20 أبريل 2025

إبرة صنوبر

تأليف : كمال غزال
كان سامر، طالب الطب المتدرّب في مشرحة الجامعة، من أولئك الذين يتعاملون مع الموت كما يتعامل الجراح مع مشرطه: بدقة، وهدوء، وتجريد من الشعور.

المشرحة كانت عالماً من الرخام البارد والفورمالين، تضيئه مصابيح صامتة وتراقبه كاميرات لا ترمش.

ولأن باب غرفة الفريزر قد يُغلق تلقائياً، وُضع داخله نظام إنذار حساس للحركة… لا فقط لإنقاذ من يُحتجز، بل أيضًا لكشف أي تحرك غير متوقع.
إجراءٌ أمني… وشيء من الحذر أمام الصمت.

في بداية شتاء باكر، استقبلت المشرحة جثة لرجل مجهول الهوية، في الأربعينات من عمره.

عُثر عليه ميتاً على أطراف غابة مهجورة، لا أوراق، لا أثر في قواعد البيانات.

سُجِّل في الملف: «مجهول – الغابة الشمالية – 1027».

منذ اللحظة الأولى، ارتجف شيء ما داخل سامر.
القسمات، وضعية اليد، ملامح مغمضة لا تشبه الغياب… بل تشبه الانتظار.

تلك الليلة، حلم سامر.

كان يسير في طريق ترابي ضيق، وسط أشجار شاهقة وصمت ثقيل، حتى وصل إلى مقبرة صغيرة مهجورة.

تحت شجرة صنوبر عملاقة، رأى قبراً غائراً، تعلوه شاهدة رخامية قديمة، على قمتها تمثال ملاك مكسور الجناح.

ومن الجناح المتبقي، تتدلّى إبرة صنوبر بخيط عنكبوت، تتمايل مع الهواء كما لو أنها بندول بين عالمين.

لم يكن على الشاهدة أي اسم.

لكن سامر شعر أن القبر… يعرفه.

استيقظ مرتجفاً.
دوّن كل شيء في مفكرته.

***

بعد يومين، بينما يعمل ليلاً في المشرحة، دوّى صوت إنذار الفريزر.

ركض سامر إلى الباب مذعوراً، فصادف أستاذه في الممر، يلهث من القلق:

" سامر !  كنت أظنك بالداخل ! "

فتحا الباب معاً.
كل شيء ساكن… إلا أن جثة "المجهول" كانت ذراعه متدلية، وكفّه مفتوحة، وفيها إبرة صنوبر، خضراء، يانعة.

***

مرّت الأشهر.

في أحد أيام عطلة الربيع، خرج سامر مع خطيبته كارول لزيارة منزل قديم معروض للبيع خارج المدينة.
خلف المنزل، لاحظ طريقاً ترابياً يتوغل في غابة كثيفة.

خطا سامر خطوة واحدة، ثم تجمّد.

"أنا مشيت في هذا الطريق من قبل..."
قالها بشحوب.

سارا حتى النهاية.

وهناك… كان القبر نفسه.. بدا حديثاُ.

الملاك بجناحه المكسور.
وإبرة الصنوبر المتأرجحة.
لكن هذه المرة، كان على الشاهدة اسم واضح :

"
إلياس نجيب الخوري 
1978 – 

"

وكان تاريخ الوفاة… مفقوداً !

وهنا تحرك سامر بسرعة.
طلب من الشرطة مراجعة بلاغات الفقدان، وبالتوازي، طلب من أستاذه إرسال عينة الحمض النووي من ملف "المجهول – 1027".

وبعد أسابيع، جاءت النتيجة :
الجثة كانت لإلياس.

كان بلاغ الفقدان قد سُجل سابقاً من قبل عائلته، مع تقديم عينة الحمض النووي من والدته.
تطابقت التفاصيل… وتكشفت الحقيقة.


***

سافرت العائلة إلى الغابة، ومعهم جسد إلياس الخارج من المشرحة، في سيارة جناز، متجهًا إلى القبر الذي نحته لنفسه يوماً…
تحت شجرة الصنوبر.

أقيمت له جنازة متأخرة، صامتة، دامعة.

وضعت أمه وردة بيضاء على رأس القبر، ثم انحنت فوقه ودموعها تنهمر، وهمست بصوت متهدّج:

"مغفور لك يا إلياس… الرب يعرف وجعك."

أما شقيقه الأكبر، فقد أخرج كتاباً من حقيبته… رواية قديمة كان إلياس يحدثه عنها كثيراً.

قال له يوماً:

"وصلتُ لهذه الصفحة… وتوقفت. شعرت أنني لا أحتاج أن أعرف ما بعدها."

فتح الكتاب عند تلك الصفحة، ووضعه مقلوباً فوق الشاهدة، مفتوحاً… كأن القارئ سيعود ليكمل.

كانت الجملة التي أشار إليها إلياس ذات مرة:

" بعض الناس لا يموتون لأنهم تعبوا… بل لأنهم لم يعودوا يجدون مكاناً يشبههم في هذا العالم. "

***

لكنّ ما لم يعرفه أحد… هو ما حدث فعلاً في ذلك اليوم.

كان إلياس رجلاً مريضاً، يعاني من مرض عضال لا علاج له.

انسحب في صمت من حياة الجميع.
لا وداع، لا مشفى، لا دموع.
أراد أن يرحل دون أن يثقل قلب أحد.

ذهب إلى الغابة.
اختار بقعة نائمة تحت صنوبرة أحب ظلها.

طلب من نحات أن يصنع له شاهدة رخامية باسمه… وترك تاريخ الوفاة فارغاً.

لم يُخبر أحداً.
أخفى مرضه… كما أخفى قبره.

وفي يوم ما، بعد أن اكتمل القبر، عاد ليتأمله.
جلس على المقعد الخشبي، يتأمل سكون ما قبل النهاية.

ثم سمع مواء خافتاً.
قطة صغيرة عالقة على أحد الأغصان.

نهض… رغم وهنه.
حاول تسلق الشجرة.

زلّت قدمه.

وسقط.

سقط على الشاهدة.
وانكسر جناح الملاك.
ومات فوق قبره… قبل أن يُدفن فيه.

ما رآه سامر… لم يكن حلماً.
كان نداء.
رمزاً من عالم لا ننتبه إليه إلا إذا صمتنا بما يكفي.

إبرة الصنوبر… لم تكن غصناً عادياً.
كانت توقيعاً.

" أنا هنا… لم أُنسَ بعد. "

فمن قال إن الموتى لا يتكلمون ؟
إنهم فقط… لا يُسمَعون.

تمت


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .