لطالما كان في رأس خميس بن سيف فكرة واحدة : أن الكنوز القديمة لا تختبئ في الأرض عبثاً، وأن خلف كل خرافة حقيقية ما لا يُقال.
في قريتهم الصغيرة قرب بَهْلاء، دارت منذ أجيال حكاية عن كنزٍ دفين في واد قريب من جبل الهيال، يبعد عشرات الكيلومترات ... كنز لا يراه إلا من فقد شيئاً من نفسه.
بينما كان الناس يسخرون من هذه الحكايات في المجالس،
كان خميس يُراكم في عقله الخرائط الشفهية، النقوش القديمة، الأساطير التي تتقاطع بين الحلم والحقيقة.
وذات مساء،
قادته أقدامه إلى رجل يُعرف بـ الشيبة مبارك،
رجل لا يقول شيئاً بلا ثمن، ولا يمنح شيئاً دون أن يأخذ مقابله شيئاً أعمق. قال له بصوت خافت:
" إن أردت أن تُري الأرضُ كنزها… فلتُريها دمك أولاً. "
ثم شرح له:
" ارسم خريطتك بدمك.
بعبثٌ خالص خُطها وغلفها برغبتك.
ثم دسّها تحت وسادتك ليلة قمر مكتمل.
"
فعل خميس ما قيل له.
وفي الصباح،
استيقظ على خريطة جديدة.
خطوط لم يرسمها بيده.
علامات لم يعرف لها تفسيراً.
قادته تلك العلامات إلى خرابة منسية
مكان كأنه لم يوجد يوماً في خرائط البشر.
خطا إليها…
واختفى.
بعد سبع سنوات من العجز،
دفن أخوه سعيد اسمه في قبر رمزي،
بجوار قبر أمه مزنة،
التي ماتت تحسراً،
لكنها في الحقيقة… ماتت انتظاراً.
خمسة عشر عاماً مضت.
لم يُعثر له على أثر.
لا في وادٍ ولا في جبل.
ثم جاءت تلك الليلة.
هادئة حدّ الوقاحة.
لا رياح.
لا أصوات.
فقط…
طرقات خفيفة على باب البيت.
ووقف خميس هناك.
كأن الزمن نسي أن يطاله.
كان هو.
في الشكل.
في الثياب.
في الصوت.
لكنه لم يكن هو.
لم يتحدث عما جرى.
عندما سألوه :
" أين كنت ؟ "
" من أخذك ؟ "
" كيف نجوت ؟ "
كان يحدق في الفراغ بصمت.
كأن الأسئلة نفسها لا تعني له شيئاً.
أُصيب الأطباء بالحيرة.
فحوصات دماغه أظهرت نشاطاً مفرطاً،
كأن جهازه العصبي يستقبل إشارات من مكان آخر،
إشارات لا يفك شيفرتها البشر.
في نومه،
كان يتحدث بلغات انقرضت :
فسرها بعض العارفين على أنها العربية الحميرية القديمة.
أحياناً عبارات لا أصل لها.
الأغرب .. كان يتنبأ ببرود، بلا اهتمام :
"النهر سيغمر السهول قريباً." (حدث فيضان فعلاً.)
"خالنا راشد لن يرى الربيع." (ومات قبل أن تتفتح أول زهرة.)
" سيُدفن طفل في طرف المقبرة الجديدة. " (ودُفن رضيع بعد شهر.)
لكن مع كل نبوءة،
كان شيء في عينيه يخفت،
كأن بريق الحياة يتبخر ببطء.
وذات ليلة،
كان سعيد مستلقياً على الأريكة،
حين رأى خميس يمر أمامه،
يدخل غرفته الوحيدة ويُغلق الباب على نفسه
لم تمضِ سوى لحظات حتى ظهر خميس من جديد.
نفس الخطوات الثقيلة…
نفس الثياب الممزقة…
ذات الانحناءة في كتفيه، كأن الزمن يضغط عليهما.
عبر أمام سعيد بهدوء مطمئن،
واتجه إلى غرفته،
ذات الباب الوحيد…
لم يتوقف.
لم يلتفت.
فتح الباب ، دخل،وأغلقه خلفه… كما فعل منذ ثوانٍ فقط.
في مكانه،
ظل سعيد جالساً،
ينظر بذهول،
وجملة واحدة تدور في رأسه بإلحاح :
"كيف يمكن لشخص أن يدخل نفس الغرفة مرتين…
من باب وحيد ؟ "
نهض سعيد ، فتح الباب…
رأى خميس متمدداً على الأريكة،
يشاهد الأخبار على التلفاز.
لم يستطع سعيد أن يتكلم.
الصورة كانت واقعية حد الغثيان.
لكن إحساساً عميقاً في صدره قال له :
" شيء ما انكسر في هذا البيت...شيء لا يُمكن إصلاحه. "
المرآة كشفت له ما هو أكثر.
انعكاس خميس لم يعد يتحرك بانسجام.
كان يتأخر جزءاً من الثانية.
وفي لحظات نادرة،
كان يبتسم وحده.
خميس كان يعرف.
لكنه لم يشرح.
ولم يُدافع.
فقط… صار أهدأ.
أكثر انفصالاً.
حتى قرر أنه اكتفى.
ربط حبلاً من سقف غرفته.
وترك نفسه معلّقاً.
بلا رسالة.
بلا وداع.
سعيد هو من وجده.
ساكناً.
صامتاً.
وكأن الغياب الطويل انتهى أخيراً إلى راحة أبدية.
دفنوه في قبره الرمزي.
نفس المكان الذي زرعوا فيه اسمه قبل سنوات.
لكن هذه المرة…
بجسد.
الأسئلة بقيت.
لماذا عاد ؟
من كان الذي عاد ؟
هل عاش في بعدٍ مكاني آخر ؟
هل كان في مكان تجمد فيه الزمن ؟
هل فقد ذاكرته ؟
أم أن ذاكرته امتلأت بأشياء لا يتحملها البشر ؟
لم تُجب الأيام.
فقط همسات الليل.
فقط نظرات المرآة.
سعيد، في سنواته الأخيرة،
كان يطيل النظر
يبحث عن ظلّ خلفه،
يظن أنه قد يلمح أخاه هناك،
ينتظر.
في مساء هادئ، بعد مرور عام على دفن خميس،
جلس سعيد وحده في المجلس.
أطفأ التلفاز.
أغمض عينيه للحظة.
ثم، كمن يتذكر فجأة شيئاً بسيطاً…
نهض.
سار ببطء نحو غرفة خميس.
فتح الباب.
الغرفة كما تركها.
السقف يحمل أثر الحبل… كندبة لا تندمل.
وبينما كان يهمّ بالخروج،
وقع بصره على بلاطة قرب السرير،
شق دقيق يقسمها نصفين،
بزاوية غريبة عن باقي الأرضية.
شيء في شكلها لم يرتح له.
ركع ببطء،
مرر أصابعه على الحافة…
وضغط.
بلا مقاومة تقريباً،
ارتفعت البلاطة قليلاً.
تحتها،
وجد ورقة مطوية بعناية،
قديمة، رثة،
ملطخة بحواف بنية داكنة…
لونها لا يحتاج لسؤال.
دم.
فتح سعيد الورقة بحذر.
كانت خريطة.
ليست خريطة كالجغرافيات المعتادة،
بل شبكة من الخطوط العشوائية،
كأن من رسمها لم يكن يرى بعينيه،
بل بشيء أعمق… أو أعتم.
انتقلت عينا سعيد بين الرموز.
أسماء قديمة طمستها السنين: " قُزْحَة " ، " عين الجُرُد " وأخرى لم يسمع بها في حياته.
ظل سعيد ممسكاً بالخريطة،
أصابعه تلمس الورق كمن يلمس جلد كائن حي.
كان يشعر بنبضها.
نبض ثقيل…
كأنها تتنفس من رئة أخرى.
ثم، كأن شيئاً في الهواء التف حوله،
رفع عينيه نحو النافذة.
كان خميس واقفاً هناك.
شاحباً كما كان يوم عودته.
ملامحه صامتة،
لكن نظراته
لم تكن تطلب شيئاً…
بل تحذر.
لم يتكلم.
لم يلوّح.
لكن سعيد شعر بذلك النداء الغامض :
" لا تفتح الباب مرة أخرى ."
" لا تذهب حيث لا ينبغي أن تعود. "
لم يكن تهديداً.
كان معرفة.
كأن خميس… يعرف ما وراء الخرائط.
ما وراء الرغبة في الفهم.
ببطء،
عاد سعيد إلى البلاطة.
ركع كما فعل قبل دقائق.
بيدين ثابتتين،
طوى الخريطة من جديد.
دسها في مكانها…
كأن لم تُمسّ.
أعاد البلاطة إلى موضعها.
ضغط عليها بثقل كأنه يُغلق غطاء نعش.
ثم جلس على حافة السرير.
صامتاً.
عندما رفع بصره مرة أخرى،
كانت النافذة خالية.
الليل فقط.
عاد كما كان.
لكنه لم يشعر بالانتصار.
بل بالسكينة الثقيلة
التي تأتي عندما تنجو من فضولك.
سعيد لم يكشف لغزاً.
لم ينقذ أحداً.
لكنه…
بكل هدوء،
أعاد الحجر إلى مكانه.
وأغلق فمه… كما أغلق الباب.
في تلك اللحظة، أدرك أن بعض الأبواب لا تفتحها الإجابات… بل الفضول.
وهو أغلقها بنفسه، دون أن ينطق بكلمة.
تمت
خيراً فعل سعيد فقد انقذ حياته من شيء عظيم كاد أن يقضي عليه كما حدث مع خميس ، الفضول يقتل صاحبه ، لايجب علينا فتح الابواب جميعها فبعض الابواب خيراً لها ان تبقى مغلقة إلى الابد .
ردحذف