5 مايو 2025

صرخة تاه صداها

تأليف : كمال غزال
حين أنظرُ الآنَ إلى يديّ الهزيلتين وهما ترتجفان فوق غطاء السرير الأبيض، أتساءل: هل كانت حياتي مجرد رحلة طويلة من الصمت، منذ أول صرخة أطلقتُها في هذا العالم ؟

منذ طفولتي في قرية صغيرة نائية شمال المغرب، كان الليل يحضر معه غرباءً لا تراهم سوى عيناي.

ظلالٌ تمشي على الجدران، همساتٌ خافتة،
عيونٌ حمراء تراقبني من خلف باب غرفتي الخشبي.

أذكر بوضوحٍ ليلةً باردة، حين كنتُ في السادسة من عمري.
جاء الظلُ الغامضُ مرة أخرى، كان طويلاً ونحيلاً، واقفاً عند النافذة.

اقترب مني، همس باسمي بصوتٍ أجشّ: " ناديا… تعالي معي ".
اختبأتُ تحت الغطاء وأنا أبكي وأهمس: " اذهب بعيداً ".
منذ تلك الليلة، لم يعد النوم يعرف الطريق إليّ.

***

كبرتُ قليلاً، بلغتُ الثانية عشرة،

ولم تعد الظلال وحدها تُطاردني، بل أصواتٌ واضحة بدأت تهمس باسمي، تُخبرني بأشياء غريبة، تُضحكني أحياناً… وتُرعبني أكثر.

صار بيتنا القديم، ذلك الذي كنتُ أعرف زواياه وعطر جدرانه، يتحول إلى سجنٍ روحي لا فرار منه.

كنتُ أرى أبي الراحل، جالساً في كرسيه الخشبي المعتاد، يبتسم لي بتلك الابتسامة الحزينة التي تُمزّق القلب، ثم يتلاشى في الفراغ، كأنني وحدي مَن أراه.

في المدرسة، كنتُ أجلس في زاوية الصف، وحيدة، محاطة بنظرات زملائي المرتابة. كانوا يتهامسون خلف ظهري، يلقبونني بـ"المجنونة"، ويبتعدون عني كأنني مرضٌ مُعدٍ.

كنتُ أبكي بصمتٍ في دورة المياه، أُحاول أن أفهم لماذا تنهار حياتي وأنا بعدُ طفلة… ولماذا لا يسمعني أحد.

***

كان يوم الحافلة… نقطة النهاية في داخلي.

جلستُ قُرب النافذة،
شعري الأسود مصفف كما تحب أمي،
أراقب الحقول تمرّ سريعاً،
كأن العالم يُسرِع بي إلى مصيري.

وفجأة… رأيتُه.
أبي.
جالس هناك في الحقل، بهيبته القديمة،
يمسك مصحفاً بين يديه،
الهالة البيضاء حوله تلمع كأنها بابُ الجنة.

ابتسم لي،
ابتسامة أعرفها جيداً… لكنها لم تكن مطمئنة،
كانت تحمل شيئاً خفياً، كأنها تحذرني.

رمشتُ،
وما إن فتحتُ عيني، حتى اختفى أبي،
ووقف مكانه ذاك الكائن…
"الشرير"، بابتسامته الملتوية،
وعينيه الغارقتين في سوادٍ خبيث،
كأنه يهمس لي من بعيد :
" أنا هنا… وسآتي إليكِ "

ارتجف قلبي،
شهقتُ بقوة حتى شعرتُ بأن الهواء انقطع،
ثم… صرخت.
صرخة شقّتني نصفين،
صرخة هزّت الحافلة من تحت أقدام الراكبين،
جعلتُ الأطفال يصرخون معي،
والمعلمات ينظرن إليّ مذعورات.

سقطتُ…
عقلي احترق،
جسدي ارتعش كأني كنت أُعذَّب بنار لا يراها أحد.

حين وصلت سيارة الإسعاف،
كنتُ غائبةً عن العالم.
ثلاثة أيام…
وفي اليوم الرابع،
فتحتُ عيني،
فوجدتُ أمي عند طرف السرير،
وجهها مبلل بالدموع،
وأنا…
كنتُ أعرف وقتها فقط:
" لن يفهمني أحد… "

***

أمي، تلك المرأة الطيبة البسيطة، بدأت تتحاشى النظر في عيني، كأنها تخاف أن ترى فيهما ما لا يُفسَّر.
وحين قصصتُ عليها عن الأصوات التي تُناديني، لم تتردد: أمسكت بيدي، وقادتني إلى شيخٍ مسنّ، عُرف بين الناس بأنه الأقوى في طرد الأرواح.

اقترب الشيخ من أذنيها وهمس ببطء، بنبرةٍ ثقيلة :
" مسكينة… ابنتكِ مسكونة. جنيّ يهودي، قوي، خبيث… يريد روحها لنفسه."

تجمد وجه أمي من الخوف.

صدّقته.

ومن هنا… بدأت رحلتي الطويلة في جحيم العلاج.


***

أول شيخ وضع يده على رأسي وبدأ يقرأ بصوتٍ عالٍ.
كان يحرق البخور، ويهمس بكلماتٍ لا أفهمها.

شعرتُ بضيقٍ شديد، بكيت، ترجيتهم أن يتوقفوا.
لكنهم لم يسمعوني.

الثاني طلب منهم أن يقيدوني، لأنه "سيستجوب الجني".
شدّوا يديّ خلف ظهري، وبدأ هو يصرخ في وجهي،
يأمر الجني المزعوم بالخروج.
صرختُ بقوة: " توقفوا ! لا يوجد أحدٌ داخلي !»
لكن صوتي كان أضعف من صرخاتهم.

فقدتُ الإحساس بالوقت، تكررَ الأمر مع رُقاة آخرين،

حتى جاء خالي وهمس لأمي :

" لا علاج لها سوى في بويا عمر."

حينها انهار عالمي بالكامل.

***

«بويا عمر»…

اسمٌ يُهمَس به في المغرب، كأن مجرد نطقه يجلب الخوف.

يقولون إنه ضريح يشفي الممسوسين والمجانين.

لكن الحقيقة ؟
كانت أقسى من كل كابوس…
ذاك المكان لم يكن ضريحاً، بل معتقلاً،
يجعل من أجساد البشر سجوناً،
يُكبّلهم بالسلاسل الثقيلة،
يُجَوِّعهم حتى تشحَبَ وجوههم،
يضربهم ويُهينهم حتى يُعذِّب ما يسميه "الجني" فيهم…
وحين ينكسر الجسد، يقولون إن الروح تحررت.

أدخلوني هناك بالقوة،
أصابعُهم تقبض على ذراعي وأنا أُقاوم،
سمعتُ صوت أمي من الخارج،
عبر الباب الحديدي الصدئ: 
" سامحيني، يا بنتي… كل هذا من أجلكِ."

داخل الزنزانة،
كان الظلام يأكل كل شيء،
الجدران المبللة بالرطوبة تنزف ماءً،
والسلاسل تلتف حول معصميّ وكاحليّ كأنها أفاعٍ معدنية،
الغرفة شبه مظلمة،
شقٌّ صغيرٌ في الجدار يُدخل خيطاً من نورٍ شاحب،
لا يكفي حتى لرؤية وجهي.

من حولي، كانوا يبكون… يصرخون… يضحكون بضحكٍ مجنون،
أصوات تختلط كجوقةٍ من الأرواح المعذبة.

وفي الصباح،
وقف أمامي رجلٌ قاسٍ، ملامحه كالحجر،
نظر إليّ ببرود، وقال:
" جنيكِ قوي… لن يغادر بسهولة. ربما نحتاج سنوات."

شهقتُ أرجوه، بكيتُ:
"أقسم بالله… أنا لستُ مسكونة ! أنا مريضة فقط…"

لكنه ضحك، ضحكةً باردة كسكين،
ثم استدار وترك الباب يغلق خلفه.
تركني هناك،
وحيدةً مع الظلام… ومع اليأس.

مرّت الأيام ثقيلةً كالسلاسل التي تقيدني.
كنتُ أرى أشخاصاً يدخلون، يعذبون مرضى آخرين،
يصرخون في وجوههم باسم الجن.
وفي كل مرةٍ كنتُ أبكي وأنا أفكر: " أين أنا ؟ لماذا يعاقبوننا على مرضنا ؟ "

ذات يوم، جاء رجل غريب،
اقترب مني وهمس في أذني: " جنُّكِ يهودي، يريدكِ له زوجةً في عالم الجن."

بكيتُ بقوة، طلبتُ منه الرحمة،
لكنه ضحك وقال: " الرحمة في يدِ الجن، ادعي ربك أن يترككِ."

علمتُ لاحقاً أن هذه الخرافة كانت وسيلته لجمع الأموال من عائلتي.

في تلك الليلة شعرتُ بأن روحي لم تعد ملكي.
شعرتُ أنني ضعتُ إلى الأبد.

بدأ جسدي يضعف بشدة،
رأيتُ الموت يقترب ببطءٍ مني.
شعر المشرفون على الضريح بالخطر،
نقلوني بسرعة إلى مستشفى صغيرٍ قريب.

حين فتحتُ عيني، رأيتُ أمي تجلسُ قرب سريري.


***

كان جسد ناديا الهزيل يغوص في البياض البارد للملاءات، نظراتها الشاحبة تُحدق بعيداً نحو سقفِ الغرفة، كأنها تترقبُ شيئاً أو شخصاً قادماً من عالمٍ آخر. كانت أنفاسها ثقيلة، متعبةً، كأن كل نفسٍ يخرج من صدرها يسرق معه شيئاً من حياتها.

اقتربت أمها بعيونٍ أرهقها البكاء، أمسكت بيد ابنتها، وسمعتها تهمس :
" أمي... أرجوكِ، أعطني ورقةً وقلماً..."

ترددت الأم لحظةً، لكن قلبها المُثقل بالعجز دفعها لتلبية طلب ابنتها دون سؤال. سلّمتها الورقة والقلم، وابتعدت قليلاً تاركةً لها مساحةً من الخصوصية. كانت تراقب من بعيد، ترى أنامل ابنتها ترتجف وهي تكتب بجهدٍ كبير، كانت حروفاً بالكاد تُكتب. ولمحت دموع ناديا تتساقط ببطء، كأن كل قطرة دمعةٍ تُعلن اقتراب رحيلها عن هذه الحياة.

مرّت لحظاتٌ قصيرةٌ ثقيلة، حتى أفلتت الورقةُ والقلمُ من بين أصابعها المرتعشة، وانزلقت على حافة السرير نحو الأرض. بدت عينا ناديا وكأنهما تُحدقان بشيء ما وراء سقف الغرفة، شيءٌ يبتسم لها، يهمس لها باسمها بحنان، ويدعوها إليه.

ابتسمت ناديا ابتسامةً رقيقة، كأنها حصلت أخيراً على جوابٍ لطالما بحثت عنه، ثم أغمضت عينيها في سلام. توقفت أنفاسها، وغادرت روحها العالم الذي ظلمها منذ أول صرخةٍ أطلقتها فيه.

ركض الأطباء…
أيادٍ مضطربة، أجهزة تصدر صفيراً قاسياً،
لكن الوقت كان أقسى.
كان متأخراً جداً.

***

في الزاوية،
كانت الأم جاثيةً على ركبتيها،
تشهق بنشيجٍ يُقطّع القلب،
تحمل وجهها بكفيها المرتجفتين، كأنها تُخفي عن العالم صرخة قلبها.
وفجأة…
لمحت شيئاً.
ورقة صغيرة، مطوية بإهمال، منزوية تحت طرف السرير.
بأنامل ترتجف كأنها تُمسك بأطراف روحها، سحبتها الأم، فردتها ببطء.

حين رأت الكلمات،
شهقت.
انحبست أنفاسها.

وهي تقرأ ما خطته ابنتها ناديا بخطٍ باهتٍ ومرتجف، بالكاد يظهر من أثر الدموع التي بلّلت الحبر.

كأن ناديا عادت من الغياب
صوتها الخافت يخرج من بين السطور،
يندمج بأنين الأم،
كأنها تبكي معها… من العالم الآخر.

انفجرت دموعُ الأم مرةً أخرى، هذه المرة كانت تحمل إحساساً أعمق من الندم. شعرت بأنها فهمت أخيراً ما عانت منه ابنتها، وأدركت أن ناديا لم تكن سوى ضحيةٍ لجهلهم وقسوتهم، ضحيةِ عالمٍ لم يرحم ضعفها، ولم يفهم روحها أبداً.

***

بعد أسبوع، مرّت مجموعة من الأشخاص قرب قبرٍ حديث العهد،
فتوقفت أبصارهم عند أبياتٍ شعرية منقوشة بعناية على شاهدة الحجر،
كأنها صرخةٌ أخيرة عبرت من عالمٍ آخر،
تُمسك بكل عابرٍ للحظة،
تدعوه أن ينحني، أن يقرأ، أن يتأمل،
وتُشعل في داخله سؤالاً لا يُغادره:
من كانت هذه الفتاة ؟
وما الحكاية التي تركتها خلفها… بين السطور؟

اقترب أحدهم، جثا بركبتيه، قرأ بصوتٍ خافتٍ مرتجف:

هنا ترقدُ روحٌ لم يُسمَع نِـداهـــا
حلمتْ بالنورِ حتى عانقتهُ يداهـا

سجنوني في ظلامِ الجهلِ عمراً
لكنّ روحي قد علتْ فوقَ مداها

إنْ مررتم فوق قبري فاذكروا لي
صرخةً ضاعت ولم يُسمَع صداها

حين انتهى، خيّم الصمت، كأن القبر نفسه ابتلع الهواء،

تلك كانت كلمات ناديا الأخيرة، كلماتٌ بقيت تحكي ألماً عاشته روحٌ لم يفهمها أحد، سوى النور الذي احتضنها أخيراً في عالمٍ بعيد، بلا ظلمٍ أو قيود.


***


ناديا لم تكن مسكونة بجن،
ولا مأخوذةً بسحر،
كانت فقط روحاً هشّة،
علقت في شِراك الجهل والخوف والخرافة،
روحاً ما كانت تطلب إلا أذناً تُصغي، يداً تُمسك بها، قلباً يفهمها.

كان مرضها مكتوباً بوضوح في كتب الطب،
لو أنهم فقط… قرأوا.
لو أنهم فقط… صدّقوا كلماتها قبل أن ينطفئ صوتها.

واليوم،
في مكانٍ آخر لا تطاله أيدي الجهلة،
ولا تصل إليه قيود الحديد،
تحلّق روح ناديا خفيفة،
تُلامس النور الذي حلمت به طويلاً،
تبتسم كما لم تبتسم من قبل،
حُرّة من الألم،
حُرّة من الأصوات التي عذّبتها،
حُرّة من ظلالِ عالمٍ لم يعرف سوى أن يُحاكمها.

ناديا الآن… في سلام.
في مكانٍ بعيد،
بعيد جداً،
لكن فيه أخيراً… كل ما تستحق.

وتبقى قصتها،
كنافذة مفتوحة على الريح،
على كل قلب مستعدٍّ لأن يسمع،
على كل روحٍ تنتظر ألا تُهمَل،
كي لا تتكرر مأساة ناديا،
كي لا يُدفَن صوتٌ آخر في التراب،
قبل أن يجد من يُنقذه.

فكلُّ ناديا،
تستحق أن تُسمع،
أن تُفهَم،
أن تُعانَق…
قبل أن يُصبح صداها مجرّد همسٍ…
في الريح.


تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .