منذ أن فتحت عيني على هذا العالم، ظلّ هناك حلم... لا يموت.
امرأة بلا ملامح تدخل بيتاً بلا سقف.
في وسطه، دائرة من ثلاثين مقعداً طينياً، مصطفّة كأنها تنتظر شيئاً لم يحن أوانه.
وفي المركز، تجلس امرأة في حالة ولادة. لا تصرخ، لا تتلوّى، فقط تحدّق بي.
نظرة لا تُطلب… بل تُلقى عليك.
نظرة لا تحمل سؤالاً، بل حكماً.
ثم، كما يحدث دائماً، يتفكك كل شيء:
المقاعد تذوب، المرأة تتلاشى، وأنا...
أبقى وحيداً في فراغ لا يرحم.
كبرت. وكبر معي الحلم. لكنه لم يفسد، لم يبهت…
بل ازداد صفاءً، كما لو كان ينتظر لحظة معينة ليتحقق.
كنت في الثانية عشرة حين أخبرني والداي بسرٍّ غيّر نظرتي للعالم:
"وجدناك على عتبة بابنا، في فجر غريب، ملفوفاً بقماشة خضراء مزركشة. لا نعلم من وضعك، ولم يكن لك اسم."
ربّياني بمحبة، لكني منذ تلك اللحظة، بدأت أنظر في المرآة كأنني أبحث عن شخص آخر داخلي.
هربت إلى الطبيعة. وجدت في توثيق الحياة البرية عزاءً من النوع الذي لا يقدمه البشر.
في إحدى رحلاتي جنوباً، بدأت أسمع اسماً يتكرر في قصص العجائز :
قرية اسمها "لوق"، لا تظهر على الخرائط، تُعرف بأنها " مكان منسي ".
قالوا إن امرأة تدعى حليمة، كانت قابلة شعبية تعيش هناك، اختفت منذ حوالي عشرين سنة بطريقة غريبة.
خرجت ذات ليلة لتوليد امرأة غريبة مع رجلين لا يعرفهما أحد، ولم تعُد.
شيء بداخلي تحرك. كأن شيئاً من حلمي القديم نطق باسمها دون علمي.
قررت أن أزورها، حتى لو لم تكن هناك.
وجدت القرية بصعوبة. لم تكن ترحب بالغرباء، لكنها لم تمانع وجودي.
سألت، راقبت، استمعت.
عرفت أن هذه القرية تُقيم طقساً قديماً في موسم الفيض، يسمونه جلسة قرع الأرواح. يجلس فيها الشيوخ في دائرة طينية، يقرعون الطبول لساعات وسط الظلام، ويشعلون النار. يقال إن الطبول توقظ ما في الأعماق، وتستدعي ما لا يُقال.
جلست معهم. والنار تشتعل.
ثم… حدث شيء.
الطبول دخلت عظامي، والواقع ذاب من حولي.
استيقظت في مكان لا يشبه الأرض.
أرض طينية. هواء راكد.
وفي منتصف الماء، وقف كائن طويل، جلده يميل إلى الزرقة، يقطر من جسده ماء صافٍ لا يعكس الضوء.
" أنا ودّ البحر." قالها بنبرة لا تُقاوم.
"وأنت… لست مثلهم."
ثم بدأ يحكي...
" لم تكن حليمة تعرف أن ذهابها تلك الليلة سيفتح عليها شيئاً لا يُغلق. كانت تساعد على الولادة."
ابتلعت ريقي. الصورة بدأت تتضح، لكنها لا تزال مشوشة.
" كانت تساعد إنسية مخطوفة ومتزوجة من أحد كبار قومنا.
في تلك الليلة أنجبت منه ثلاثين كائناً … تسعة وعشرون كانوا من جنسنا ، كل واحد خرج من الرحم وقفز وجلس على مقعده الطيني وحمل عظمته الصغيرة التي كانت موضوعة عليه"
أما الثلاثون… كان مختلفاً.
كان بشرياً. ضخماً، يملأ المكان.
كاد يموت اختناقاً… لولا يد حليمة.
كانت حليمة الوحيدة التي ظلت قربها.
انتزعتك من الظلمة، بين انهيار كل ما حولها.
وفجأة… اختفى الجميع ..وحل الظلام .. أدركت أنها عارية ، تغطيك بجسدها، وسط طينٍ بارد وسكون مفزع.
ركض بعض سكان القرية حين رأوها،
رماها الشيخ بعمامته وهو يصيح : " من فعل ودّ البحر ! "
رآها بعض سكان القرية وفروا مفزوعين ، وهكذا… نبذوها.
قررت أن تختفي ..لم تعد تصلح للعيش بينهم…
تاهت حليمة، تحملك بين ذراعيها، تهيم قرب النهر، منهارة، حتى عادت مجدداً إلى ذات المكان:
الدائرة الطينية، التي أصبحت مهجورة، موحشة.
وهناك…
رأت شيئاً وسط الطين: عباءة خضراء مزركشة.
كانت ذاتها التي ارتدتها المرأة الأنسية في المخاض، قبل أن تذوب وتختفي.
مزّقت منها قطعة… ولفّتك بها.
وفي اللحظة نفسها…
خرجت من الماء .. رأيتها… أعجبتني قوتها وسط هشاشتها. فصرت لها مأوى… ثم زوجاً."
وتابع : " هي من طلبت أن تُربّيك بين البشر، بعيداً عن هذا العالم. هي من أوصتني أن أضعك على عتبة باب لا أطفال فيه. ففعلت."
سار بي إلى الضفة.
وأشار إلى الصخور، حيث ظهرت قطعة القماش القديمة، ممزقة… لكن مألوفة.
هي ذاتها التي احتفظ بها والديّ بالتبني في صندوقهما… دون أن يدركا أنها كانت تغلّف لغزاً لا يُقال.
حين لمستها… شعرت أنني ألمس جسدي للمرة الأولى.
حين انتهى حديث ودّ البحر، ساد بيننا صمتٌ غريب، كأن الماء نفسه يحبس أنفاسه.
ثم أشار علي أن أتبعه وكأن هناك مكاناً يريد مني أن أراه "
عبر ضفة مكسوّة بندى غريب… ندى لا يشبه المطر، بل يشبه الوداع.
توقف عند حفرة ضئيلة، لا حجر عليها… لا اسم.
" هنا… نامت حليمة."
جثوت. لم أبكِ.
لكن شيئاً بداخلي تشقّق.
"كنتِ الوحيدة التي احتضنتني بلا سؤال.
ورحلتي بدأت منك… وتنتهي عندك."
انتزعت خصلة عشب، وضعتها في جيبي… كأنها أثر من قلبها.
وحين رفعت بصري…
لم يكن ودّ البحر هناك.
عدت وحدي ...
وجدتني جالساً وسط الدائرة مجدداً، والنار لم تنطفئ، والطبول لا تزال تُقرع.
لكن شيئاً ما تغيّر.
بدأت أعدّ المقاعد الطينية.
واحد… اثنان… خمسة… عشرة…
خمسة وعشرون… تسعة وعشرون…
واحد فقط… شاغر.
جلست عليه.
المقعد الثلاثون.
المقعد… الناقص.
ارتجفت روحي.
لكن أنا… كنت الوحيد المختلف.
نظرت في وجوههم.
لم يكونوا شيوخاً.
لم يكونوا بشراً تماماً.
ثم تحرّك أحدهم.
مدّ يده… وفي راحته قلادة صغيرة، يتدلّى منها حجر باهت.
اقترب وقلدني إياها… بصمت، كأنما يعيد شيئاً إلى مكانه.
حدسي أخبرني انها قلادة أمي !
حين لامست القلادة جلدي، شعرت برجفة…
لا تشبه البكاء، بل تشبه التذكر.
ثم همس، بصوت لا يعلو عن حفيف اللهب :
"الآن… اكتملنا."
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .