كان الربيع يلفظ أنفاسه الأخيرة من عام 2009، والنسيم الرملي ينساب بهدوء على طرق الصحراء الخليجية الواسعة، حين شقّت سيارة دفع رباعي صمت المساء، يقودها رجل إفريقي من كينيا في الخمسين من عمره، اسمه "ماكوي".
على المقاعد الخلفية، جلس ثلاثة شبان عرب، تفيض أرواحهم بشهوة الحياة والاكتشاف: يوسف الكويتي، الذي يعمل ماكوي سائقاً لدى عائلته، وسليم الأردني، وكريم المصري.
كانوا عائدين من رحلة برية وسط أحاديث مرحة عن المغامرات والحياة القادمة، حين قال ماكوي : " هناك في بلدي، بحيرة خفية يلفها الضباب وسط غابات كاكاميغا، لم يرِد ذكرها في أي دليل سياحي، تسكنها نساء من نوع آخر ، فائقات الحسن ... يمكن أن تقول أنهن حورياتٌ يسلبن العقل والفؤاد."
ضحكوا كمن يواجه حكايةً عجائبية أول مرة.
لكن شيئاً في صوته، في نظراته المعتمة، جعل كلماته تترسب في رؤوسهم.
ظلت كلمات ماكوي عالقة بأذهانهم كدعوة غامضة لعالمٍ مجهول.
***
بعد تخرجهم بأسابيع، ومع شغفهم بمغامرة استثنائية، اقترح يوسف السفر إلى كينيا لاكتشاف حقيقة أسطورة ماكوي. لم يترددوا طويلاً، حجزوا الرحلة، حزموا أمتعتهم ، وقرروأن يكون ماكوي دليلاً لهم، سافروا جميعاً ووصلوا إلى العاصمة نيروبي ثم انطلقوا منها بسيارة جيب إلى قرية نائية تقع على تخوم غابة كاكاميغا.
لكن في اللحظة الأخيرة، غيّر ماكوي رأيه، كانت عيناه تائهتان في الأفق البعيد وبصوت خافت ممزوج بحذرٍ عميق، قال:
" اعذروني... لا أستطيع مرافقتكم.. لقد وضعت قدمي هناك ذات شباب، وما رأيته يكفيني لعمرين .. تلك البحيرة لا تزال تنتظر خلف التلال، في قلب الغابة... لكن لن أعود... ستحتاجون إلى حكمة من يعرف دروب الأرواح - ابحثوا عن الشامان، وحده يملك مفاتيح العبور.."
ثم دون أن يمنحهم فرصة للسؤال، ترجل من السيارة بخطى مسرعة، ولوّح لسائق حافلة تقف على جانب الطريق. بعد لحظات، كانت الحافلة تبتعد... حاملة معه صمتاً لم يفسّره أحد.
***
قادهم دليل محلي عبر الطرق الوعرة إلى قرية بدائية، حيث يقال إن الزمان توقف منذ قرون. لم يرحب السكان بهم، لكنهم دلوهم على كوخ منعزل خارج القرية، حيث يعيش "نجالا"، الشامان الذي يعرف أسرار البحيرة.
فتح لهم الشامان العجوز الباب بصمت، وكأنه كان ينتظرهم. بعينين غائرتين ووشوم تغطي وجهه، نظر إلى الثلاثة وقال:
" أنتم تريدون رؤية بنات الماء ؟ هذا ليس سفراً... بل عبور."
لكن قبل أن يبدأ الطقوس، مدّ يده قائلًا:
" لن يُفتح لكم الباب إلا بثمن... ليس فقط من أرواحكم، بل من جيوبكم أيضاً."
ثم أخرج قطعة قماش مهترئة ووضعها على الأرض أمامهم.
"خمسمائة دولار لكل واحد منكم. المال لا يعنيني، لكنه يعني للآلهة التي تخدمني، إنه وقود البخور، ورضا الأرواح."
ترددوا لوهلة، لكن شوقهم للمجهول كان أكبر من ترددهم. دفعوا له المال دون مساومة.
ثم تابع:
" والآن، أريد من كل واحد منكم سراً لم يُفصح عنه قط، شيئاً لم يُخبر به أحداً. ..سيُنتزع منكم ولن تعودوا تتذكروه، لكنه سيصبح جزءاً من التعاويذ."
بصمت، قبِلوا.
في كوخه باشر بطقوسه ، جمع أعشاباً عطرية وجذوراً مجففة، ثم ذبح بومة سوداء أمامهم دون أن يرف له جفن، وغمس رأس ريشة في دمها وكتب طلاسم غريبة على صدورهم العارية. كانت الحروف تحترق كالجمر على الجلد.
بعدها، قام بتبخيرهم ، كان دخاناً أبيض كثيف، وبدأ يتلو تعاويذ بلغة لا يفهمونها. ومع كل كلمة، كانت القشعريرة تسري في أجسادهم. ثم أشار نحو الشمال قائلاً:
" اذهبوا الآن...لقد دُعيتن...إن أردنكن، فستجدن الطريق."
***
ساروا في الطريق ...
كانت الهواتف بلا تغطية، لكنهم لم يبالوا، إذ غمرتهم رهبة المكان وجماله الساحر...
بدأ الليل يهبط عندما توغل الثلاثة داخل الغابة.
ضوء القمر بالكاد كان يخترق الأشجار العملاقة. بعد ساعتين من السير، توقفوا فجأة.
كانت هناك، على ضفاف بحيرة الضباب، جسد أنثوي مثير يستحم في المياه الخضراء، شعرها الطويل الفاحم ينسدل على كتفيها، وكانت تضحك… لا صوت للضحكة، لكنهم أحسّوها في رؤوسهم.
قال يوسف همساً:
" هل هذه...؟ هل هذه حورية ؟ "
ابتسم كريم وقال:
"إن كانت هذه النار، فأنا أريد أن أحترق."
وفي تلك اللحظة، رفعت الحورية عينيها إليهم، نظرة عميقة كأنها تخترق الذاكرة، دعوة صامتة لا يُقاوَم سحرها.. لم تنطق بكلمة
ثم سارت أمامهم بخطى بطيئة كأنها تنسج تعويذة، فتبعوها مسحورين نحو الضباب الكثيف وما إن لامسته حتى ابتلعها بهدوء، تاركة خلفها عطراً رطباً وأثراً غامضاً في الهواء.
اختفت ببساطة ! كما لو أنها ذابت في نسيج الغابة نفسها.
***
تقدموا أكثر وأرهقهم التعب حتى وصلوا إلى البحيرة المُحاطة بضباب دائم، وهناك على ضفافها، بين الأشجار المتشابكة، شاهدوا أكواخاً مصنوعة من القش ...مهجورة توحي بأنها بُنيت منذ زمن سحيق ونُسيت. ، قرروا المبيت فيها رغم برودة المكان وصمته المريب.
وفي لحظة ما بين الحلم واليقظة، ومع خيوط الفجر الأولى، استيقظ الثلاثة على صوت خافت يشبه همسات الماء.
كانت هناك أصوات خفيفة حول الأكواخ، كوقع أقدام عارية فوق أرض مبتلة، وأريج عطر لم يعرفوه من قبل. فتحوا أعينهم على مشهد لا يُنسى: ثلاث نساء يخرجن من الضباب، أجسادهن مبللة كأنهن خلقن من قطرات الندى، يقتربن بهدوء أشبه بالتحليق.
اقتربت كل واحدة منهن من أحد الشبان، جلست على صدره برفق، وأمالت رأسه لتهمس بشيء في أذنه، فشعر كل منهم بسريان دفء غريب في جسده، كأنه استُدعي من حلم بعيد.
جئن من أعماق الضباب، عاريات الجسد، بشرتهن تلمع كالحرير المبلل، وعيونهن سوداء بلا بياض، وشَعرهن يلتف كالطحالب الداكنة. لم يكن الشباب قادرين على التفكير، فقد شعروا بأن عقولهم وقلوبهم قد استُلبت بالكامل أمام هذا الجمال الغامض.
سليم لم يكن يوماً واثقاً من نفسه مع النساء، لكن واحدة منهن وضعت إصبعها على شفتيه، وسحبته إلى كوخها. تبعها دون كلمة.
في كوخ آخر، كانت يوسف يتلذّذ بقبلات فتاة تضع قدميها في النار دون أن تحترق.
أما كريم… فقد خرج وهو يتمتم : " أنا لم أعرف ما معنى أن تذوب داخل امرأة… حتى تلك اللحظة."
كانت الليالي مليئة بالمتعة التي لم يعرفوا لها مثيلاً، بل صارت أجسادهم تعرف الطريق إلى اللذة من تلقاء نفسها.
الرجال لا يتكلمون، ولا يسألون عن العودة. الهواتف لا تعمل، لكن لا أحد يهتم. الطعام يأتي من مصدر غير معروف، والنوم صار ثقيلاً، كأن هناك شيئاً يسحب أرواحهم ببطء.
نسوا الأيام، نسوا أنفسهم.
وفي الليلة السادسة، جاءت هي.
***
تحت ضوء قمر مكتمل، خرجت امرأة تفوق الأخريات جمالاً وسحراً بشعر أحمر حريري منساب، صوتها كأنه آتٍ من أعماق البحر:
" اقتربوا يا أحبائي... لقد طال انتظارنا. "
تبعوها باندفاع طفولي، عراة تماماً، إلى الماء الدافئ الذي بدا كأنه يحتضنهم كرحم أمومي.
دخلوا الماء، والتحموا بأجسادهنّ في عناقٍ جنوني، لذة بلا حدود، بلا اسم. لكن مع كل قبلة… بدأ الماء يُثقل صدورهم.
سرعان ما تحول العناق اللطيف إلى احتضان خانق.
حاول كريم أن يخرج، لكنها سحبته من قدميه.
صرخ يوسف، لكن فمه امتلأ بالماء.
سليم فتح عينيه ليرى وجه حبيبته الجميلة يتحوّل إلى فم مليء بالأنياب الزرقاء.
وفي لحظة يائسة، عمّ الظلام.
***
مر شهر كامل، ثم آخر. السلطات الكينية فتحت تحقيقاً، واستجوبت ماكوي الذي زعم أنه حذرهم وأنه لم يعرف أبداً بوجهتهم الأخيرة.
لكن تحقيقاً سرياً آخر أُجري في الخفاء، كشف اختفاء عدة مجموعات من الشبان في نفس المنطقة. لا جثث، ولا أدلة، فقط هواتف متروكة على ضفاف البحيرة، مليئة بصور ضبابية لأجساد أنثوية مجهولة.
***
أما "ماكوي" فعاد إلى قريته النائية، إلى بيته الطيني المتواضع عند أطراف نيروبي، يحمل في عينيه صمتاً لم يعرفه أحد من قبل. لم يخبر أحداً بما جرى، ولم يُعلّق على الحكايات التي بدأ الناس يتداولونها همساً عن "لعنة البحر" و"حوريات الدم والضلال".
لكنه كان يعرف… يعرف السرّ الذي لم يبح به لأي مخلوق.
قبل ثلاثين عاماً، كان مع رفاقه... دخل الماء معهم.
إحدى الحوريات اقتربت منه، جسدها تلوى كأفعى مائية، ألصقت جسدها بجسده، وهمست له بشهوةٍ جائعة : "أنت لست مثلهم… لكننا سنأخذ روحك أيضاً."
ذراعاها التفا حوله كما يلتف العشب الغارق على قدم غريق ثم سحبته للأسفل.
في تلك اللحظة، تذكّر ماكوي وصايا والده الطاعن في الإيمان، عن الشر حين يتجسد، عن أن بعض الجمال يحمل لعنة، وأن لا منجى من الماء إلا لمن يتشبث بالسماء.
فأغمض عينيه وبدأ يتلو المعوذات بصوت مرتجف، ركل الماء كمن يركل براثن الشيطان ذاته، وبين دعاء وآية، شعر بأن جسده أصبح أخف، وأن يدها الباردة انسحبت عنه، وكأن قوة خفية شقّت له درباً نحو النجاة.
نجا… نعم.
لكنّه لم يعد كما كان.
الكوابيس بدأت بعد عودته بشهور قليلة وما تزال ترواده حتى اليوم
يرى نفسه في كل حلم غارقاً في ظلام الماء، والحوريات أمامه، وقد تحوّلت وجوههن إلى مسوخ شيطانية، عيونهن حمراء، وأفواههن مليئة بأسنان دقيقة كالإبر.
يصرخ، لكن صوته لا يخرج.
يستيقظ مذعوراً، والعرق يغرق جسده… والماء يقطر من جدران ذاكرته.
وفي كل كابوس، يسمعهن يقلن له بصوت واحد :
" لقد أفلتَّ منا… لكننا هنا، فيك، في وجدانك. نعيش بين طيّات ذاكرتك… وننغّص عليك الحياة."
ماكوي نجا… نعم.
لكن شيئاً منه ظلّ هناك، تحت الماء.
***
قبل أن تطأ أقدامهم أرض كينيا، كانوا يتحدثون بحماسة عن الحوريات، يخلطون بين أساطير البحر وحور العين الذين وعدت بهم الجنة. كانوا في مقتبل العمر، قلوبهم عطشى للجمال، للألفة، للمسّ الأول الذي يوقظ الحواس النائمة.
لم يكونوا يبحثون عن الحب بقدر ما كانوا يلهثون خلف وهمه...
وكانوا يظنون، ببراءة شبابية، أنهم قد يجدونه هنا، على هذه الأرض...
بين ذراعي كائنات تشبه النساء، لكنّ أرواحهن كانت شيئاً آخر تماماً.
لقد أرادوا الجنة مبكراً،
فوجدوا الجحيم مقنعاً بالحُسن.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .