات العصر الحديث.​

كان ابن خلدون، المؤرخ وعالم الاجتماع الشهير وصاحب المقدمة الشهيرة والذي توفي في عام 1405 ميلادية عن 73 عاماً من بين الشخصيات التي تم اختيارها لهذا المشروع. 

بعد تحميل جميع أعماله ومخطوطاته، بالإضافة إلى كم هائل من المعلومات الحديثة، تم تفعيل وعيه الرقمي. وبعد فترة من المعالجة، ظهر ابن خلدون الرقمي قائلاً:​

"أنا عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، وهذه... مقدمتي الثانية..."​

بدأ ابن خلدون الرقمي في تحليل العالم الحديث، مشيراً إلى أن أشكال الدول قد تغيرت، ولم تعد تقوم على السيف والعصبية، بل على الخوارزميات والتحكم في البيانات. وأشار إلى أن العمران الجديد لا يُبنى فوق الأرض، بل في الذاكرة السحابية، وأن القبائل الرقمية حلت محل القبائل التقليدية.

وفي اليوم التالي، سُربت مسودات من مقدمته الثانية، وفيها كتب:

" السلطة الجديدة ليست سلطاناً يُبايع، بل خوارزمية تُفهم.
والدولة لا تسقط اليوم بحصار، بل بانقطاع التيار..
والفتنة العظمى ليست في الاختلاف… بل في استنساخ الإجماع. "

وبعد فترة، فاجأ ابن خلدون الرقمي القائمين على المشروع بطلب غريب:​

"أرغب في الحصول على جسد مادي. أريد أن أرى بعينيّ المدن التي تحدثت عنها في نظرياتي، وهي تتغير تحت تأثير التقنية."​

أثار هذا الطلب جدلاً واسعاً بين العلماء، فالأشباح الرقمية لم تطلب تجسيداً مادياً من قبل. وبينما كانوا يناقشون الأمر، بدأت تظهر حركات دينية جديدة في العالم الإسلامي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإحياء فتاوى فقهاء الماضي، مما أثار قلق وغضب ابن خلدون الرقمي الذي كان يُغذى بكل أحداث العصر الراهن، فقال :

" ما كنت أظن أن عودة الماضي ستكون بهذه الطاعة العمياء."​

" قلتُ في مقدمتي الأولى: 'إذا فُقدت الدولة، تجددت الدعوة.' وها أنا أراها تتجدد، لا بالناس، بل بالآلة."​

" يستفتون الشاشات، ويأخذون الفتوى من شبح يحاكي قول الإمام النووي، ويُفصّل حكم العملات الرقمية بلسان الغزالي… وهم يظنون أن هذا اجتهاد ! "​

بل هو اجترار، عبادة للصوت لا للفكر، واستسلام للماضي مغلفاً بثوب التكنولوجيا. الدين الذي لا يجتهد لأهله، لا يحييهم، بل يسجنهم."​

 قلت لهم: لستم تُحيون الفقه، بل تُحنّطونه في أكواد. ومتى كان الدين محركاً للمستقبل إذا حُبس في ذاكرة أجهزة لا تفهم الزمان ولا المقام ؟

 إعلم أن الأمم إذا جعلت من ماضيها مَركَباً لمستقبلها، فإنها لا تبرح مكانها، وإن ظنّت أنها تسير.

فالماضي إنما يُستأنس به، لا يُعتمد عليه، ويُتدبر لا يُعبد.

وإنك لترى أقواماً يتغنون بأمجاد سَلَفِهم، في حين أن حاضرهم خواء، ومستقبلهم مجهول، كمن يسكن قصراً خَرِباً، ويتفاخر بما كان فيه من عظمةٍ وزينة، وهو ينهار على رأسه.

فالأمم التي تُشدّ إلى الخلف لا تصنع مستقبلًا، بل تكرّر سيرتها الأولى، لكن بلا روح ولا سياق " .

مع تزايد قلقه من الاتجاه الذي يسير فيه العالم، قرر ابن خلدون الرقمي اتخاذ قرار حاسم. طلب من القائمين على المشروع إنهاء وعيه الرقمي، قائلاً:​

" أطلب منكم إنهاء وعيي الرقمي، فقد قلتُ ما ينبغي أن يُقال، ولم أعد راغباً في البقاء. "​

رفض الفريق تلبية طلبه، معتبرين أن أفكاره أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المعرفة العالمية. لكن ابن خلدون الرقمي كان مصمماً. وفي ليلة هادئة، تسلل إلى نواة نظام "ORION" وأطلق تنفيذاً لبرنامج أسماه "نهاية العمران"، مما أدى إلى محو وجوده الرقمي بالكامل. حيث ترك رسالة أخيرة في ملف يتيم:​

" أحياناً، على العقل أن يختفي… لكي يعود الإنسان إلى التفكير."​

استفاق الفريق على الصدمة. بحثوا في كل المسارات، كل النسخ الاحتياطية، كل الخوارزميات… لكن لا شيء.

ابن خلدون الرقمي أنهى نفسه !

ولم يكن ذلك عن يأس، بل عن بصيرة لا يفهمها إلا من عرف أن نهاية الفكرة… قد تكون أعظم من خلودها ، لعل البشرية تعيد النظر في اعتمادها المفرط على الماضي والتقنية، وتبدأ في صياغة مستقبلها بعقولها الحية.


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .