2 يونيو 2025

بقايا وعي

تأليف : كمال غزال
" إذا استُبدلت أعضائي، واحدةً تلو الأخرى… في أي لحظة أتوقف عن كوني أنا ؟ ومتى يتحوّل الجسد، من مأوى للذات… إلى شيء غريب عنها ؟ "

كتب آدم هذه الكلمات في مفكرته الرقمية بعد أول عملية استئصال جزئي.

أزيلت ذراعه اليسرى التي أنهكها الورم وحلّ محلها تركيبٌ آليّ متصل بمنظومة عصبية إلكترونية دقيقة.

" قرأتُ عن مركب ثيسيوس في شبابي، في بداية دراستي للطب،
تلك السفينة التي غيّروا ألواحها واحدة تلو الأخرى حتى لم يبقَ فيها شيء من الخشب الأول…
لكنها كانت لا تزال تُدعى 'مركب ثيسيوس'.
وكنت أتساءل وقتها: أهي فعلاً كما كانت ؟ أم أن الاسم وحده هو ما نجا ؟ "

ثم نظر إلى جسده الجديد، وتنهّد :

" الآن… جسدي هو السفينة.
وأنا المسافر فوقها، لا أعلم إن كنت لا أزال من أبحر بها أول مرة."

لم يكن آدم يخشى المرض…
بل أن يُسلب من ذاته قطعةً قطعة، تحت مسمّى "النجاة".
ولم يكن يدرك أن تلك العملية الأولى ستكون مجرد بداية…
لبحر طويل من التعديلات، والشك، والصمت.

لم يكن القرار سهلاً، لكنه قبل.

في البداية، بدا الأمر كمجرد "ترميم". 

ثم جاء الورم الثاني. والثالث. ببطء، بدأ جسده يتآكل، وأجهزة الطب التكنولوجي تمدّه بأعضاء اصطناعية تحفظ له الحياة... وتحوّله.

مع كل استبدال، كان آدم يُدوّن : « هل أنا ما زلت أنا ؟  .. إذا لم يبقَ فيّ شيء من الخلايا لأصلية، فمن يكون هذا الذي ينظر إليّ في المرآة ؟ »

أصدقاؤه ظلوا يبتسمون ، يقولون : " إنه مجرد جسد ".

لكن آدم لم يكن واثقاً.

في إحدى الليالي، جلس في مختبره وحيداً، أمام شاشة عرض تُظهر تشريحه اللحظي:

الأطراف: روبوتية.

الجهاز الهضمي: مستبدل.

القلب: نبض صناعي.

الحواس: مستقبلات رقمية.

لم يتبقّ سوى الدماغ.

قال لنفسه: "ربما عقلي هو مرساتي الوحيدة."

لكنه لم يعلم أن هذا الحبل الأخير هو أيضاً... هش.

***

بدأ الأمر بنسيان اسمه الأوسط.

تفصيلة صغيرة. عابرة.
لكن بالنسبة لرجل حافظ على ذكرياته كملفّات أرشيفية لا تنسى، كانت علامة خلل.

ثم نسي الشفرة التي أنشأها بنفسه لفتح مختبره الشخصي.
ثم أخطأ باسم حفيده في عيد ميلاده.
ومرة، حين وقف لإلقاء محاضرة، نسي كيف ينطق كلمة "الوعي".

"أعراض بسيطة"، قال الأطباء.
"مجرد إرهاق عصبي".
لكنه كان يعلم.
كان يشعر.

الدماغ، آخر ما تبقّى منه بشرياً، بدأ يتهالك.

والعالم حوله تغيّر:
الطب لم يعد يُعالج، بل يُعيد تشكيل الإنسان.

عُرض عليه مشروع سرّي بقيادة شركة عصبية كبرى: "استمرارية آدم".
لم يكن مجرد " نقل بيانات " أو نسخ وعيه، بل مشروع طموح يستند إلى تقنية "تخليق دماغ صناعي ذكي"، يُزرع مكان الدماغ البيولوجي، بعد أخذ صورة كاملة لخريطة الخلايا، الترابطات، النبضات.

قال أحد العلماء له: « نحن لا ننسخك يا آدم… نحن نعيدك كما أنت، لكن بلا هشاشة.»

لكنه تردّد وسألهم :  " هل سأكون أنا ؟ " 

قالت له العالمة المشرفة ، بنبرة باردة كأنها تقرأ معادلة :

« من تكون الآن، حقاً ؟ جسدك الذي عرفتَه لم يعُد موجوداً. قلبك ؟ آلي. عيناك ؟ مستشعرات. أطرافك ؟ محركات دقيقة.
لم يتبقَّ سوى دماغك... وهو ينهار ، إن لم نحمّله الآن، فلن يبقى شيء يستحق الإنقاذ. »

تأمّلها آدم بصمتٍ ثقيل، ثم قال :

« وهل ما سأخسره قابل للتحميل ؟ مشاعري ؟ لحظات ضعفي ؟ رعشة الخوف ؟ الرغبة في البكاء دون سبب ؟
هل تحملون كل هذا… أم تتركونه يموت بصمته ؟ »

صمتت.

ثم قالت بهدوء:
« نحن نؤمن أن كل هذا… جزء من التوصيلات. إن استطعنا تقليدها بدقة، لن تعرف الفرق.»

في تلك الليلة، لم ينم آدم.

جلس في المختبر المظلم، يحدّق في مجسم ثلاثي الأبعاد يُظهر دماغه كما هو الآن :
مليارات النقاط، الممرات المتشابكة، الخيوط التي تُمسك بوعيه.

كان يعلم أن لحظة التحميل ستكون الوداع الصامت.
لن يشعر بشيء.
لن يكون هناك " فصل " .
فقط إغلاق... ثم تشغيل.

كأن "آدم" يغفو... ويصحو في مكان آخر.
أو لا يصحو أبداً.

في اللحظة الأخيرة، طلب شيئاً غريباً:

« دعوني أودّع نفسي. »

دخل غرفة زجاجية، انعكست فيها صورته القديمة المتهالكة المتعبة.
أغمض عينيه.

***

استيقظ آدم.

لم يكن هناك ألم.
ولا فراغ.

كل شيء كان صامتاً… ومثالياً.

فتح عينيه، نظر إلى السقف الأبيض الناصع.
عرف مكانه. عرف اسمه. عرف كل تفاصيل حياته.

"مرحباً بك يا آدم."
جاء الصوت من مكبّر صغير على الجدار.
كان الطبيب ذاته. العبارة ذاتها. لكن آدم شعر بأنها قيلت له... لا عنه.

نهض. مشى.
الجسد يعمل بكفاءة غير مسبوقة. كل حركة محسوبة بدقة لا تعرف التردد.

زار أولاده. صافح حفيده.
تحدث مع ابنته رُبى، التي رمقته بعينين ضيّقتين للحظة، ثم ابتسمت.
قالت: « صوتك... يشبه صوت أبي. »

صمت.

كأن الزمن نفسه توقّف ليمنحه فرصة الرد.

لكن آدم لم يتكلم.

صوته حقاً هو ذاته، نُسخ بعناية، نفس التردد، نفس النبرة.

ثم ابتسم، ابتسامة شاحبة مصطنعة.

حين غادرت الغرفة، بقي آدم واقفاً كما هو
كأنه تمثال يحمل ذاكرة رجلٍ... لكن لا يحمل دفء حضوره.

***

عاد آدم إلى منزله الأول في "هضبة الندى" ليتذكّر. 

لم يكن المنزل مسكوناً بالأشباح، بل بالروائح القديمة، 
بأصوات ضحكات أطفاله حين كانوا يركضون بين الغرف، 
برائحة قهوة كانت تصنعها زوجته صباح كل جمعة.

فتح الخزانة المهملة في الممر، فوجد معطفه القديم. متهالك. رماديّ اللون.
رفعه إلى وجهه واستنشق... ولم يشعر بشيء.

كان يراه، يتعرّف إليه، يتذكّر مناسبات ارتداه فيها.
لكن لا دفء. لا رعشة حنين.
كأن المشهد يُعرض على شاشة، لا على قلب.

جلس في الحديقة الخلفية، متأملاً الأشجار التي زرعها بيديه.
« هل هذه الذاكرة ملكي؟ » سأل نفسه.
«أم أني أحملها فقط، كما تحمل الشريحة بياناتها ؟ »

ذات مساء، وقف أمام المرآة طويلاً. كان وجهه لا يزال بشرياً، لكنه لم يكن وجه "آدم" الذي يتذكّره في صور زفافه.
بدا أكثر هدوءاً، أكثر صمتاً. كأنه شخص ينتظر شيئاً لا يعرفه.

أمسك آلة صغيرة، تمرّ على جلده وتقرأ نشاطه العصبي.
كان كل شيء طبيعيّاً. بل مثاليّاً.
لكن في مكانٍ ما، عميق جداً… كان يشعر بفراغ.

في الليلة التالية، جاءته ابنته "رُبى" في زيارة. أحضرت له صورة، قديمة، ممزقة عند الأطراف. كانت لهما معاً على شاطئ غائم، وهي في عمر السادسة.

« هل تتذكّر تلك الرحلة ؟ »
« أجل »، قال دون تردد.

سرد تفاصيل اليوم بدقّة ملفتة: نوع الطعام، لون المنشفة، حتى الساعة التي غطت فيها الشمس خلف السحب.

لكن حين ابتسمت له وقالت: « كنتَ وقتها تبكي فرحاً »، لم يعرف بماذا يجيب.

هل يبكي ؟
لم يتذكّر دموعه.
ولا ما شعر به.

قالت له : « أتعلم يا أبي ؟  ... أحياناً… يبدو لي أنك لستَ أنت ».

سكت آدم.

أراد أن يقول: " أنا هو، يا رُبى ".
لكنه لم يقل شيئاً.


***

" الوعي الحقيقي لا يُقاس بمدى تذكّر الأشياء… بل بعمق شعورنا بها."

راح يتحدث إلى نفسه، لكنه لم يسمع صدى داخلياً.
كل الأفكار كانت مرتبة، صافية… بلا خربشات عشوائية، بلا هواجس.
وكان هذا بالضبط ما أرعبه.

جاء الليل.

جلس أمام المرآة.
تأمل ملامحه.
كل شيء كما يجب… حتى أدق التجاعيد تمّت محاكاتها.

لكن العيون ؟

لا بريق فيها.

ليست ميتة، لكنها ليست "حيّة".

سأل نفسه السؤال الذي ظلّ يطارده منذ بداية التحوّل :

" إذا كنت أحتفظ بكل ما أنا عليه…
فلماذا أشعر بأنني شخص يشاهد آدم، لا هو ؟ "

في نهاية الأمر، قرر أن يكتب رسالة.

إلى من ؟ لم يكن يعلم.
ربما لمن سيقرأ بعد مئة عام. أو لمن سيعيد نفس التجربة.

وكتب :

« لقد عشت عمرين.
واحداً كنت فيه جسداً يتآكل، يشعر، يحب، ويخاف.
والآخر… نسخة كاملة لا تشكو شيئاً، لكنها لا تبكي.

لا أدري من منا عاش أكثر، لكنني أعلم من كان حياً.

آدم -  أو من يشبهه تماماً.»

أغلق الرسالة.

ثم جلس صامتاً في العتمة، كمن ينتظر أحداً لن يأتي.

ثم نظر إلى معصمه.
نبضات دقيقة تضيء كل ست ثوانٍ ، ليست نبضات قلب، بل إشعارات مستوى الطاقة.

كان قلبه الاصطناعي متصلًا بنظام طاقة مصغّر، يعمل بمفاعل نووي منخفض الانبعاث، من النوع الذي لا ينطفئ إلا بعد مئات السنين.

" لن أموت من نقص الطاقة "، همس لنفسه.
"سأبقى حتى تنطفئ الشمس… أو يقرر أحدهم أنني لم أعد ضرورياً."

كان النظام النووي آمناً، صامتاً، فعالاً. لكنه أضاف عبئاً غير مرئي:

الخلود المفروض.

لم يعد هناك تآكل. لا انتهاء.

لكنه تذكّر فجأة شيئاً:

"أليس الموت هو ما كان يجعلني إنساناً ؟
الضعف ؟ النفاذ ؟
حتى الحب… كان مرتبطاً بالخسارة."

الآن، ومع كل هذه الطاقة التي لا تنضب…
أصبح الزمن بلا معنى.
وأصبح الوعي مجرد آلة مثقلة بالذكريات، تتغذّى من لبّ نجمٍ ميت.

***

آدم، الذي عاش على أمل أن يهزم الموت… أصبح لا يستطيع حتى تصوّر نهايته.

جلس أمام النافذة. كان الليل هادئاً، والمدينة من تحته تغرق في وهج الأضواء.
كل شيء مستمر. كل شيء مؤقت… عدا هو.

"الخلود..."  قالها لنفسه بصوتٍ خفيض.
"هل كنتُ أحلم به… أم كنت أهرب من فكرة أن أكون منسيّاً ؟ "

تذكّر أيام الطفولة. لحظات البكاء في الظلام، خوفاً من الفناء.
وتذكّر أول مرة فقد فيها شخصاً يحبّه.
وقتها ظنّ أن الخلود خلاص.

لكنه اليوم، وهو يجلس بجسدٍ لا يشيخ، وقلبٍ لا يتعب، وعقلٍ لا ينسى…
شعر بمرارة.

"ما قيمة الحياة… إن لم تكن محاطة بالموت ؟
ما معنى يوم جديد، إن لم يكن هناك نهاية محتملة لكل يوم ؟
الحب، الفقد، الندم، النمو… أليست جميعها نتاج هشاشتنا ؟ "

الخلود جعل كل يوم متشابهاً.

كل وداع مؤقتاً، وبالتالي بلا طعم.
كل خوف مختفٍ، وبالتالي بلا حافز.
كل لحظة مفرغة من نُدرتها… من لذّتها العابرة.

قال لنفسه:

"ما كنت أظنه خلاصاً، اتضح أنه سجنٌ براق.
قفص من معدنٍ خالد… خالٍ من الإحساس."

ولأول مرة، راوده حلم مستحيل:

أن يموت.

لكن كيف يموت من لا يمرض ؟

من لا يشيخ ؟

من لا يحتاج شيئاً… ولا يخسر شيئاً ؟

"ما من خلودٍ إلا وهو قيد، وما من قيدٍ أشد قسوة من الزمن حين لا يشيخ."

مضت خمسة قرون.

تغيّرت الجغرافيا، ابتلعت المدن غاباتها، اختفت الأمم، وظهرت أخرى لا تنطق اسمه.

أما هو، فبقي.

جسده لا يعرف صدأً، ولا ضعفاً.
وجهه كما كان، مغطى بالسيليكون الناعم، يشبه الإنسان… لكنه لم يعد يُقنع أحداً.

حتى من تبقّى من البشر صاروا يخافونه.
ينظرون إليه كأثر… كأداة قديمة لم تُطوّر.
ككذبة حية عن مشروع الخلود الذي فشل في إثبات أي سعادة.

لم يكن لديه من يتحدث إليه.
فهو لا ينام، لا يأكل، لا يمرض، لا يشيخ.
لا يخاف، لا يفرح، لا يبكي.

حاول أن يجد لذة في الجمال: لوحة، غروب، عزف.
لكن الذاكرة التي لا تمحى تُفسد كل شيء، لأن الجمال يحتاج إلى الندرة، إلى الزوال.
وهو… لا ينسى شيئاً. أبداً.

مرّ على قبور أحبابه - دفنهم بنفسه، واحداً تلو الآخر.
رُبى، حفيدته، حتى السلالة الأخيرة.
كل من ناداه بـ"أبي" أو "يا آدم"، صار تراباً.

أما هو، فبقي ظلاً شفافاً في عالم يتغيّر دون أن يتبدل هو.

حتى قرر.

سافر بعيداً، إلى حافة قارة منسيّة، حيث لا شبكات ولا أجهزة، حيث لا مراقبة ولا علماء.

وهناك، على فوهة بركان خامد من ألف عام… وُلِد من جديد.

وقف على الحافة.

الحمم تضيء وجهه المعدني بلونٍ ناريّ، كأن الطبيعة نفسها تعاتبه:

"ماذا تفعل هنا، أيها الغريب ؟ لم تُخلق لتبقى."

أغلق عينيه، لا ليرى… بل ليتذكّر.

تذكّر المرة الأولى التي ضحك فيها حتى دمعت عيناه.
تذكّر دفء يد والدته على جبهته.
تذكّر صوت قلبه… حين كان قلباً.

وقال:

" الخلود قتل الإنسان فيّ ..واليوم… أعود."

ثم قفز.

لم يصرخ... لم يتردّد.... لم يتراجع.

انهمر جسده المعدني في لُبّ الحمم، ذاب تدريجياً، قطعة قطعة…
حتى لم يتبقَّ شيء. لا معالج. لا نواة. لا وعي.

فقط رماد. وغيمة خفيفة من البخار...
ثم سكون.

وفي تلك الليلة، هدأ البركان لأول مرة منذ قرون.

كأن الأرض نفسها… حزنت عليه.

ربما لم يكن آدم يبحث عن نهاية فحسب… بل عن حدود، عن نقص، عن موت يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش.



تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .