![]() |
تأليف : كمال غزال |
عاد أيمن إلى حلب بعد غيابٍ طويل. مغترب في بلادٍ بعيدة، ظنّ أن الشوق للوطن لا يُطفئه سوى أن تسير في أزقة الحارات التي حفظت وقع قدميك، وأن تتنفس هواء الاسواق القديمة الممزوج بعبق صابون الغار ورائحة الزعتر.
كان الوقت شتاء، والبرد يتسلل من جدران البيوت العتيقة إلى العظام. دعاه ابن خالته بحفاوة :
" تعال نزور حمّام يلبغا… الحمّام بعده شغال، وما في أطيب من سخونته للي رجع من الغربة."
تردد، لكنه انصاع. ربما الحمّام سيغسل التعب الذي لم يقدر عليه السفر ولا حتى النوم.
دخل الحمام مع ابن خالته في ظهيرة رمادية. كان البخار قد بدأ يعانق الأقواس الحجرية، يتسلل من فتحة في القبة ليغلف المكان بهالة من العزلة، كأن الزمن قد تجمد.
في الداخل، بدا كل شيء غارقاً في صمتٍ ثقيل، لا يقطعه إلا صوت تنقيط الماء وصرير الدلاء. كان أيمن برفقة ابن خالته في القسم الداخلي، يتبادلان أطراف الحديث ويغسلان تعب الأيام، لكن شيئاً ما دفعه لاحقاً إلى طلب بعض الخصوصية. أراد أن يسترخي وحده، أن يترك للبخار فرصة لتفتيت شتاته، وربما ليستمع لصوت نفسه بعد كل تلك السنوات في الغربة.
اقترب منه أحد العمّال، وأشار بصوت خافت نحو "الجواني" – الحجرة الأكثر عمقاً وسكوناً – حيث البخار أكثف، والماء أدفأ، والعزلة... أكمل.
خلع ثيابه، ودخل بمفرده
جلس قرب الحوض الحجري، وترك الماء الساخن يلامس أطرافه المتعبة. أغمض عينيه.
ثم… بدأ كل شيء.
سمع رفّة. كأن نسمة برد مرّت رغم كل هذا البخار. فتح عينيه، ورآها:
خصلة شعر سوداء طويلة، تنساب فوق سطح الماء، ببطءٍ مريب.
تراجع قليلاً. لاحقاً قال لنفسه إنها ربما من مستحم قبله، لكنها انسحبت وحدها، كأن أحداً جذبها من تحت.
ضحكة خافتة، ناعمة، امتزجت بصوت بفقاعات الماء المتصاعدة. أدرك أنها كانت صادرة من القبة أعلى الحوض ليرى ظلًا أنثوياً … لم تكن واضحة، لكن تفاصيلها بدت كأنها منحوتة من بخار ورائحة عطر قوية وغريبة
اقترب أكثر من الحوض، وهمس صوت خلفه :
"هل عدت ؟ أنا لم أغادر المكان..."
ارتجف أيمن. التفت، لا أحد خلفه. فقط البخار... والماء الذي صار أكثر حرارة كأنه يغلي من الداخل.
أراد النهوض، لكن شيئاً أمسك بقدمه تحت الماء. يد ناعمة، باردة، بأصابع طويلة وخاتم نحاسي معقوف على الإصبع الأوسط.
شهق، وقفز للخارج. ضرب رأسه بجدار الحمام، لكن لم يهتم. لف جسده بالمئزر، وركض نحو الباب، يجرّ أنفاسه المرتجفة.
في الخارج، سأله العامل :
"شو في يا أستاذ ؟ ليش وجهك مصفّر ؟"
لم يجب أيمن، فقط تمتم:
"هي... كانت في الحوض."
ضحك العامل بهدوء وقال :
"آه، الجواني... هو مو للجميع. في ناس بتشوف، وفي ناس بتمرّ وما تحس بشيء. بس في أرواح ما بتغادر… خصوصاً اللي ماتت وهي عم تستنى شي مهم."
لم يفهم وقتها.
بعد أسبوع، عاد أيمن إلى بلد إقامته.
صار نومه شحيحاً، وأفكاره أكثر زحاماً من شوارع مدينته القديمة.
بدأ يشكّ في عقله، وتغيّر وجهه أمام زملائه؛ نظراته شاردة، خطواته مترددة، وارتجافه يفضحه كلما سمع خرير الماء… حتى من صنبور مغلق.
دفعه الفضول لنبش ذاكرة المكان الذي قلب سكونه إلى فوضى، حتى جاءت تلك الليلة التي قرأ فيها مخطوطة إلكترونية تُنسب لابن شداد، وفيها إشارة غامضة إلى "الأميرة زين"… خطيبة أحد أمراء المماليك، التي كانت تستحم في الجواني قبيل زفافها.
لكنها لم تخرج منه قط.
قيل إنها انزلقت، وقيل إن خادمتها دسّت لها السم حسداً…
لكن الأغرب، أن أحدًا لم يرَ جثتها قط.
فقط، خصل شعرها… تطفو بهدوء على سطح الماء.
قيل إن الماء احتواها، وإن روحها بقيت حبيسة البخار والحجر، أسيرة طقوس لم تكتمل.
في تلك اللحظة، أدرك أيمن الحقيقة القاسية :
أن من لمح خصلة الشعر، ومن سمع الهمس، ومن لامسته اليد من تحت الماء… لم يكن الأول.
ولن يكون الأخير.
لكن ما لم يكن يدركه، أن شيئاً أعمق كان يحدث… بعيداً عن إدراك البشر.
في عام 2011، حين انهارت شواهد حلب القديمة، كان حمّام يلبغا من بين ما طالته يد الخراب.
سقطت القباب، وتشققت الجدران، وتبعثرت بلاطات الجواني كما لو أنها لفظت سرّاً دفينًا ظلّ مختوماً لقرون.
ولم يكن الانهيار حجارةً فقط... بل قيداً انفكّ.
فالروح التي سكنت الجواني طويلاً، لم تعد هناك.
تسلّلت من بين الشقوق، ومع أول نفس بخار، خرجت تبحث عن عينٍ قد رأتها، عن جلدٍ قد ارتعش بلَمسها… عن من فتح لها الباب دون أن يعلم.
ومنذ تلك اللحظة، لم يعد أيمن وحده.
في غرفته المعتمة،
في صمت الليل الذي يشبه صمت الحمّام،
هناك نفسٌ آخر… يتنفس قربه.
ثم بدأت العلامات :
المرايا تغشاها غلالة من البخار دون سبب.
قطرات ماء تتناثر على الأرض، وصنبور الماء الذي يفتح من تلقاء ذاته .
خصلة شعر سوداء… رطبة، تتوسّد وسادته.
وفي الليل… يراها.
ظلّ خفيف، يمرّ من عند السرير. لا يُرى إلا من طرف العين،
وحين يفتح عينيه، لا يجد شيئاً… سوى ضحكتها، همساً قرب أذنه وبلهجة ألفها :
"نسيتني ؟…
بس أنا، ما بتركك."
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .