![]() |
تأليف : كمال غزال |
كانت "سُهى" قد خرجت من غزة في سيارة إسعاف، بجسد زوجها المحترق، وبقلبها الممزق أيضاً.
في المقعد الخلفي، كان عزام يلفظ أنفاساً متقطعة، تُغرقه في غيبوبة طويلة.
وفي ذاك اليوم نفسه، وفي ركن آخر من المدينة،
كانت ابنتها "رُبى" تلهو قرب المطبخ عندما سقطت القذيفة.
لم يبقَ منها شيء… لا جسد، لا شاهد، ولا حتى خيط شعر.
لم تُدفن. لم يصلَّ عليها.
أخبروها أنهم وجدوا قطعة ممزقة من ثوب رُبى، لكن قلبها رفض أن يصدق… كيف تنتهي الحياة دون أن ترى نهاية مَن تحب ؟
في القاهرة، ظلت إلى جانب عزام في غرفة العناية المركزة.
حاولت أن تزرع له الحياة بالنظرات، بالكلمات، بالذكريات… لكنه رحل صامتاً.
تم دفنه في تربة لا تعرفها، ثم استأجرت شقة صغيرة على أطراف المدينة، تحمل فيها وحدها عبء الغياب.
كانت تزور قبره كل جمعة، وتقرأ له ما كانت تحفظه من القرآن، وتبكيه…
لكن حين تنتهي دموعها، كانت تبكي "رُبى" أكثر.
***
في أحد الأيام، حين كانت تغادر المقبرة، سمعت بكاءً خافتاً.
توقفت… رأت طفلاً صغيراً ملتصقاً بقبر، يقبّله، ويهمس إليه.
كان يرتدي ثوباً باهتاً، وحذاءً أوسع من قدميه، وعيناه تسبحان في بحر من الحزن.
سألته بهدوء :
– "ماما ؟ "
أومأ برأسه دون أن يرفع وجهه، وقال :
– "راحت فجأة… وبابا مش عايز يشوفني..."
اقتربت وجلست قربه، كأنها وجدت ظلاً من "رُبى" في عينيه.
قالت له بلهجة مصرية يألفها :
" عايز تكلّمها ؟ اكتب لها جواب… وادفنه جنب القبر، وحط معاه ورقة بيضا… يمكن، يمكن تردّ عليك ".
ومنذ تلك الجمعة، صار يأتي كل أسبوع.
يكتب رسالة من قلبه الصغير…
يحكي عن الخبز اليابس، وعن صراخ زوجة أبيه، وعن أحلامه التي لا تكتمل.
كان يدفن الرسالة، ويضع معها ورقة بيضاء فارغة.
وحين يذهب، كانت سُهى تأتي…
تقرأ كلماته، وترد عليها برسائل باسم أمه، كأنها تعيد صناعة الحنان.
إلى أن جاء ذلك اليوم.
جاء الطفل، وضع رسالته، ودفن ورقة بيضاء جديدة، ثم رحل.
اقتربت سُهى بعد دقائق، وأخرجت الورقة البيضاء لتكتب كما اعتادت.
لكنها لم تكن بيضاء.
كانت مكتوبة !
لكن ما كُتب لم يشبه شيئاً من هذا العالم.
الكلمات لم تكن فوق الورقة، بل داخلها، كأن الحبر خُلط بالألياف، لا يُمسح ولا يُمحى.
كان اللون رماديًا ندياً، ضبابياً، لا يشبه حبر الأقلام…
وكانت الرائحة المنبعثة منها… عطراً لا يُشبه أي عطر.
زهرٌ سماوي… أو تربةٌ مقدسة… لا تدري.
قربت الورقة إليها وقرأت :
" حبيبي... ما تكتبليش تاني.
أنا سامعاك من غير كلام، وبشوفك وإنت مغمّض عينيك.
ما تزعلش... أنا في مكان... زَي الجنة. "
ارتعشت سُهى.
حدقت في الورقة مطولاً، وقلبها ينبض كما لم ينبض منذ رحيل عزام.
لم تكتب شيئاً. فقط أعادت دفن الورقة كما وجدتها.
***
منذ ذلك اليوم، لم يأتِ الطفل مرة أخرى.
اختفى كما جاء… بهدوء، دون وداع، وكأن الرسالة الأخيرة أغلقت الباب بينه وبين الحزن.
كانت سُهى تراقب المكان كل جمعة… لكن لا رسائل، ولا أوراق بيضاء بعد ذلك.
***
مرّ عامٌ فقط.
لكنّه كان أطول من كل أعوام عمرها.
رأت حلماً.
كانت تسير في زقاقٍ يشبه أحد أحياء غزة قبل الحرب…
لكن الزقاق لم يكن فيه ركام، بل زهور.
ثم وجدت نفسها أمام حافة وادٍ صغير، حيث شجرة زيتون قديمة…
وبجوارها شاهدٌ رخامي صغير، محفور عليه :
"
رُبى عزّام الحداد
07 ذو القعدة 1445
15 مايو 2024
15 مايو 2024
الطيور لا تموت، بل تغيّر سماءها."
صرخت… ركضت نحو الشاهد، جلست عنده، وبدأت تحفر بيدها حفرة صغيرة في التراب.
أخرجت ورقة مكتوبة من جيبها - بثت فيها كل شوقها - ثم دفنتها، كما علّمت الطفل.
رفعت رأسها، والدموع تبلل التراب.
وفجأة…
انبعث من القبر نور دافئ، لا يؤذي العين،
نورٌ ناعم، تفوح منه نفس الرائحة التي شمّتها في الورقة.
ومن وسط النور…
تجسدت "رُبى".
كما كانت.
بضفيرتها اليسرى المنفلتة، وفستانها السماوي، ووجهها الممتلئ بالحياة.
لم تتكلم "رُبى"، ولم تُحرّك شفتيها…
لكن سُهى شعرت أن الكلمات تنساب في أعماقها،
كأنها لم تسمعها بأذنيها، بل بوجدانها كله :
" أمي .. حبيبتي …
لقد وصلني كل ما لم يُكتب، كل ما وُضع تحت التراب من حنينك.
أنا لا أغيب… أنا أنتمي إلى نورٍ لا يُرى، وسلامٍ لا يُفسَّر.
لا تكتبي… فأنا أسمعك.
ولا تحزني… فأنا في مكان يشبه الجنة،
وفي قلبك، دائماً. "
ثم تلاشت.
استيقظت سُهى والدموع تنساب على وجهها…
لكنها لم تكن دموع الحزن، بل دموع مَن لامس صدرها دفءٌ من السماء،
ابتسمت… دون أن تدري لماذا، وكأن قلبها تلقّى أخيراً الجواب الذي انتظرته طويلاً.
ثم نظرت نحو النافذة…
وأدركت أن شيئاً فيها عاد حيّاً.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .