![]() |
تأليف : كمال غزال |
لم يكن في حياة "ليال" و"جواد" صخبٌ ولا أولاد، فقط اثنان وهدوءٌ عميق، كأنهما اتفقا أن يحتضنا العالم في قلبهما لا أكثر. عاشت معه عشر سنوات، كلها صمتٌ مشبع بالحب، ورسائل ورقية يتركانها لبعضهما في أماكن غير متوقعة: تحت كوب القهوة، داخل كتاب مفتوح، أو بين ملابس النوم.
كان "جواد" يقول لها دوماً: " حين أرحل، لن أترككِ وحيدة… سأجد طريقاً للعودة، حتى لو عبر الورد."
كانت تضحك وتهمس له: "فقط لا تنسَ أن يكون الورد أصفر…"
لم يرزقا بأطفال، لكنها لم تشعر يوماً أنها بحاجة لأحد سواه.
ثم جاء الرحيل.
مات "جواد" فجأة ذات مساء دافئ، وهو يقرأ في الشرفة كتابه المفضل. كان جالساً بهدوء، كأنه نام دون وداع. "ليال" لم تصرخ، ولم تبكِ أمام الناس، لكنها كانت تسير في البيت كأنها ظلّ فقد جسده.
غابت عن العمل أسبوعاً. لم تجب على هاتف ولا رسالة.
***
بينما كانت المدينة تنام على وسادة الصمت، غرقت "هالة" - زميلتها في العمل - في نومٍ ثقيل لم تعهده من قبل. لكنّ ما رأته لم يكن كالحلم... كان أقرب لزيارة.
رأت نفسها في مكان غريب، يشبه مساحة عملها لكن لا يشبهها. الجدران غامقة، والأرفف صامتة، والضوء معلق في الهواء كأنه يتنفّس. كانت وحدها، ترتّب ملفات فوق طاولة خشبية قديمة، حين سمعت قرعاً لطيفاً على الباب، وظهر فجأة رجل يحمل باقة ضخمة من الورد الأصفر، زاهية، كأنها لم تمرّ يوماً من الأرض.
توقف أمامها دون كلمة، ورفعت نظرها نحوه… ثم شعرت بالدوار.
وجهه مألوف… نعم، هو ذاته. زوج زميلتها ، الذي رأته مرّة واحدة مصادفة حين جاء لاصطحاب "ليال" من المكتب قبل أشهر.
اقترب منها بخطى بطيئة، ونظر إليها نظرة حزينة راسخة. ثم مدّ لها الباقة وهمس :
" أعطِ هذه الورود لزوجتي… وقولي لها: سأظل أحبكِ إلى الأبد."
لم تنتظر لترد. وقبل أن تنبس بكلمة، اختفى بين العتمة، كأن الهواء ابتلعه.
استيقظت "هالة" فَزعة، يدها على صدرها، وأنفاسها متقطعة، وقلبها يطرق كأنه يطلب تفسيراً.
أمسكت دفتر ملاحظاتها، ودوّنت ما رأته كلمة بكلمة، خشية أن يضيع الحلم كما تضيع الأشياء التي لا تملك دليلاً عليها.
ثم أغلقت الدفتر، تمسّكت بالواقعية وهمست :
"مجرد حلم..."
لكن في أعماقها، كان هناك يقينٌ خافت…
أن شيئًا ما كان حقيقيًا تمامًا، وأن الورد لم يكن عبثاً.
***
عادت "ليال" إلى العمل، بوجه باهت وعينين غائبتين. سألتها "هالة" بخجل:
"كيف حالكِ ؟"
قالتها "ليال" بصوت مخنوق كأن الكلمات تخرج من بين أنقاض صدرها :
"جواد... توفي الأسبوع الماضي."
توقفت أنفاس "هالة"، وكأن شيئاً بارداً قد اخترق عمقها.
تاريخ الوفاة… يسبق حلمها بيوم.
وفي مساء رمادي، مشت "هالة" بخطى مترددة إلى محلّ الزهور، يداها ترتجفان وقلبها يقرع بصوت لا يُسمع.
اختارت باقة صغيرة من الورد الأصفر، ناعمة كلمسة من عالم آخر، وكتبت على بطاقة بسيطة الكلمات التي همس بها الرجل الغريب في الحلم :
"سأظل أحبكِ للأبد… جواد."
وفي صباح اليوم التالي، دخلت المكتب بهدوء يشبه الخوف، وضعت الباقة أمام "ليال" التي كانت جالسة بصمتها الثقيل،
ثم بدأت تروي لها ما رأت... بكل تردد، بكل حيرة، بكل صدق.
"ليال" لم تقاطعها، لم تسأل، لم تندهش.
نظرت إلى الورود كما لو أنها تلمس يداً كانت تفتقدها،
ثم انهارت…
ذراعاها ارتختا، وجسدها ارتجف، واندلعت دموعها كأنها تحاول أن تطفئ ناراً لا تُرى،
وضمّت الباقة إلى صدرها كما لو أنها تحتوي قلبه بين أضلاعها،
وهمست بانكسار لا يُنسى:
"هو... هو فقط من كان يعرف."
ثم نهضت، وأخذت الورود، وغادرت دون أن تنظر خلفها.
لكن عبق الورد الأصفر ظلّ معلقاً في المكان… يشهد على حكاية لم تنتهِ.
***
في تلك الليلة، جلست "ليال" في صالة بيتها الخالي. وضعت الورود أمامها وقالت:
"إن كنتَ أنت من أرسلها… فأنا هنا، أسمعك. لا أريد إلا علامة."
مرت الليالي. بدأت أشياء صغيرة تحدث:
رائحة الكولونيا التي كان يستخدمها تعود فجأة.
كتاب "جواد" يسقط من الرف وحده.
أوراق بيضاء تظهر على الطاولة مكتوب عليها بخط يشبه خطه :
"اشتقتُ إليكِ."
وفي إحدى الليالي، حلمت أنها في منزلها، لكن النوافذ مفتوحة على حديقةٍ غريبة ، ورأت "جواد" واقفاً هناك، لا يتحدث، بل ينظر نحوها ويبتسم. ثم تلاشى.
استيقظت لتجد وردة صفراء واحدة على وسادتها !
***
ازداد شوقها. بدأت تكتب له كل ليلة. ثم جرّبت شيئاً أغرب: سجلت صوتها وهي تخاطبه، وتركته يعمل مكرراً طوال الليل. وفي إحدى الليالي، حين أعادت تشغيل التسجيل في الصباح، سمعت همسة غير صوتها :
"أنا معكِ… لا تخافي."
وفي كل حلم، كان يقترب أكثر، حتى تلك الليلة التي عانقها فيها وقال :
"قريباً، حبيبتي..."
***
مرت أشهر، و"ليال" لم تعد كما كانت. لم تعد حزينة، لكنها لم تكن حاضرة تماماً. كأنها تعيش بجزءٍ من روحها هنا... والجزء الآخر هناك، على الجانب الآخر من الحلم.
وفي عيد زواجهما، خرجت من منزلها بصمت، ترتدي فستاناً أبيض بسيطاً، وتحمل وردة صفراء. وصلت إلى قبره، جلست هناك طويلاً، تحدثه بهدوء، كأنها تبلّغه كل ما عجزت عنه الكلمات، ثم همست :
"أنا مستعدة..."
***
في المساء، وجدوها في فراشها، ملامحها ساكنة، وورقة صغيرة كتبت فيها بخطّها :
"حين تذبل الوردة هنا… ستزهر هناك."
دُفنت "ليال" إلى جوار "جواد"، كما تمنّت ، وكانت قد أوصت بهدوء، قبل أيام من رحيلها، أن تُنقش على شاهدة قبرها عبارة واحدة فقط :
"كنتُ قلبه حيّةً... وسكنتُ قبره حبيبةً."
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .