![]() |
تأليف : كمال غزال |
لا أحد يعرف من أين جاءت.
في فجرٍ غارق في الضباب، بينما كانت أجراس المعبد تقرع للصلاة...وجدوا طفلة صغيرة ملفوفة بوشاح أسود عند عتبة البوابة الحجرية. كانت صامتة، عيناها الرماديتان تحدقان في السماء ، وراحة يدها اليسرى وُشمت بهلال مقلوب، لم يُعرف له مثيل بين رموز المعبد.
قالت الكاهنة الكبرى، بعد صمتٍ طويل :
" نذرٌ مقدّس. هدية من الإلهة أيلونا… ليظل القمر مضيئاً "
هكذا كبرت الطفلة بين جدران المعبد الصامتة، يتيمة بلا ماضٍ، تُدعى سيليا.
لم تكن تضحك، ولم تُبدِ رغبة في الكلام، كأن اللغة لا تسكنها.
لكنها كانت ترقص…
وترقص كما لو أن شيئاً غامضاً في داخلها يتذكّر ما لا يُروى.
وقبل أن تبلغ السابعة، بدأت تظهر عليها علامات غريبة:
كانت تُكلّم الظلال في أروقة المعبد، كأنها تعرفها.
تفتح عينيها أثناء نومها، وتهمس بلغة لم يعرفها أحد.
تُخمد نار المشاعل عن بعد، ثم تُشعلها بنظرة… كأن النار تطيعها.
ارتابت الكاهنات، وتردّدن في الصمت، لكن كبيرتهن قالت بثبات:
"هي نذر أيلونا… النور يسكنها، ونحن لا نفهم مشيئة الآلهة."
لكن سيليا…
لم يُعلّمها أحد كيف ترقص، أو يصحح لها خطواتها.
كانت تتحرك بخفةٍ كأن الأرض تتنفس تحت قدميها،
وتدور كما لو أن الريح تختار لها المسار.
ذراعاها تنساب في الهواء كخيوط بخور،
ورأسها مائلٌ بنعاسٍ مقدّس، كأنها تُنصت لما لا يُقال.
كلما تحرك جسدها، صدحت أصداء لا يسمعها سواها،
وكل من نظر إليها شعر بأن الرقصة ليست مهارة… بل ذاكرة قديمة تتجسّد.
كأنها لا ترقص أمام بشر، بل تُخاطب شيئاً لا يُرى… ولا ينسى.
قالت عنها الكاهنة يوماً، والدمع يلمع في صوتها:
" إنها لا ترقص… إنها تعود إلى ما خُلقت منه. "
ليلة النذر
ذات خسوف، حين غطّى ظل الأرض وجه القمر، أعلن الكهنة إقامة رقصة النذر الكامل - أقدس طقس يُقدّم فيه الجسد كاملاً للإلهة، ليتحوّل إلى وعاء للنعمة السماوية.
اصطفّت الكاهنات حول الدائرة، ووقف الكهنة قرب المذبح، بينما وقفت سيليا في المنتصف، ترتدي وشاحاً أبيض حريرياً، يرفرف بلا ريح.
بدأت الرقصة.
خطواتها كانت واثقة… لكنها لم تكن بشرية.
الهواء ثقيل.
النار تترنّح.
والأرض تحت قدميها بدأت تهتز.
ثم…
انفصل ظلها عنها.
بقي في مكانه، ثم تحرّك…
ورقص وحده.
تجمد الجميع.
الكاهنة الكبرى شهقت:
"هذا ليس طقس نور… هذه رقصة استدعاء ! "
لكن فوات الأوان.
تشقق حجر المعبد، وتفجّر منه دخان أسود كالغضب. خرج منه صوت لم يُسمع من قبل
قال الصوت بلغةٍ بدائية: " أيلونا ليست إلا قشرة، أنا من تحتها… من قبلكم، ومن بعدكم. سيليا كانت نذري أنا. وها أنا أستعيدها."
تشقق حجر المعبد، وانبعث منه دخان أسود كثيف، كأن الأرض لفظت سُخطها الدفين. ارتجّت الجدران، وتطايرت الرموز المنحوتة كما لو كانت تخجل من البقاء. ومن أعماق هذا الصدع، خرج صوت… لا يشبه صراخًا، ولا همسًا، بل كأن العدم نفسه تكلّم.
كان الصوت يغلي بالحقد، عتيقاً كالنسيان، وقال بلغة لم تُدوَّن قط :
" أيلونا؟ تلك التي تُسمّونها سيدة النور؟ قشرة وُضعت لإخفائي، وستُكسر.
أنا من سُحق اسمي تحت صلواتكم، ومن نُفي إلى الظل كي تشرق هي.
سيليا لم تكن هدية منها… بل وسيلتي، وجسري، ونذري الذي تجرّأتم على تقديمه لعدوتي."
ثم علا الصوت كالرعد المتقطّع :
"أنا من قبلها، ومن بعدها…
الظلال التي لا تُمحى،
واللهيب الذي لا يُرى…
وها أنا أستعيد ما سُرق مني."
حينها سقط جسد سيليا خالياً، خفيفاً كرماد.
لكن الظل… بقي.
يرقص.
ويلفّ حوله رماد الطقوس.
انهار قلب المعبد.
واختفت سيليا.
ولم يُفتح المعبد بعدها أبداً.
لكن الناس يقولون إنهم، في كل ليلة اكتمال قمر، يرون ظلًا متراقصاً على عتبة بقيت من أطلال المعبد،
يمشي ببطء،
يرقص بلا جسد،
والمشاعل تُشعل من تلقاء نفسها…
وتتمايل مع إيقاعٍ لا يسمعه إلا من اقترب أكثر مما ينبغي.
إنه شبح سيليا…
راقصة النذر،
التي لم ترقص للنور،
بل حرّرت كياناً ظلاميّاً ظلّ نائماً في الصمت لآلاف السنين،
كي يُبعث من جديد...
وتُبنى له المعابد بدلاً من أنقاض النور.
تقول الأسطورة أن من حاولت تقليد رقصة سيليا، تُصاب بحالة غريبة: لا تنام، لا تأكل ، ترقص بلا توقف، حتى يذوب جسدها لتصبح ظلاً جديداً مع قافلة الظلال الراقصة حول أنقاض معبد أيلونا.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .