28 مايو 2025

سرير لا يسعني

تأليف : كمال غزال
لم أكن أظن أن امرأةً مثلي، رزينة في حبها، هادئة في غيرتها، قد تخاف من باب خزانة.

كنت أراقبه كل ليلة، حين تنطفئ أضواء البيت الكبير، ويعم الصمت في أركانه.

كان باب الخزانة الخشبي، يتحرك كأن فيه نَفَس. لا يُفتح فجأة. لا يصدر صوتاً. بل ينزلق… ببطء مريب، كأن أحداً في الداخل يختبر مزاج الليل.

زوجي، أمين، كان يضحك حين أحدثه عن ذلك.

" مجرد تيارات هواء، سُهى... أو ربما… روح ساكنة رقيقة لا تريدك أن تنسي أنها هنا."

ضحكتُ معه في المرات الأولى، ضحكة من يخشى أن يبدو مجنوناً. لكنّ شيئاً ما في هذه الخزانة كان يتغير. 

كأنها لم تعد خزانة… بل عينٌ لا تغفو، تتلصص من عالمٍ لا يخصّنا، وتنتظر لحظة غفلتنا لتطلّ علينا من جديد.

انتقلنا إلى هذا المنزل منذ شهرين. بيت ريفي، بأبواب خشبية وسقف مائل، وصوت أرضية تُئن تحت الخطى. اشتراه أمين بعد سنوات من الادخار، وقال إنه سيمنحنا حياةً تشبه ما نقرأه في الروايات.

لم يكن يعلم أنني سأصبح فيه بطلته المنسية.

كانت البداية بريئة. مجرّد شكوك. ثم بدأت أستيقظ كل ليلة على اهتزاز خفيف في السرير، كأن أحداً يجلس عليه دون أن يراه أحد.

ظننتها حركات جسده. لكنني كنت أراقبه: ساكناً، يداه تحت رأسه، أنفاسه ثقيلة… ثم فجأة، يتحرك صدره كمن يُقبّل في حلم.، وجهه كان مرتخياً… ومبتسماً، كما لم يكن معي من قبل.

ذات ليلة، أزحت الغطاء عنه لأفهم. ما رأيته لم يكن خداع عين.

كان جسده يتحرك كما لو أن يداً لا تُرى تلامسه.. جلده يرتجف... عضلاته تنقبض بلذة. لم أره هكذا… حتى في أكثر لحظاتنا قرباً.

ناديت عليه ..مرة... مرتين..لم يجبني.

حين هززته بقوة، فتح عينيه أخيراً، ونظر إليّ دون أن يراني… ثم شهق بصوت عميق، كأن شيئاً داخله بلغ قمته، ثم غاب.

" لقد كنتُ أحلم… أظن. حلم غريب، لكنه ممتع… لم أرغب بأن أستيقظ منه"

قالها وهو ما يزال في أثر اللمسة ..تلك اللمسة التي لم تكن مني.

في الصباح، لم أتحدث ...جمعت ملابسه عن الأرض. نظفت رائحة غريبة في الغرفة… مزيج من شيء حلو، وحارق، كأن ناراً قد التهمت عطر امرأة.

ومع الوقت، بدأت أشك في نفسي.

هل أنا مريضة ؟ هل أتوهم ؟ أغار لدرجة أن عقلي يخلق عشيقة خفية لزوجي ؟

بدأت أتهرب من مرآتي. من سريري. من جسدي.

وعندما همست له ذات ليلة، وسألته :

" هل تشعر بها؟ "

أجابني وهو مغمض العينين:

"أحياناً… أعتقد أنها تعرفني أكثر منك."


***

لم أعد قادرة على التمييز بين الغيرة… والهوس.

هل كنت أغار من خيال ؟ من ظلّ ؟ من فراغ ناعم يدخل بيننا في الليل ؟ أم أنني كنت، فعلاً، الزوجة الوحيدة في هذا البيت ؟!

قررت تلك الليلة أن أبقى مستيقظة.

جلست على طرف السرير، كما تجلس سيدة في ممرّ انتظار. الضوء خافت، والبيت ساكن، وباب الخزانة مفتوح قليلاً، كما لو أنه يعرف أنني أراقب.

ثم رأيتها.

لم تخرج من الخزانة… بل انسكبت منها.

كانت كتلة من الظلال المتماوجة، تتخذ هيئة أنثى بوضوح مربك. لا وجه، لا صوت… لكن جسدها يُرسم في الهواء كأنه من لحمٍ معتم، ينبض بصمت. 

شعرها دخان أسود ينسدل كستارة ليلٍ لا ينتهي، وعطرها… هو ذاته الأثر المُرّ الذي تركته ذلك الصباح، مزيج من رمادٍ محروق وعطر أنثوي لا يُنسى.

اقتربت منه… لا لتلمسه، بل لتتسلل داخله، كأنها دخان يعرف طريقه إلى القلب قبل الجسد.

أمين، زوجي، لم يتحرّك، لكنه بدأ يتنفس كما يتنفس العاشق حين يوشك أن يغيب.

لم أكن خائفة… بل مُهانة.

أنا زوجته، وها أنا أراقب امرأة أخرى – حتى وإن لم تكن من هذا العالم – تدخل جسده، وتطبع فيه لذتها، بينما أنا… غريبة عن الرجل الذي نمتُ بجواره اثنتي عشر عاماً.

أنظر إلى أنثى من العدم تتسلّل إلى جسده كمن تعرفه أكثر مني. كمن تحفظ خريطته بلمسة…وها أنا الليلة… غريبة في حضنٍ كنت أظنه ملاذي.

اقتربت منه. وضعت كفي على صدره، المكان الذي طالما خفق باسمي… فلم يشعر بي !

حدّقت في الخزانة، وها هي هناك مجدداً … واقفة ساكنة، لكن ساخرة، كما لو أن وجودي بات محض عبثٍ لا يُخيفها. تلك الأنثى المجهولة، تتنفس بجسده وكأنها خُلقت من نبضه، وكأن روحه كانت بيتها قبلي.

مددت كفي المرتجفة إلى صدره… أحاول أن أستعيده بلمسة، بصوت، بأي شيء بقي مني، ثم قلت بوجع :

" هذا جسدي… وهذا زوجي. اخرجي "

وفي اللحظة التي نطقت بها، شعرت بشيء بارد يمرّ من خلالي… ثم اختفت 

في تلك اللحظة شهق أمين ، كما يفعل من استيقظ من حلم عميق. 
ثم انكفأ إلى الخلف. لم ينظر إليّ… بل إلى الخزانة.


في الليلة التي تلتها… لم أنم.

أبقيت الخزانة مفتوحة، وأنا جالسة أمامها. أنتظرها.

وللمرة الأولى… لم تأتِ.

لكني أدركت أنني لا أنتظرها هي.

أنا أنتظر نفسي.

لأني، في مكانٍ ما، بدأت أفكر: ماذا لو كانت داخلي ؟ ماذا لو أنني من خلقتها ؟ ماذا لو أنني أردتُها… لأني لم أعد كافية لنفسي ؟ ولا له ؟


***

لم أعد تلك المرأة التي كنت،  شيء داخلي انكسر، لكن شيئاً آخر ... عنيد ويائس نهض مكانه.

أصبحت أقلب كتباً كنت أحتقرها من قبل… صفحات صفراء تنبض بالخرافة، رُقى وأدعية وطلاسم، أعشاب تُسحق وهمسات تُتلى، وطقوس وُلدت من عصور لا تعترف بها العلوم، لكنها تتنفس في أروقة الخوف.

الملح. الماء. النية.

ثلاثة أسلحة… وكل ما أملك.

بدأت بالملح. رَشَشْته ناعمًا على عتبة الخزانة، بخط مستقيم صارم. قرأت أن من لا ينتمي إلى عالمنا لا يجرؤ على عبوره. أقنعت نفسي أن الخط الأبيض سيف. ثم أغلقت الأبواب… وكأنني أُحكم قفصاً على كابوسي.

في تلك الليلة، جلست إلى الماء. همست عليه بآيات الحفظ كما كانت جدتي تفعل في ليالي المرض الطويلة. كان صوتي مكسورًا… لكنه صادق. سقيت زوجي من الكأس قبل أن ينام.

"لأجل راحتك."  قلت له.

ابتسم. لم يصدّق… لكنه شرب.

في تلك الليلة، لم تنفتح الخزانة.

لكنني لم أفرح.

لأن ما حدث بعدها… لم يكن راحة.

عندما انطفأت الأنوار، واستلقيتُ على السرير بجانبه، شعرت بشيء حارق… كأن سيخاً من لهب غُرس في ظهري.

قفزت. شهقت. لم يكن هناك شيء… لكن كان هناك كل شيء.

حاولت العودة للنوم… لكن الألم يتكرّر، كلما لمست الوسادة بجانبه. كأن السرير ذاته رفضني.

لم أُخبر أمين. لم أُرد أن أبدو ضعيفة. لكنني بدأت أنام على الأريكة. والذنب يحترق في عينيّ كل صباح.

في اليوم الثالث، اختفى الخط الأبيض من الملح.

رأيته بأمّ عينيّ. لم يُسقطه الهواء. لم تلمسه يد. بدا كما لو أن شيئاً ابتلعه… أو اجتازه.

تلك الليلة، سمعت ضحكة. ليست ضحكة عالية. بل نفَس طويل، ساخن، واثق.

وهمست لنفسي، لا أدري لماذا : " أنتِ أغضبتِها… "

بدأت الهجمات تتوجه نحوي.

لم تعد تظهر لزوجي فقط.

كنت أجلس وحدي في المطبخ، في المساء، وأشعر بنفَس على رقبتي. رائحة العنبر والرماد عادت، أقوى هذه المرة، حتى أنني شممتها على ملابسي أنا.

"هل بدأت تلمسني ؟ هل تتحداني ؟ أم تسخر ؟"

في اليوم الخامس، استيقظت على خدش في ظهري. ثلاث خطوط، حمراء، دقيقة… كأن أحدهم مرر أظافره ببطء على جلدي.

فتحت المرآة. تأملت نفسي. كنت أبدو كأرملة في ثوب امرأة.

أمين ؟  لم يعد يسأل لماذا لا أنام قربه.

كأنني أصبحت ضيفاً غير مُرحّب به في عالمه. 

بات وجودي رغم حضوره خارج مداره… خارج جسده… خارج السرير الذي كان يوماً لي.

أردت أن أصرخ. أن أنفض هذه الغصة التي تكبر في صدري كغصن شوك. لكن ما خرج مني… كان الصمت.

لأنني عرفت.

عرفت أن المعركة حُسمت دون أن تُعلن.
أن الخسارة لم تكن فيه… بل فيي.
أنا من انكمشت… من انطفأت… من تراجعت إلى الهامش.

أنا الآن الغريبة في بيتي. في غرفتي. في جسدي.
أنا من تنام على الأريكة، وتكتب كي لا تختفي بالكامل.

أكتب… وأنا أراقب الخزانة.

الخزانة التي لم تعد تُخفي شيئاً.
لم تعد تهمس… بل تعلن.
لم تعد تسرق… بل تسكن.

هي هنا.

لا تطلب الإذن.
لا تخشى المواجهة.
لا تغادر.

أما أنا…

فأنا ما عدت هنا.

غادرت السرير، قبل أن أغادر نفسي.

نعم، ما زلت أعيش في هذا البيت.
لكن سريرنا… ما عاد يسعني.




تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .