على أعتاب نهاية القرن الحادي والعشرين لم يعد المريخ حلماً على خرائط الخيال، ولا حزام الكويكبات مقبرةً للصخور التائهة؛ بل صار كلاهما محطات مفتوحة في دفتر الإنسان، يكتب فيها بأقلام من نار ومعدن.
كان البشر هناك، يحفرون في أعماق الكويكبات من أجل الذهب والمعادن النادرة.
آخر بعثة فضائية نجحت في إيصال حفّارات ثقيلة إلى "إنسيلادوس" أحد أقمار زحل، لتبدأ دورة جديدة من الاقتصاد الكوني.
وفي ظلال هذا التقدّم، كان هناك من يفكّر بما هو أبعد من الثروات…
من يفكر بكسر القيد الأعظم: الزمكان.
***
كان اسمه د. فريد مروان، عالم فيزياء فلكية، اختفى عن المشهد العلمي منذ سنوات طويلة، بعد أن سُخر من نظرياته التي تربط بين الثقوب السوداء والكيانات الخارقة والخفية التي ذكرتها المعتقدات.
لم يكن طموحه علماً… بل فَتحاً.
ولم تكن أحلامه نبوغاً فحسب… بل تمرداً على قوانين الوجود.
اسمه كان معروفاً في أوساط فيزياء الجسيمات، وكان يشار إليه في المحافل باسم " تيسلا العرب " ، ذلك العبقري القادم من شرق المتوسط، الذي جمع بين خيال أينشتاين وهوس نيوتن وتصميم أديسون في فك رموز الخليقة.
كان يؤمن أنَّ أعظم الأكاذيب هي تلك التي نتعايش معها: أن الكون ثلاثي الأبعاد، أن الزمن خط مستقيم، وأن الجنون يبدأ عندما نشكّ في ما نراه.
في معهد الفيزياء الكونية بسويسرا، كان يعمل على مسرّع الجسيمات الأوروبي، حين بدأ يهمس لنفسه:
"ماذا لو أن الثقب الأسود ليس نهاية… بل بوابة ؟ "
طرح نظريته أمام الحضور:
" ليست الثقوب السوداء ظواهر كارثية، بل منافذ إلى أبعاد أعلى وأن هناك كيانات تقطن تلك الأبعاد، تراقبنا كما نراقب البكتيريا تحت المجهر.
وأكمل : " ربما الجن والملائكة يسكنون في هندسة عليا للزمكان "
ضحك القاعة كان مرّاً.
زميله "واينر" - الذي نافسه طويلاً - حرّك ضغوطه في الهيئة العلمية، حتى فُصل في صمت.
***
لم يكن منفاه خضوعاً… بل اختباء لهدف أكبر.
وفي أرض الخليج، حيث تُزرع ناطحات السحاب فوق الرمال، وحيث يركض الزمن لاهثاً خلف الطموح، وجد من لا يخشى الجنون.
قاسم… رجل يُشاع أنه لا يؤمن بالحدود إلا حين يكسرها
لا تُعرف حدود ممتلكاته، لأن أحداً لم يجرؤ على رسمها
ونفوذه يتسلل في صمت عبر مؤسسات الظلّ.
يدير مركز أبحاث فضائية لا يُعرف لها سقف، ولا يُنشر له تمويل.
كان يؤمن أن : " الفيزياء لا تخون أحداً… لكن الجبناء هم من يتراجعون أمام العتبة."
حين جلس فريد أمامه في العام 2071، لم يحمل وثائق، ولا عرضاً تقنياً.
بل قال بهدوء يشبه الهمس :
"لا أريد أن أكتشف قانوناً… أريد أن أفتح بوابة."
بوابة إلى ما بعد المعادلات.
بوابة إلى البعد الأعلى.
وقاسم لم يبتسم… فقط قال :
"اصنع ما تشاء...المشروع لي… والعبور لك."
***
في منشأة متطوّرة تحت رمال الجزيرة العربية، بنى فريد مسرّع جسيمات فريداً من نوعه، قادراً على توليد حقل جاذبي شديد الكثافة.
في تجربته الأولى، أنجب المشروع ثقباً أسود ميكروي بحجم أدنى من الذرّة… واستمر لأجزاء من الثانية فقط.
لكن المحاولة الثانية كانت أكثر جرأة: ثقب أسود بقطر 0.01 ملم… دام لثانيتين، وابتلع كرة سلة من مسافة عشرة أمتار.
ارتجف المهندسون.
أدركوا أن فريد لا يعبث.
لكن تلك التجربة لم تكن مجرد معادلة…
كانت وحشاً جائعاً، لا يشبع إلا بالنجوم.
استهلكت طاقة تكفي لإنارة قارة، وأموالاً لا تُصرف بل يُضحّى بها.
ومع كل هذا الجنون، لم تدم سوى ثوانٍ.
ثقبٌ ارتجف للحظة، ثم انكمش على نفسه كحلمٍ مختنق…
لم يكن قادراً حتى على ابتلاع جسد إنسان، ولا على الاحتفاظ بشهيته مفتوحة.
لكن الخطر لم يكن في فشلها… بل في احتمال أن تنجح أكثر من اللازم.
إن انحرفت المعادلات أو تمادت الطاقة،
قد يبتلع الثقب المولد الجبالَ التي تحرسه…
وقد لا يتوقف حتى يلتهم الأرض التي بُني فوقها.
***
هنا قرر فريد أن يتوقف عن " الصناعة "، ويبدأ " البحث ".
أخبر قاسم :
" لماذا نخلق بوابة… بينما قد تكون موجودة هناك.. ؟ "
" الكوكب العاشر ليس كوكباً… إنه فم مفتوح على البعد الأعلى."
وليبرهن على نظريته ...بدأ فريق فريد من المهندسين والخبراء رصداً استمر أشهراً ، تبين لهم انحرافات دقيقة في مسارات الضوء القادم من أعماق النظام الشمسي، تحديداً عند إحدى مناطق حزام كيبر، خلف مدار نبتون.
كانت تلك الانحرافات تشير إلى وجود مجال جاذبي شديد وغير مرئي، تماماً في النقطة التي طالما افترض العلماء وجود الكوكب العاشر Planet X فيها، الكتلة الغامضة التي يُعتقد أنها مسؤولة عن اضطراب مدارات الأجرام السماوية في تلك المنطقة.
ما رصدته المستشعرات فاق التوقعات
الضوء كان ينحني كما ينحني عند اقترابه من أفق ثقوب سوداء… لا كما يفعل أمام كوكب تقليدي.
حينها، أدرك فريد أن شكوكه القديمة لم تكن وهماً.
ما كان هناك لم يكن كوكباً… بل بوابة.
احتفظ بالاكتشاف لنفسه.
فهو لم يكن يسعى إلى نشر ورقة بحثية…
بل إلى كسر قفص الزمكان والخروج منه حراً.
***
بمركبة تعمل بمحرك اندماج نووي نبضي، انطلقت الرحلة.
تم وضع فريد في حالة سبات بيولوجي
ليرتاح من مرور الزمن الطويل عليه
كانت حقنة تُجمّد الوعي وتحفظ الجسد
بينما تتولى روبوتات طبية قياس المؤشرات الحيوية وتعديلها تلقائياً.
عشر سنوات تمرّ خارج الوعي…
تقطع خلالها المركبة مسافة 1000 وحدة فلكية
أي ما يقارب 149 مليار كيلومتر
مسافة يحتاج الضوء نفسه ليقطعها 5 أيام و18 ساعة !
وعند اللحظة المحددة، حقنته الروبوتات بمادة كيميائية عكسيّة أعادت إليه الإدراك.
فتح عينيه… فإذا بالهاوية أمامه !
من بعيد، بدا الثقب الأسود كعين نائمة وسط ظلام النجوم.
لكنها كانت تحدق فيه.
نظامنا الشمسي يقع على حافة أفق الحدث.
فوجّه فريد مركبته نحو المركز… إلى الداخل.
وما أن تجاوز الحد، حتى اختفى الضوء، واختفت الجاذبية، واختفى الجسد.
***
لم يعد فريد كائناً بشرياً كما عرّفه الوجود سابقاً.
لا لحم، لا جسد، لا قلب… فقط جوهر واعٍ يطفو في فراغ أعلى من كل بعدٍ مألوف.
تحرّر من الزمن والمكان، وصار فكراً نقيّاً، كتلة من الإدراك المحض
فتح "عينيه"، فلم يجد عيوناً.
نظر، لكنه لم يكن بحاجة إلى وجه.
هو الآن وعيٌ متحرر، يطفو في بُعدٍ يشبه الحلم ويقسو كالحقيقة.
وبينما كانت الأرض تدور في سُباتها، عاد إليها فريد ...
لا كزائر، بل كمراقب خفي "من بعد أعلى" ،
لا حواجز تفصله عن المادة. لا قوانين تُلزمه بالثقل والاحتكاك.
بدأ يختبر قدراته الجديدة…
مرّت نظرته على مدينة في أوروبا، حيث يقيم واينر ، زميله القديم،
ذاك الذي سخر منه يوماً، ودفع بفصله في الماضي.
في أحد الأيام، واينر جلس على مكتبه يحتسي قهوته،
فـ ارتجّ الكوب أمامه ثم انزلق برفق إلى الجانب… من تلقاء نفسه.
ظلال تمر على الحائط بلا مصدر.
أبواب تفتح وتغلق كأن شيئاً يتنفس وراءها.
في أحد الصباحات، وجد فردة من جوربه المفقود معلقة داخل سيارته، تتدلّى من المقود… وقد أقسم أنه بحث عنها أياماً دون جدوى.
لم يكن الأمر خدعاً…
بل اختراقاً ناعماً لقوانين الواقع.
حتى كلب واينر توقّف عن الدخول لغرفته، صار ينبح فجأة نحو زوايا فارغة.
والأطفال ؟ كانوا يصرخون عند مروره، يشيرون نحو لا شيء، ويقولون :
" هناك رجل من نور… ينظر إليّ. "
وفي كل تلك اللحظات، كان فريد يهمس من مكان لا تصل إليه الأصوات:
"هل تذكرت سخريتك يا واينر؟
أنا هنا الآن… أراك من حيث لا يمكنك حتى أن تتخيّل."
***
وخلال جولاته الكونية ...رأى كيانات تشبه الأنماط المجردة، نارية الملمس، غير مادية.
سريعة، ذكية، تُحدق فيه دون أعين.
فهم لحظتها… أنه دخل عالماً لطالما خشيه الناس
تشبه الأشباح، لكن أذكى، أقدم، وأكثر إدراكاً منه.
إنهم الجن.
الذين حيّرت مظاهرهم البشر، وتعددت حولهم الأساطير.
لكنهم ليسوا سحراً… بل سكان البعد الأعلى.
أحسوا به ..!
فجأة، شعر بقبضة نارية تسحب طيفه.
كأن هناك كياناً أقوى منه… يعرف أنه دخيل.
اقتيد فريد أمام كيان يُشبه العرش، كان نقطة تركيز مرعبة للطاقة.
هناك جلس ملكهم
كائن لا يمكن وصفه، رأسه له أكثر من زاوية، وصوته يُسمع داخل العظم.
قال له:
" يا من جئت من الأرض… من سمح لك بالصعود ؟ "
أجابه فريد :
" بحثتُ فوجدت… ثم انكشفت فعبرت."
قال الملك :
" البعد الأعلى ليس لعالمكم. نحن سادة هذه الطبقة من الواقع قبل أن تُخلق الأجساد."
" وجودك هنا تهديد… فأنتم البشر، لا تكتفون بالمشاهدة… بل تريدون السيطرة."
رد عليه فريد بهدوء :
"أنا لم آتِ بغزو… بل لأفهم."
ردّ الملك:
" المعرفة قوة… وأنت الآن تعرف ما لا يجب أن يُعرَف."
أمر الملك أن يُمزق فريد بطاقة حارقة تُفني الوعي نفسه.
صرخ فريد… لكن صرخته لم تصل إلى الأرض.
***
هل اندمج فريد في هندسة البعد الأعلى ؟
أم ظلّ هناك قابع… يراقب الأرض من زاوية لا تُرَى ؟
ما هو مؤكد…
أن "عين الزمكان" لا تزال هناك، في أقصى الحزام، تحدق فينا دون أن نراها.
وأن من يدخلها…
لا يعود أبداً كما كان.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .