10 مايو 2025

ظل الأرجوحة

تأليف : كمال غزال
في تلك القرية المنسية، حيث الليل أكثر كثافة من الظلام نفسه، كان الجميع يهمس باسم تلك الأرجوحة القديمة المعلقة تحت شجرة صنوبر هَرِمة قرب البحيرة الميتة.

لم يعرف أحد من أين جاءت، ولا متى عُلِّقت، لكنها كانت هناك منذ زمن أقدم من ذاكرة البشر، ثابتة كأنها وتر مشدود بين عالمين.

وفي بعض الليالي، حين يسود صمت غريب وتتوقف الريح عن التنفّس، كانت الأرجوحة تبدأ بالاهتزاز ببطء… دون يد تدفعها، دون جسد يجلس فوقها، كأن شيئاً خفياً، شيئاً لا يُرى، يعود إليها كل مرة ليكمل أرجوحته الأزلية.

وفي ليلة هادئة، قرّر غسان، الذي جاء من المدينة لزيارة عمّته، أن يتمشّى قرب البحيرة، متجاهلاً تحذيرات العجائز عن المكان. القمر كان مكتملاً، يلقي بضوئه الفضيّ على كل شيء، وكان الظلّ يرقص مع كل حركة صغيرة.

حين وصل إلى الشجرة، توقّف فجأة. الأرجوحة كانت تتحرّك، رغم أنّه لم يكن هناك ريح. تحرّك قلبه ببطء، وأخذ نفساً عميقاً وهو يحدّق في المقعد الخشبيّ الفارغ. لا أحد يجلس هناك، فقط ظل الأرجوحة الممدود على الأرض. لكنه سرعان ما تجمّد في مكانه.

هناك، في الظلّ… ظهر شيء آخر. ظلّ صغير لفتاة بشعر مربوط وذراعين ممدودتين، كأنّها تمسك بالحبال وتتأرجح بسرور. لكن لم يكن هناك أحد.

اقترب خطوة بخطوة، وبدأ يسمع شيئاً خفيفاً، أشبه بضحكة مكتومة، طفولية، تخرج من مكان لا يمكن تحديده. فجأة، توقّفت الأرجوحة عن الحركة. والظلّ… ظلّ الفتاة بدأ يدير رأسه ببطء نحوه.

تراجع غسان بسرعة، لكن قدميه تعثّرتا في الجذور اليابسة وسقط أرضاً. ظلّ الفتاة انفصل عن الأرجوحة، وبدأ يمشي نحوه ببطء، بخطى صغيرة ومرحة. وتماماً قبل أن يصل إليه، شهق غسان بقوة وأغمض عينيه.

وحين فتحهما… وجد نفسه في غرفته.
تنفّس الصعداء، مسح العرق عن جبينه وضحك بصوت مرتجف:
" يا لهذا الكابوس السخيف. "

لكن… حين التفت إلى النافذة، رأى ظلّ الأرجوحة يتحرّك مجدداً في الحديقة الخلفية. ليس ذلك فقط، بل هناك ظلّ آخر يقف الآن… يحدّق إليه مباشرة من وراء الزجاج.
عندها فهم الحقيقة التي جمدت دمه: الكابوس لم يكن حلماً أبداً.

أعاد غسان إغلاق الستارة بيد مرتجفة، هامساً:
"مجرد وهم… مجرد وهم."

لكن داخله، كان يشعر بشيء ينكمش ويذوب… كأن ظلاً ما تسلل من النافذة إلى قلب غرفته.
جلس على سريره، مرّر يديه على وجهه، وحاول أن يقنع نفسه بأن الليل سينتهي قريباً.

وفجأة… شعر بأن شيئاً بارداً يلامس كعب قدميه.
نظر بسرعة تحت السرير… لا شيء.
ضحك، رغم توتره.
لكنه لم ينتبه… أن ظله على الجدار المقابل لم يكن يجلس كما يجلس هو.
كان واقفاً… يحدّق إليه.

ومن تلك الليلة، لم يعد غسان وحيداً.

صار ظله يمتدّ إلى ما هو أكثر من الحائط.
أحياناً كان يشعر أن الظلّ يسبقه في الحركة، يرفع يده قبله، 
شيئًا فشيئاً، بدأت ملامحه تذوب في ملامح ظله، وكأنهما يتبادلان الأدوار.
كان يضرب ظله بقبضتيه، لكنه لا يلمس سوى الفراغ.

في النهاية، لم يعد يحتمل.
انتزع مسدسه من الدرج، وصوّبه مباشرة نحو ظله المرسوم على الجدار.

كان غسان يلهث، يداه ترتجفان نحو ظلّه الذي لم يعد ظلاً عادياً.

ضغط الزناد.

دوى صوت الطلقة في الغرفة الصغيرة، واخترقت الرصاصة الجدار، لكنها ارتدت فجأة من قطعة معدنية قديمة كانت مدفونة هناك من بقايا أعمال الصيانة، طارت كالسهم وكادت تخترق رأسه، لكنها مرت بمحاذاة خده، تاركة خطاً ساخناً على جلده.

شهق غسان، تراجع مترنّحاً، ووقع على ركبتيه، قلبه يخفق بجنون.
رفع عينيه ببطء… فرأى الجدار خالياً.
الظل… اختفى.

ساد صمت ثقيل، كأن الغرفة نفسها حبست أنفاسها.
ثم جاء الهمس، ناعمًا مثل شريط يتلوى في أذنه :
" لن تقتلني… أنا أنت."

شهق غسان، وبدأ جسده يرتجف لا إرادياً.
لكنه فجأة رأى… على الحائط المقابل، يعود الظل، ببطء متعمد، كأنّه يسحب نفسه من عالم آخر، وتشكّل من جديد، واقفاً أمامه، يحدّق فيه بلا ملامح.

ثم… رفع الظل يده.
لكن لم تكن إشارة استغاثة… ولا تحية…
بل رفع إصبعه، بإشارة الإهانة الصريحة، الوقحة، وكأنّه يقول له :
" أنت الأحمق هنا."

انهار غسان أرضاً، شعر بإهانة تقطع ما تبقى من كبريائه، والدموع تملأ عينيه.
لم يكن يواجه شيئاً يمكن قتله أو طرده…
كان يواجه أسوأ عدو ... نفسه.

وما هو أسوأ !؟
أنه كان يدرك بأنها لم تكن نهاية بل البداية فحسب.

***

… وأنت الآن… قارئ هذه السطور…
توقف لحظة.
أنظر حولك ببطء… لا، لا تتعجل.
راقب ظلك، تأكد أنه يتحرّك معك، أنه لا يبتسم حين لا تبتسم، أنه لا يرفع يده قبل أن تفعل.
تأكد فقط… لأنه الآن، بعد أن قرأت عنه… صار يعرف أنك تعرف بوجوده.

أتدري ما هو المرعب في الأمر ؟
أنه ليس مجرد ظلّ عابر… إنه قرينك.
ذلك الكائن الذي وُلد معك، يرافقك بصمت، يعرف أدق أسرارك، يسمع أفكارك قبل أن تنطق بها، وينتظر اللحظة التي تضعف فيها… كي ينقضّ عليك.

تراه الآن يجلس معك ...يقرأ معك… يبتسم دون أن تبتسم.

وينتظر اللحظة التي تنطفئ فيها الأضواء…



تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .