26 أكتوبر 2025

ستيفن سبيلبرغ: الكاتب الذي جعل الماورائيات مرآة للإنسان

ستيفن سبيلبيرغ - كاتب ومخرج افلام الماورائيات والخيال العلمي
إعداد : كمال غزال
عندما نسمع اسم ستيفن سبيلبرغ، تتبادر إلى أذهاننا صور المغامرات الكبرى، والمخلوقات الغريبة، والأطفال الذين يتطلعون إلى السماء. لكنه في العمق ليس مجرد مخرج للأحلام الهوليوودية، بل كاتب ومفكر سينمائي ينسج قصصه بوحيٍ من الماورائيات، ومن هواجس الإنسان أمام ما لا يُفسر ، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ظل سبيلبرغ يحفر في منطقة فريدة بين العلم والإيمان، بين الواقع والأسطورة، بين الطفولة والمجهول.

طفل يرى العالم بعين الفضول والرعب

وُلد ستيفن آلان سبيلبرغ عام 1946 في ولاية أوهايو الأميركية لأسرة يهودية متوسطة. عاش طفولته متنقلاً بين ولايات عدة، وكان خجولاً، منغلقاً على نفسه، ومولعاً بالتصوير منذ سنٍ مبكرة.

بدأ بتصوير أفلام قصيرة بكاميرا 8 ملم، أغلبها يدور حول المخلوقات الفضائية، الأشباح، والعوالم الخفية. ذلك الفضول الطفولي تحول لاحقاً إلى هاجسٍ فني مستمر: كيف يُمكن للسينما أن تجسد ما لا يُرى ؟

من الخيال العلمي إلى الرعب الماورائي

Close Encounters of the Third Kind (1977)

كتب وأخرج سبيلبرغ هذا العمل الذي يعتبر من أعظم أفلام الخيال العلمي ذات البعد الروحي. الكائنات الفضائية هنا ليست غزاة، بل رسل من عالمٍ آخر، حضورهم مزيج من الرعب والقداسة. يعالج الفيلم فكرة «النداء الكوني» و«الاختيار الروحي»، وهو أحد أوضح تجليات إيمانه بأن الظواهر الخارقة قد تكون وسيلة تواصل بين الإنسان والمطلق.

Poltergeist (1982)

كتب قصته وأنتجه، وترك توبي هوبر يتولى الإخراج الرسمي، لكنه ظل العقل الموجه للفيلم. هنا يظهر سبيلبرغ ككاتب ماورائيات بامتياز: بيت في ضاحية أميركية يتعرض لهجوم أرواح ضاجة، تتحول الحياة اليومية إلى مسرح لكشف روحي رهيب ، إنه ليس رعباً لأجل الرعب، بل صرخة عن هشاشة الأسرة الحديثة أمام ما وراء المادة. إقرأ المزيد عن فيلم Poltergeist

E.T. The Extra-Terrestrial (1982)

أشهر أفلامه وأكثرها إنسانية. كتب فكرته في أعقاب انفصاله عن والديه، فحول المخلوق الفضائي إلى رمزٍ للحنين والمصالحة بين العالمين: عالم البراءة وعالم الغربة الكونية. الرعب هنا عاطفي أكثر منه بصرياً.

A.I. الذكاء الاصطناعي (2001)

فيلم يجمع بين الخيال العلمي والفلسفة، يحكي عن روبوت طفل يُدعى ديفيد صُمم ليحب أمه البشرية بلا نهاية، لكنه يُترك وحيداً في عالم لا يقبله ، يحول سبيلبرغ القصة إلى رحلة ماورائية عن الحب والخلود والبحث عن الروح داخل آلة.

في النهاية، يصبح ديفيد رمزاً لإنسان يحاول أن يخلق معجزة بيديه -  ذكاء يحمل قلباً.

بين الدين والعلم: الماورائيات في إطار فلسفي

لم يكن سبيلبرغ يقدم الكائنات الغريبة أو الأشباح كرموز شريرة دائماً؛ بل كـ كائنات متفوقة أو انعكاسٍ لأسئلة الإنسان عن الخلق والمصير.
في أعماله، هناك دائماً ثنائية:

- العلم مقابل الإيمان (Close Encounters, Jurassic Park).

- الإنسانية مقابل الوحشية (Schindler’s List, War of the Worlds).

- المعرفة مقابل الغموض (A.I. Artificial Intelligence).

إنها ليست مصادفة أن أغلب أبطاله أطفال أو باحثون -  رمزان دائماً للسعي نحو الحقيقة وسط فوضى الكون.

أسلوب الكتابة: هل هو كاتب تقليدي أم يكتب ليصنع فيلم؟
سبيلبرغ لا يكتب ليُقرأ، بل ليُرى ، قصصه ليست أدبية بالمعنى الكلاسيكي، بل بصرية مشهدية منذ الجملة الأولى. السيناريو عنده هو نواة الرؤية السينمائية، حيث يتوحد النص بالصورة والموسيقى والإضاءة.

لكن ما يجعله مختلفاً عن كتّاب السينما التجاريين أنه يكتب من القلب قبل العدسة: الشخصيات عنده ليست أدواتٍ للأحداث بل كائنات تشعر وتبحث.

إنه يكتب ليصنع فيلماً، نعم، لكن الفيلم عنده ليس “منتجاً”، بل تجربة وجدانية كاملة.

بين الرعب الإنساني والرعب الخارجي

نادراً ما يستخدم سبيلبرغ الدم أو الصدمة المباشرة. الرعب عنده يأتي من الحنين، الفقد، الوحدة، والمصير ، ففي فيلم  Poltergeist، الرعب هو فقدان الطفلة وفي A.I.، هو فقدان الأم والإنسانية وفي War of the Worlds، هو الخوف من الفناء.

إنه كاتب رعب ماورائي إنساني، لا “كابوسي”. الرعب في عوالمه لا يأتي من الجحيم، بل من داخل الإنسان.

قراءة نقدية

ينتقد بعض النقاد سبيلبرغ باعتباره كاتباً تقليدياً يُرضي الجمهور أكثر مما يواجهه؛ فهو يتجنب نهايات مأساوية أو فكرية معقدة ، لكن آخرين يرون في ذلك جزءاً من عبقريته: قدرته على جعل الماورائي مألوفاً، وعلى تمرير أفكارٍ فلسفية عميقة في أفلام يمكن لطفل أن يشاهدها.

إنه لا يكتب كـ"نبي للغموض"، بل كـ"راوٍ إنساني" يريد للناس أن يشعروا بالدهشة، لا باليأس.

أثره الثقافي والروحي

أعمال سبيلبرغ غيرت طريقة تعامل السينما مع الماورائيات. لم يعد الرعب حكراً على الظلمة والدم، بل صار بإمكانه أن يخرج من شاشة التلفاز، أو من نظرة طفل إلى السماء ، كثير من المخرجين اللاحقين كـ شامالان، ديل تورو، كوبرك في بعض جوانبه،  مدينون لـ سبيلبرغ الذي جعل الرعب لغة شاعرية للاتصال مع المجهول.

صانع الدهشة لا يزال يؤمن بالمجهول

يقول سبيلبرغ في إحدى مقابلاته: « أنا لا أؤمن بالأشباح، لكني لا أجرؤ على إنكارها » ، ربما هذه الجملة تلخصه تماماً: رجل يعيش على الحافة بين الشك والإيمان، بين الكاميرا والماوراء ، هو ليس كاتب رعب تقليدي، بل فيلسوف الضوء والخوف والإنسان -  الكاتب الذي لا يبحث عن وحوش، بل عن معنى في الظلمة.

نبذة عن الكاتب

كمال غزال باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات)  من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 إن لم تٌعتبر أشملها، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية ، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول".



إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .