![]() |
تأليف : كمال غزال |
لم يكن لأحد أن يزوره.
عادل، الستّيني، عاش حياته وحيداً، بلا إيمان، بلا علاقات حقيقية، يردد دائماً :
"نحن مجرّد شرارة في ظلام الكون... نُولد، نحترق، وننطفئ."
أحب العلم، واحتقر الغيب، ولم يُصغِ يوماً لقلبه.
لكن عندما جلس أمام الطبيب، وسمع الخبر البارد :
" الكليتان فشلتا كلياً يا أستاذ عادل... جلسات الغسيل مستحيلة الآن. نحن في المرحلة النهائية ".
تغيّر كل شيء.
لم يعد يفكر ببرود.
بدأ الليل يطول.
والصمت صار جداراً يردّد صدى سؤال واحد ، لا يهدأ :
"هل حقاً سأزول ؟ دون أثر ؟ دون معنى ؟ "
ذلك الذي كان يسخر من الأديان، صار يشعر برعب هائل...
لا من الموت ذاته، بل من أن لا يكون هناك شيء بعده.
أن يُمحى، أن يُلغى من الوجود كأنّه لم يكن.
وهذا ما كان يقتل فيه ما تبقّى من راحة.
ليلى، الممرضة التي كانت تمرّ عليه يومياً، شعرت بشيء مختلف في هذا المريض الصامت.
كان في عينيه حزن غريب، لا يشبه الخوف من الموت، بل يشبه الخوف من الفراغ.
مع الوقت، بدأت تزوره أطول.
تجلس بجانبه، تصغي إلى أسئلته، لا تجادله، لا تبشّره.
كان صوته يضعف، لكن أسئلته تزداد حدة
وفي إحدى الليالي، قال لها وهو يحدّق بالسقف :
- " تخيلي... كل هذا الحب، الظلم، الدموع، الضحكات... يذهب إلى العدم ؟
أين العدالة ؟ أين من قُتل دون ذنب ؟ أين من عاش طاهراً ومات منسياً ؟
إذا لم تكن هناك حياة أخرى... فالكون هذا لا يستحق الاحترام. "
أغمض عينيه وقال :
- " أنا خائف، ليلى... لا من الموت، بل من ألا يكون هناك شيء بعده."
وضعت يدها على يده، وقالت بهدوء:
- "ربما يكون هذا الخوف هو أوّل صلاة حقيقية في حياتك."
في ليلته الأخيرة، كانت السماء تمطر بهدوء فوق بيروت، وصوت الريح يداعب النوافذ القديمة.
بعد أكثر من شهرين في المستشفى، طلب منها أن تبقى معه بعد انتهاء المناوبة.
دخلت غرفته فوجدته في سكون ناعم، وجهه شاحب، لكنه ساكن كمن أنهى جدالاً طويلاً.
أمسك بيدها، ثم رفع يده المرتجفة إلى عنقه، وفك قلادة معدنية داكنة، نقشت عليها حروف صغيرة قديمة لا تكاد تُقرأ.
وضعها في كفّها، وقال :
- "احتفظي بها…
لم أفهم يوماً لماذا كنت ألبسها كل هذه السنين،
لكن الآن فقط… أعرف."
فتح عينيه بصعوبة، نظر إليها نظرة شكر
تمتم بصوت خافت وهو يزفر أنفاسه الأخيرة :
" إنه هو... من أعطى الروح، فله وحده أن يستردّها."
ثم سقطت دمعة من عينه.
وسكنت ملامحه كمن وجد أخيراً السلام الذي ظلّ يطارده طوال حياته.
أغمضت عينيه بيديها، وجلست إلى جواره حزينة، لكنها لم تشعر أنه مات…
بل عاش لحظة واحدة أخيراً، بكل صدق.
مات عادل على حافة العدم…
لكنه أدرك أخيراً أن الحافة ليست نهاية،
بل بداية العبور إلى رحم آخر…
حيث يولد المعنى، ويتجلّى العدل،
ولا تبكي العيون من الخوف، بل من اليقين.
كانت الوحيدة التي حضرت جنازته.
الوحيدة التي عرفت حقيقته.
أما البقية... فكانوا وجوهاً غريبة لا تعرف من كان هذا الرجل الذي عاش ملحداً… ومات مؤمناً .
وفي يوم ميلاده، فتحت درجها لتجد أن القلادة قد اختفت.
همست باسمه،
فشعرت فجأة بوجوده خلفها.
التفتت، فرأته للحظة، يبتسم، وفي يده القلادة، ثم اختفى.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .