![]() |
تأليف : كمال غزال |
كان اسمه يسبق صوته، وصورته تسبق ظله.
الرائد أشرف عمران، صقر النيل.
طيّار مصري من طرازٍ خاص، نادر كمياه النيل في موسم الشح.
كفاءة مطلقة، انضباط حديدي، عينيه لا تهتزان تحت الضغط، وعضلات يده اليمنى أقوى من قانون الجاذبية نفسه.
خاض مناورات دولية مع كبار الطيارين، وكانت رتبته تُذكر باحترام في أكاديميات الطيران… لا فقط في مصر، بل في ثلاث قارات.
لكن المجد… هشّ.
والمؤسسات، كما تعرف، لا تحميك حين تخرج عن النص.
في إحدى ليالي إبريل من عام 2021 داخل برج المراقبة الجوي في قاعدة شرق القاهرة، اختفى المنطق.
ظهر جسم طائر على الرادار - ليلةٌ جافة، خالية من العواصف، والسماء صافية.
لكن ما ظهر لم يكن سهلاً تفسيره :
جسم بيضاوي يشع نوراً أبيض يتحرك بسرعة تتجاوز القدرات البشرية، يغير اتجاهه لحظياً، كما لو أنه يسبح لا في الهواء، بل في بُعد آخر.
صدرت الأوامر عند الساعة الخامسة مساء :
– " نرسل الأفضل… أرسلوا الرائد أشرف عمران."
أقلع وحده، صامتاً، كما اعتاد.
السماء أمامه… والرمال تحته… والمجهول بينهما.
وما هي إلا ربع ساعة ...عندما رأى الجسم لأول مرة ، كان عملاقاً قدر حجمه بثلاثة طائرات بوينغ ، لم يشعر بالخوف، بل بشيء يشبه التنازل ، كأن قوانين الفيزياء نفسها تراجعت خطوة إلى الوراء احتراماً لما يراه.
حاول الاتصال. لا رد.
أطلق صواريخه…
فاختفت قبل أن تقترب، كأنها دخلت نفقاً من العدم.
ثم… غمر الضوء الأبيض الطائرة.
ما حدث بعد ذلك لم يُكتب في أي تقرير.
استفاق أشرف داخل فضاء دائري، له جدران شفافة نابضة، كأنها كائنٌ حيّ يتنفس.
الزمن بدا متجمداً، لكن إدراكه كان في ذروته.
ثلاث كائنات رمادية وقفت تحيط به، طويلة نحيلة، جلودها لامعة كالسيراميك الرطب، رؤوسها بيضوية متضخمة بلا شعر، وأعينها سوداء واسعة، بلا جفون، كأنها آبار مفتوحة على عوالم لا تُرى. لا أنوف تُذكر، فقط نتوءان صغيران، ولا أفواه تتحرك… لكن الأفكار كانت تنسكب في ذهنه كالماء، واضحة، مباشرة، دون صوت.
كانوا ثلاثة… وأحدهم رجح أنها أنثى، بدت ملامحها أكثر لطفاً، أكثر سلاسة في حركتها، كأنها خُلقت من ضوءٍ لين لا من لحمٍ أو مادة.
كان الأطول قامة أول من "تحدث" ، لا بصوت، بل بومضات عقلية مباشرة، كلمات تُبثّ في رأسه كما تُبث الإشارات في سلكٍ مغلق.
قال له بلغة لا تُشبه لغة :
"أطلقت علينا النار، وأنت لا تعرف…
والنتيجة ؟
أصبحت ضيفاً عندنا."
لم يكن في نبرته غضب، بل أشبه بتقرير موضوعي، لا حُكم فيه ولا لوم.
ثم التفتت الأنثى إليه، و"نطقت" بعذوبة هادئة، كأن حضورها وحده يشفي الانهيار الداخلي:
" نحن من أوريون.
زرنا أرضكم قبل أن تُسجّل تواريخكم.
خوفو كان يعرف.
الأهرامات ليست قبوراً… بل بوابات.
مرآة سماوية لمواقعنا. "
كان صوتها كالحلم، لكنه غاص في أعماقه كيقين.
عرضوا أمامه صوراً ثلاثية الابعاد في الفراغ
معابد فرعونية ويظهر في السماء مركبات تحلق فوق كهنة تبدو كأنها صورت الآن لكنها موثقة من زمن بعيد جداً قبل اختراع آلات التصوير لدى البشر
لمح أيضاً نقوشاً خفية تتبع مسارات بين الكواكب مجموعتنا الشمسية وأخرى في المجرة.
فجأة غادر طويل القامة برفقة الكائن الانثوي فيما ظل الثالث وأقصرهم قامة صامتاً يحدق إليه.
ثم ارتجفت المركبة برعشة خفيفة، كأنها تتحرر من قبضة الجاذبية،
ورأى على الشاشة أمامه مشهداً عظيماً
الأرض تتناقص خلفه، تصغر شيئاً فشيئاً… حتى غابت.
وها هو في قلب الفراغ،
يسبح بعيداً… أبعد مما بلغ خيال إنسان.
مرت أمامه كواكب مألوفة،
لكنها هذه المرة كانت بحجمها الحقيقي، دون وساطة تلسكوب أو صور رقمية.
المشتري مرّ به بعظمته المهيبة،
زحل بدوائره المذهلة،
ثم أورانوس بلونه الزجاجي الغريب…
وجذبه الجمال حدّ الصمت،
فلم يجد إلا التسبيح يخرج من داخله دون وعي:
"سبحانك يا خالق هذا كله… كم نحن صغار !"
الكائن لم ينبس بشفة ..
لكن أشرف أحسّ بشيء،
شعور مبهم أن هذا الكائن أراد أن يقول له شيئاً على عجالة وتردد ...
شيئاً عن صحراء سيناء.
ربما موقعاً… أو حدثاً لم يأتِ بعد.
لكنه لم يفعل.
كأن اللحظة اختنقت، أو الوقت انتهى.
ثم…
عاد.
ليجد نفسه في قمرة الطائرة،
تسير وحدها،
والسماء من حوله… لم تعد كما كانت.
حين استعاد وعيه داخل طائرته وسط ذهوله ... كانت الساعة تشير إلى قرابة 7 مساء !
أي سُجّلت فجوة زمنية قدرها ساعة و45 دقيقة !
بينما ذاكرته لم تسعفه بأكثر من دقائق قليلة داخل المركبة.
عندما حطّ في القاعدة، كان منهكاً…
في البداية لم يخبر أحداً
كان يفكر بصمت، عائداً إلى الأرض بجسده… لا بعقله.
تأمل مجدداً الزمن المفقود وراح عقله يستحضر احتمالين، يدوران في ذهنه بثقل:
إما أن المركبة قد اخترقت النظام الشمسي بسرعة خارقة، عبرت أمام المشتري وزحل حتى وصلت أورانوس وعادت، مما جعل الزمن داخلها يتقلص، في حين تمدد خارجياً على الأرض… كما تعلم ذات يوم في صف الفيزياء عن نسبية الزمن.
أو أن شيئاً آخر حدث داخلها.
شيءٌ لا يتذكره…
أو مُنع من تذكره.
وقد يكون هو مفتاح هذا الزمن المفقود.
خصوصاً أنه لم يتذكر أن المركبة عادت به مجدداً إلى كوكب الأرض !؟
أخيراً، قرر أن يتكلم.
أن يروي ما رأى… لا ليُقنع، بل ليُفرّغ.
وجاء الرد على بشكل ابتسامات صفراء ، ونظرات مشفقة، ونكات تتداولها الممرات :
– "راح يشرب شاي مع المريخيين !"
– "دا شاف أوريون ولا أوريو؟ "
– "يا جماعة، الطيارة اللي ترجع بالعقل، نديها وسام !"
– "رائدنا رجع شاعر ! "
– "شاف كائنات زي أفلام الثمانينات ! "
– "من كتر العزوبية، هلوس !"
قائد السرب خلع عنه أوسمته المعنوية بكلمات باردة.
لم يجد من يدافع عنه أو يصدق روايته !
لا زوجة... لا أولاد...لا أهل في البلاد.
حتى سجله الذهبي لم يُشفع له.
صقر النيل… أصبح أضحوكة الطيران.
اللجنة الطبية أوصت بـ"تقييم نفسي شامل".
جرى إبعاده عن الطيران لفترة حتى يخرج منها بـ "حس التفكير السليم".
ثم الصمت الممنهج…
السقوط البطيء لبطل لم يمت، لكنه لم يعد صالحاً لبطولات البشر.
وفي الليلة التي سبقت اليوم الذي كانت مصر تستعد لأعراس المجد في ذكرى نصر السادس من أكتوبر،
رأى أشرف رؤيا جلية، كأنها لم تكن حلماً بل توجيهاً.
رأى جبلاً يعلو فوق السحاب، يسطع فوقه نورٌ هادئ،
وصوتٌ لا يُسمع، بل يُشعر :
"نحن بانتظارك.
هذا هو الطور الحقيقي.
ارتقِ… لتُرى."
استيقظ، وهو يعرف أن الرؤيا لم تكن مجرد حلم…
بل دعوة.
حينها تذكر ما كان يحاول الكائن القصير القامة اخباره به
وفي صباح السادس من أكتوبر،
اليوم الذي ترفع فيه الأعلام وتُسطَّر فيه الخُطب وتُكرَّم فيه الأسماء،
صدر له أمر مباشر من القيادة :
"ستكون ضمن السرب الجوي الاحتفالي… لا اعتذارات."
امتثل… كما اعتاد أن يفعل دائماً.
ارتدى بزته الرسمية، ركب مقاتلته، واصطف في التشكيل الجوي بكل دقة.
لكن في داخله،
كان حطاماً يطير.
عيناه تحدقان إلى الأمام، وجسده يسير حسب التعليمات،
لكن قلبه كان في مكانٍ آخر… أبعد من الأرض، أبعد حتى من سماء العرض.
وفوق منصة الاحتفال، بينما كانت الجماهير تتابع سرب الطيران يمر في انسجام،
انفصل أشرف فجأة.
خرج من التشكيل، دون استئذان…
كمن يعرف وجهته تماماً.
لم يتردد، كأن خريطة روحية في صدره تقوده.
اتجه نحو جبلٍ لم يُحدد قط جغرافياً في قديم العقائد، لكنه رآه في رؤياه.
جبل الطور.
حيث دكّ النور النبي موسى…
فكيف لا يضم من دكّته الحقيقة ولم تُصدَّق ؟
في بثه الأخير، أرسل بصوتٍ هادئ :
" في يوم تحتفلون فيه بالسماء…
أختار أنا أن أُدفن فيها.
الطور ناداني… فهل تصدقون الآن ؟ "
ثم… الصمت.
تحطمت الطائرة على سفح الجبل.
لم يُعثر على الجثة.
بعض البدو في جنوب سيناء أقسموا أنهم رأوا وميضاً سماوياً صامتاً يسطع لحظة الاصطدام.
ومنذ ذلك اليوم،
في كل 6 أكتوبر،
ومع كل عام تحتفل فيه البلاد بنصرها،
يظهر ضوء غريب فوق جبل الطور.
رآه الكثيرون.
تحدث عنه القليلون.
لكن لم تُرسل لجان، لم تُكتب تقارير، ولم يُفتح تحقيق.
لأن ما لا يُفسَّر… يُسخر منه.
وما يُكذَّب… يُطمس.
وما يعلو… لا يُوثَّق.
لكن الطور يشهد.
والسماء تحفظ.
وكل من رأى النور هناك،
يعرف أن أشرف… لم يسقط.
بل صعد.
تمت
تنويه ختامي
هذا العمل الأدبي هو قصة خيالية بالكامل، لا تستند إلى أحداث واقعية أو شخصيات حقيقية.
جميع الأسماء، الأحداث، والمواقف - بما في ذلك شخصية "الرائد أشرف عمران" — هي من وحي الخيال، وأي تشابه مع الواقع هو محض مصادفة غير مقصودة.
ما ورد في القصة من تصرفات بطَلها هي جزء من مسار درامي رمزي وإنساني محض، لا يعكس مواقف أي مؤسسة عسكرية، ولا يُقصد به الإشارة إلى أي فرد حقيقي من سلاح الجو المصري أو غيره.
بل على العكس، نعتز ونفخر بسلاح الجو المصري، وبما قدّمه من بطولات تاريخية في سبيل الدفاع عن الوطن، وسيبقى رمزا للشجاعة والانضباط والتضحية.
هذا النص هو محاولة أدبية لاستكشاف مفاهيم الخيال العلمي والبعد الوجودي للإنسان أمام الكون الشاسع، ولا يحمل أي نية للنقد أو الإسقاط السياسي أو المؤسسي.
القصة تنتمي إلى عالم الخيال،
أما الواقع… فله أبطاله الحقيقيون.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .