![]() |
تأليف : كمال غزال |
في خريفٍ رماديّ ينهش أطراف الجبال، وبين أشجار الزيتون التي انحنت كالعجائز تحت وطأة الرياح، كان الشاب المغامر "يونس" يشقّ طريقه بين أنقاض قرية منسية تُدعى "تيمزليت" - اسمٌ تلاشى من الخرائط، لكنه بقي ينزف في حكايات الجدّات والليل ، لم تكن "تيمزليت" مجرد قرية مهجورة، بل جرحاً مفتوحاً في ذاكرة الجبال… مكان يقال إنه مسكون، لا بالأشباح، بل بما لم يُسمح له أبداً أن يُنسى.
ما إن وصل حتى لمح شيئاً غريباً وسط الحقول الموحلة؛ فتحة حجرية دائرية مغطاة بأخشاب مهترئة وكتل من الطين اليابس. كان ذلك بئراً جافاً لا ماء فيه، أو هكذا قيل. البئر كان محاطاً بأشواك برية، وكأن الطبيعة نفسها أرادت حجب سره. لكن يونس، الذي اعتاد ملاحقة المجهول، اقترب، رفع الغطاء الخشبي بصعوبة، وألقى بحجر إلى داخله… لم يسمع صوت ارتطام. وما هي إلا لحظات حتى ارتفع إلى أذنه أنين خافت… أنين بشري.
تسارعت دقات قلبه، وتملكه شعور غامض بين الرهبة والفضول. قرر النزول بحبل طويل كان يحمله في حقيبته. ومع كل متر يهبط، كان الهواء يزداد برودة، وكأن البئر لم يكن مجرد تجويف في الأرض، بل باباً نحو عالم آخر.
في قاع البئر، وجد نقوشاً على جدرانه، بلغة لا يعرفها، لكنها تشبه ما رآه مرة في كتاب عن حضارات الأمازيغ الغابرة. وبين الصخور، كانت هناك عظام صغيرة، وقطعة قماش ممزقة عليها أثر دم جاف، وخيط أحمر معقود بطريقة غريبة. شيء ما لم يكن على ما يرام. هذا لم يكن بئراً مهجوراً… بل مقبرة.
وهو في البئر بدأ يجمع خيوط القصة من أفواه العجائز القلائل الذين ما زالوا يتذكرون أطياف "تيمزليت". أخبروه عن "سيدي بوعلام"، الرجل الغريب الذي وفد إلى القرية قبل ثلاثين عاماً. لم يكن من أهلها، لكنه استقر فيها فجأة، بنى داراً فخمة من لا شيء، وامتلك أراضيَ كانت مهجورة، وصار الناس يخطبون وُده رغم خشيتهم الخفية منه.
قيل إنه رأى طفلاً مميزاً في السوق، بعينين متغايرتين، يحمل خطاً قاطعاً غائراً وأفقياً في كفه ، علامات الزوهري التي يعرفها السحرة جيداً. قيل إن الطفل اختفى بعد يومين من تلك الرؤية، وأن أمه ماتت حسرة. لم يُعثر له على أثر… ومن يومها ظل هناك بئر ينتحب في الليالي.
بحسب الرواية، لم يكن الغنى المفاجئ الذي ناله "سيدي بوعلام" صدفة. فقد تواصل مع "الحارس"—جني قديم يحرس كنزاً دفيناً من عهد المور، مدفوناً في عمق الأرض، لا يظهر إلا لطفل زوهري نقي. وبالفعل، اصطحب الساحر الطفل معه إلى أطراف نائية من القرية، حيث تجلت له إشارات الكنز وظهرت له فتحة البئر. لكن الحارس لم يسمح له بأخذ الكنز مباشرة. فقد كان الكنز مرصوداً تحت عهدة جنية من كبار ملوك النار، تُدعى "نارغيسا"، لا ترضى إلا بدمٍ بشري نقي، قرباناً يُلقى في جوف الأرض، في ظلمة لا شمس لها.
قُيّد الطفل من يديه إلى الخلف، ووقف الساحر عند فوهة البئر يتلو طلاسم لا تُفهم، ثم ألقاه حيّاً في الظلام، ومن داخل الجوف، جاء الرد… زئير مخنوق تبعه سكون… ثم سُمعت ضحكة بعيدة، وتشققت الأرض من حول البئر لحظات، ثم ابتلعت الدم… وفي اليوم التالي، بدأ الذهب ينهال على بوعلام.
لكن الغنى لم يجلب له السكينة.
قيل إنه مات وهو يصرخ باسم الطفل، وكأن صوته كان عالقاً في جوفه لا يخرج إلا بالعذاب.
وقيل إن الطفل لم يتركه لحظة منذ ذلك اليوم… كان يراه في المنام، مقيد اليدين، يتأرجح في الظلام ويصرخ من عمق البئر: "ارفعوني… ارفعوني ! "
اليوم، وبعد سنوات من الصمت، نزل يونس إلى البئر، وسمع أنين الطفل. وربما… لم يكن مجرد أنين. ربما كان صوتاً يدعوه… أو يُنذره.
***
لم يُعثر على يونس حتى الآن.
عُثر فقط على حقيبته الجلدية، متروكة بجوار فوهة البئر المفتوحة، وحبل يتدلّى نحو العتمة… مقطوعاً من منتصفه.
قال بعض من اقتربوا من المكان لاحقاً، إنهم سمعوا صوتاً خافتاً في الليل، ليس أنيناً هذه المرة، بل ضحكة خافتة… أنثوية.
فهل كانت نارغيسا قد اختارته ؟
أم أن الحارس، وقد طال انتظاره، قرر أن يأخذ قربانه بالمجّان ؟
منذ ذلك اليوم… لم يعد البئر يئن.
بل أصبح صامتاً… صمتاً يخيف أكثر من أي صوت.
والأدهى من ذلك، أن أحداً لم يجرؤ على النزول بعد يونس ،
فقد غلبت الأسطورة الرحمة، وساد الخوف حتى على فكرة الإنقاذ !
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .