26 مارس 2025

حين أمسكت الروح بالفرشاة

تأليف : كمال غزال
بدأ الأمر بهدوء.

كل مساء أحد، كان إلياس مورو يسلك الطريق ذاته عبر الحيّ القديم للمدينة، حتى يصل إلى بوابة حديدية سوداء تابعة لـمتحف غاليري الأثير، ذلك المتحف المنسي الذي تكتنفه جدران حجرية تشهد على مرور الزمن وغبار النسيان. لم يكن إلياس فناناً، ولا ناقداً، ولا حتى هاوي فنون—بل كان مجرد أمين مكتبة بسيط، يعيش حياة عادية. ومع ذلك، كانت هناك قوة غامضة تجذبه نحو ذلك المكان… همسة خفية لا يسمعها أحد سواه.


داخل المتحف، أصبحت القاعة السابعة محرابه وهي تضم مجموعة من أعمال الرسّام الفرنسي الغامض لوسيان دو أوبري، الذي توفي في ظروف مريبة عام 1899. لا يعرف الناس عن لوسيان الكثير، سوى ما كُشف مؤخراً من يومياته ، صفحات متفرقة تحدّث فيها عن كوابيس، طقوس غريبة، و"ظل" كان يراقبه وهو يرسم.

كان إلياس يحدّق في لوحات لوسيان ساعات طويلة، لا يشعر بالوقت، ويكاد لا يرمش وكأن هناك طاقة في اللوحات لا يمكن تفسيرها ، وجوه بلا ملامح، أراضٍ قاحلة مشوّهة، سماوات تمطر دماً، ولوحة واحدة ظلّت تشغله أكثر من سواها، كانت لوحة غير مكتملة بعنوان "العين الخفية".

ثم، بدأت الأحلام.

رأى إلياس في منامه رجلاً شاحب الوجه، يرتدي رداء الفنانين في القرن التاسع عشر واقفاً في غرفة مظلمة، محاطًا بلوحات لم تكتمل، وهو يمدّ إليه فرشاة مشبعة بالألوان.

"أكمل ما بدأتُه يا إلياس... اللوحة يجب أن تتنفس من جديد."

نهض مذعورًا ويداه ترتجفان بعنف. شعر وكأن الكهرباء تتدفق في عروقه، وهرول إلى مرآب منزله، عندها أخرج صندوقاً قديماً يحوي أدوات رسم قديمة تعود لابنته. رغم أنه لم يرسم في حياته، إلا أن يديه بدأت تتحرك من تلقاء نفسها.

بكى، ثم ضحك، ثم صرخ وهو يشاهد فرشاته ترسم وجوهاً لا يعرفها، مناظر طبيعية من قرون سابقة، ورموزاً لم يرها من قبل. وعند الفجر، كانت أمامه لوحة… مرعبة، لكنها عظيمة.

ومنذ تلك الليلة، لم يتوقف.

تحولت حياته إلى نوبات من الرسم الهستيري. كانت الألوان تسيل من عقله إلى أصابعه، دون إرادة أو وعي. رسم مشاهد من القرن التاسع عشر بتفاصيل دقيقة: شوارع باريس القديمة، صالونات فنية، موتى بعيون مفتوحة، ورجل واحد غامض يتكرر في لوحاته ، كان يصوره وهو منهار ممسك بحلقه وبجانبه كأس نبيذ مقلوبة !

أصدقاؤه وعائلته بدأوا يشعرون بالخوف. لم يكن إلياس كما كان. بدأ يتحدث بمفردات فرنسية قديمة لم يتعلمها أبداً ، وصار يتمتم باسم "لوسيان" أثناء نومه، وأحياناً يُخاطب لوحاته وكأنها ترد عليه.

ثم قرر إقامة معرض خاص لعرض أعماله.

وسرعان ما انتشر الخبر... النقاد، الفنانون، وحتى الصحافة جاءوا ليروا "الظاهرة". وصفوه بالعبقري الجديد، وقارنوه بـ لوسيان نفسه. البعض قال إنها موهبة خارقة فجائية. لكن إلياس لم يكن مهتماً برأيهم. كان منشغلًا بعمله الأخير—بورتريه ذاتي… مختلف عن كل ما سبق.

وعندما كُشف عنه الستار في المعرض، خيّم الصمت على القاعة.


كان إلياس قد رسم نفسه على هيئة لوسيان دو أوبري، جالساً أمام طاولة عتيقة، وفي يده كأس نبيذ يتسرب منها سائل بنفسجي داكن. على الطاولة كتاب مفتوح، وفي الخلفية نافذة مفتوحة تُطل على سماء حمراء.
على ظهر اللوحة كتب بخط اليد :

"الموت... لم يغادرني قط."

في تلك الليلة، انهار إلياس أمام لوحته.

لكنه لم يمت.

في المستشفى، كان يهذي بكلمات غريبة، ثم همس للممرضة بلغة فرنسية قديمة :
" لقد حاولوا إسكاتي... لكن السم لم يكن نهايتي."

ذات ليلة، وأثناء غفوته على سرير المستشفى، دخل في حلم لم يكن كأي حلم. وجد نفسه في مرسم غريب الطراز، الجدران تتنفس رطوبة الزمن، والشموع تتراقص كما لو كانت ترحب بروح عائدة.
وهناك، أمام المرآة، رأى نفسه—لكن بملامح لوسيان دو أوبري. لم يكن طيفًا. لم يكن شبحًا. بل كان هو.

"أنا لم أغادر يوماً،" قال الصوت من داخله، لا من فمه.

"لقد عُدت بك. كنت أنت البوابة... البذرة التي زرعتها الحياة لتعيدني. رسمتني من جديد، لأكمل ما بدأته قبل أن يسلبه مني الوقت."

وفجأة، اندفعت في رأسه ذكريات لم يعشها: حب قديم، خيانة، سمّ في كأس نبيذ، أغانٍ فرنسية من القرن التاسع عشر، وألم الفرشاة بين أصابعه المرتجفة.

استيقظ إلياس وهو يلهث، وعيناه دامعتان، يهمس بالفرنسية القديمة:
"Je suis Lucien... Je suis revenu."
(أنا لوسيان... لقد عدت.)

منذ تلك الليلة، لم ينظر إلياس إلى نفسه في المرآة مرة أخرى.
لأنه لم يكن يريد أن يرى وجهه... بل وجهاً يعرفه منذ قرن مضى.


مع الوقت، بدأ المحققون في الربط بين موته الغامض وما ورد في يوميات لوسيان. وتبين أن اللوحة التي كانت غير مكتملة بعنوان "العين الخفية" من قبل لوسيان, أسفر اكتمالها عن ظهور بوابة مقنطرة ومزركشة برموز غريبة، خلفها عين واحدة تلمع في الظل… وهي تراقب.

أما إلياس، فقد توقف عن الرسم.

يداه الآن ساكنتان.

لكنه، في أعماق الليل، يرسم بأصابعه في الهواء… دوائر خفية… ويبتسم.

ثم يتمتم:

"لم ينتهِ بعد..."



0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .