![]() |
تأليف : كمال غزال |
في عام 1975، كانت تركيا تعيش على إيقاعٍ خاص - مزيجٌ من البساطة والطبيعة الساحرة، قبل أن تغزوها زحمة المدن والضجيج الحديث.
في الريف، حيث تمتد الغابات والأنهار مثل قصائد نائمة، كان الليل أعمق، والمطر أكثر حزناً.
في إحدى هذه الليالي الشتوية، بين جبال "بولو" التي تغرق في بحر من الضباب، كان مراد يقود دراجته النارية القديمة، عائداً من زيارة طويلة لشقيقته.
الطريق الريفي كان طويلاً ومتعرجاً، يمر عبر غابات صنوبر شاهقة، تتمايل أغصانها تحت أنين الريح.
تصاعدت العاصفة فجأة.
انهمر المطر، وكأن السماء فتحت أبوابها لكل الأحزان الدفينة.
على حافة الطريق، لمحت عيناه ضوءاً خافتاً فوق سقيفة خشبية بالية، بالكاد تقاوم العاصفة.
أوقف دراجته ودلف تحتها، يحتمي من السيل.
بينما كان يلف ذراعيه حول جسده المرتجف، لمحها.
كانت فتاة تقف على مبعدة خطوات، ساكنة كظل.
ترتدي فستاناً أبيض طويلاً، مبللاً وعالقاً بجسدها الهزيل.
كان شعرها الأسود الكثيف يلتف حول وجهها الذي بدا وكأنه مصنوع من رماد القمر.
وعيناها، أعمق من أي ليلة ممطرة.
شعر مراد بقشعريرة تقبض على قلبه، لكنه لم يتراجع.
قال لها، بصوت يكاد يخترق العاصفة:
" هل أنت بخير؟ "
لم تجب.
ارتجفت فقط، كتلك الأغصان التي تلطمها الريح.
بتلقائية، خلع معطفه الثقيل، المصنوع من صوف سميك، ولفّه حول كتفيها المرتجفتين.
للحظة خاطفة، ابتسمت له - ابتسامة خافتة، ممزوجة بالامتنان واليأس.
جلسا صامتين تحت السقيفة، والمطر ينهمر أمامهما كستار يفصل بين عالمين.
وحين هدأ المطر قليلاً، أشارت له إلى درب ضيق يتلوى بين الغابة.
"منزلي هناك..."
همست بصوت بالكاد يُسمع.
قادها مراد على دراجته عبر الوحل والغابة الصامتة.
كانت أشجار الصنوبر تنحني فوق رؤوسهم، وكأنها تراقبهم بصمتٍ ثقيل.
أخيراً، ظهر منزل قديم متهدم قليلاً، نصفه غارق في الظلال، والآخر تومض خلف نافذته شمعة خافتة، تقاوم ظلمة الليل.
رغم أن الحديقة الأمامية بدت مهجورة، إلا أن ضوءاً شاحباً يؤكد أن هذا البيت لم يهجره البشر تماماً.
ترجلت الفتاة.
استدارت نحوه مرة أخيرة... وابتسمت - ابتسامة وداع حزينة... ثم تلاشت، كما يتلاشى السراب مع أول خفقة ريح.
ارتجف قلب مراد.
تردد لحظة، ثم صعد درجات الباب وطرقه.
فتح له رجل مسنّ، يحمل على ملامحه آثار وحدة عمرها سنوات.
"تفضل يا بني..."
دعاه الرجل بصوت منكسر.
قاد مراد إلى غرفة صغيرة مضاءة بشمعة واحدة، حيث علق على الحائط إطار قديم لصورة فتاة صغيرة ترتدي نفس الفستان الأبيض.
قال العجوز، وعيناه تلمعان بالدموع:
" ابنتي...
منذ سبع سنوات، في ليلة مثل هذه، خرجت من البيت لزيارة صديقة... ولم تعد.
عثروا عليها ميتة قرب النهر، جرفتها السيول.
وفي كل ليلة ماطرة، تعود... تبحث عن البيت... تبحث عن طريق العودة الذي انقطع إلى الأبد."
سكت العجوز قليلاً، ثم أضاف:
"كثيرون شاهدوها من بعيد،
لكنك أنت الوحيد الذي توقّف، ومنحها دفئاً...
كأنك عدت بها للحياة للحظة. "
ناول مراد معطفه، الذي بدا أثقل مما كان - وكأنه يحمل فيه شيئاً آخر غير المطر.
" غادر يا بني... لا تلتفت للخلف."
ركب مراد دراجته، وانطلق في طريقه نحو محطة القطار، يطارد أضواء المدينة البعيدة.
لكن في آخر منعطف، حين لمح بقايا الغابة في المرآة، رآها.
تركض بين الأشجار حافية القدمين، ،
وتبتسم له - ابتسامة وداع ممتلئة بالحزن.
ثم ذابت في الضباب.
وفي مقعده داخل القطار المتجه إلى إسطنبول، جلس مراد شارداً.
كان المطر يضرب زجاج النافذة كما لو أنه يهمس له باسمٍ لم يُنطق...
واسمٍ لم يُنسَ.
لم يكن يعرفها.
ولا يعرف حتى اسمها.
ومع ذلك، كانت الذكرى تقف خلف عينيه، حيّة، نابضة، كما لو أنها زرعت نفسها هناك، في أقصى نقطة من روحه.
تخيلها كما لم يرها من قبل.
تذكر يدين صغيرتين تخيطان شريطاً وردياً لزيّ المدرسة.
تخيلها وهي تحلم أن تصبح معلمة، تزرع الحروف في قلوب الأطفال.
أن تجلس قرب نافذة تطل على الغابة، وتعزف على البُزق مقطوعة حزينة من تأليفها،
وتكتب قصائد صغيرة عن الغيوم... والمطر... والمواعيد التي لا تأتي.
رآها تجري بين أشجار الصنوبر، تحمل دفتر أحلامها بلون السماء،
وتضحك كما يضحك مَن لم يعرف بعد أن الدنيا لا تنتظر أحداً.
تذكر طفولةً أجهضها المطر...
وحياةً لم تكتمل...
وروحًا بقيت، معلّقة بين الأشجار والضباب،
تهيم في الغابات كلما نادت السماء.
أغمض عينيه، ثم فتحهما ببطء،
ورسم بإصبعه على زجاج القطار اسمًا لا يُقرأ...
اسمًا يشبه الحنين.
لم تكن تبحث عن بيتها فقط.
ربما كانت تبحث عن أحدٍ يذكرها كما تستحق.
ومراد...
تأخّر كثيراً في الوصول، لكنه كان الوحيد الذي منحها دفئاً،
ولو للحظة...تبدو الآن أبديّة.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .