![]() |
تأليف : كمال غزال |
تحت قبة النجوم التي بدت كحبات ألماس متناثرة في السماء الصحراوية، اتجهت سيارة الدفع الرباعي تقطع طريقها بين كثبان الرمال الذهبية، كانت الأجواء هادئة، لا يعكر صفوها سوى صوت المحرك ونغمات الموسيقى الهادئة التي اختارها نايف وراكان لمغامرتهما الليلية. كان الهدف واضحاً: استعادة شيء من ذكريات الشباب التي سرقتها مسؤوليات الحياة ورتابة الأيام في المدن الصاخبة.
وصل الصديقان إلى بقعة نائية تُعرف محلياً باسم "خشم الدار". كانت منطقة غامضة، تهمس عنها الأساطير بحذر، ويحكي عنها كبار السن قصصاً تشبه الكوابيس. ترجّل الاثنان وبدءا في نصب خيمتهما الصغيرة على ضوء المصابيح الخافتة.
" تحس بالهدوء ذا ؟ ما أدري... كأنه مو طبيعي." قال راكان وهو يشعل نار المخيم.
"إيه، هدوء غريب... كأنه في شي يراقبنا من بعيد" رد نايف بابتسامة ساخرة وهو يخرج بعض الأطعمة من السيارة.
لم تمضِ سوى ساعة حتى بدأت الرياح بالتحرك بخفة، تحمل معها أصواتاً خافتة كهمسات أشخاص بعيدين. نظر الاثنان لبعضهما البعض وكأنهما يحاولان التأكد مما يسمعان.
" هاه، سمعت شي ؟ " تساءل نايف بريبة
- "والله كأنه أحد يهمس ورا التل… بس ما أشوف شي" أجاب راكان بصوت منخفض
اقترب الاثنان من أعلى الكثيب الرملي المطل على منطقة مفتوحة، وهناك رأوا ظلالاً تتحرك ببطء، كأنها أرواح راقصة تحت ضوء القمر الشاحب.
"وش قاعد يصير؟ المكان ذا موب طبيعي… أحس البرد قاعد ياكل عظمي. " تساءل راكان مرتجفاً
تقدم نايف خطوات بحذر، ليدرك سريعاً أن الظلال ليست سوى انعكاسات لأشجار ميتة تتحرك أغصانها بفعل الرياح ، ابتسم نايف بارتياح وقال :
"هذي بس أغصان، تتحرّك مع الهوا… لا توسوس".
لكن راكان أمسك بذراعه بقوة وهو يشير إلى شيء بعيد في الظلام.
في وسط الساحة الرملية، كان هناك مبنى طيني قديم نصفه مدفون تحت الرمال، يبرز منه باب متهالك مفتوح على ظلام دامس بدا وكأنه يمتص نور القمر.
" قسم بالله ذا البيت ما كان موجود قبل شوي ! " همس راكان، وصوته يرتجف.
" يمكن ما انتبهنا له… يمكن كان مظلم ما بان " رد نايف محاولاً الحفاظ على هدوئه.
لكن الفضول والخوف تمازجا في داخلهما، فقررا الاقتراب. كانت خطواتهما ثقيلة، وكأن الرمال ترفض السماح لهما بالتقدم. وحين وصلا أمام الباب، شعر الاثنان وكأنهما يقفان على حافة عالم آخر.
"مَن هناك؟! " صرخ نايف بصوت عالي، ثم أطلق صفيراً في الفراغ، متحدياً القصص التي كان يظنها خرافات، ناسفاً الحواجز بين الجرأة والجهل.
الصفير… لم يكن مجرد صوت، بل كان كسراً للحجاب، ذبذبة اخترقت نسيج الليل وأيقظت شيئاً كان مدفوناً في طبقات الزمن. شيئاً لا اسم له… ولا ملامح. شيئاً كان يستمع بصبر، وينتظر اللحظة المناسبة كي يُبعث من سباته.
فجأة، نهض كيان هائل من وسط الظلام واقترب منهما ، عينان حمراوان تتوهجان كجمرتين في وجه بلا ملامح ، وقائمتين تشبه الحوافر، زفر بهما ، لكنه لم يتحرك… فقط كان راقب.
صرخ راكان، وتراجع نايف خطوتين للوراء، وقبل أن يلتف الكيان نحوهم، انطلقا مذعورَين كمن يهرب من الموت نفسه. ركضا نحو السيارة، قفزا إلى مقعديها، وأدار نايف المفتاح… لكن المحرك لم يستجب.
جميع المحاولات فشلت.
كأن السيارة كانت تحت تأثير لعنة.
وفي اللحظة التي قررا فيها البحث عن طريق للعودة سيرا على الأقدام، ظهرت حولهما ظلال داكنة، تدور وتقترب بسرعة مخيفة. وقبل أن يدركا ما يحدث، وُجدا نفسيهما مقيدين بحبال غير مرئية، يسحبان نحو وسط الظلام.
داخل الظلام الكثيف، ظهرت كائنات بعيون باردة، لا مشاعر فيها
كانت تتلو كلمات بلغة لا تُسمع، بل تُشعر، وكان الهدف واضحاً: التضحية...
كانا جسدين مطلوبين لتحرير ذلك الكيان المُقيد ببوابة النسيان في الداخل.
في لحظة الذعر الشديد، صرخ راكان بقوة وسقط أرضاً دون حراك، وقد توقف قلبه عن النبض من فرط الرعب. أما نايف فقد نجا بأعجوبة، بعد أن انفكت القيود عنه وسط الفوضى والهمسات.
بعد أيام .. عُثر على نايف من قبل الشرطة التي كانت تقوم بمناوبة في المنطقة، كان يهيم في الصحراء فاقداً عقله، يتمتم بكلمات غير مفهومة وعبارات متقطعة عن مبنى طيني وظلال قاتلة.
عاد نايف إلى منزله، لكن المنزل لم يكن كما تركه.
في الليلة الأولى، استيقظ على صوت خافت يناديه باسمه، من داخل خزانة مغلقة.
في الثانية، وجد صور طفولته على الأرض، وقد خُدشت وجوه من فيها… إلا وجهه.
وفي الثالثة، استيقظ ليجد المرآة مغطاة ببخار، كُتبت عليه جملة واحدة فقط :
"تراك للحين ما شفت شي..."
كانت في عينيه ومضات غريبة. كان يسمع الأصوات قبل أن تنطق. يرى أحلام الآخرين، ويشعر بالزمن في خطوط اليد. كأن شيئاً قد عاد معه… أو بعبارة أدق: كان هو قد عاد بشيء.
الرقاة أجمعوا أن قرينه تغيّر. لم يعد ذلك الظل الباهت الذي يلازم كل إنسان، بل أصبح كياناً واعياً… يتحدث، ويتدخل، ويقود.
وفي صباحٍ غائم، خرج من منزله للمرة الأخيرة، تاركاً الباب مفتوحاً،
وعيناه لا تريان هذا العالم، بل ما خلفه.
ظل المنزل ساكناً لسنوات، يبتلع الغبار والصمت، إلى أن سكنته عائلة لا تعرف من الحكاية سوى الجدران. بدا كل شيء طبيعياً في النهار، لكن مع هبوط الليل، كانت البرودة تتسلل من بين الشقوق، كأن البيت يتنفّس من الداخل.
ثم بدأ الصفير…
رفيعاً… مستمراً… يأتي من مكان لا يمكن تحديده.
كأن أحداً ما يقف خلف الجدران… يهمس عبر الزمن.
حاولوا تجاهله.
ثم حاولوا تفسيره.
ثم… توقفوا عن الحديث عنه تماماً.
ففي هذا البيت، لا يُطرح سؤال عن الصفير.
ولا أحد… مهما بلغت شجاعته… يرد.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .