في مملكته، لم يكن أحد يسأل عن العدالة. كانت القرارات تُتخذ بنظرةٍ من عينيه، وحياتهم تُحسم بحركة من إصبعه.
لم يشعر الملك إيثام قط بتأنيب الضمير، حتى تلك الليلة التي أعدم فيها فتاة صغيرة بتهمة التآمر مع الشيطان.
لم يشعر الملك إيثام قط بتأنيب الضمير، حتى تلك الليلة التي أعدم فيها فتاة صغيرة بتهمة التآمر مع الشيطان.
وقف على شرفته في ظلام القصر، فشعر ببرودة شديدة تلفح وجهه، وهواء ثقيل يضغط على صدره. وفجأة، اخترقت سمعه صرخة واحدة حادة كإبرة تخترق أذنه، صرخة تحمل ألم مئات الأصوات. التفت حوله، لكنّه لم يجد أحداً.
عاد إلى الداخل، وهو لا يدري أنه قد أدخل معه شيئاً ما.
***
في الليلة التالية، استيقظ على صوت طرقات بطيئة على باب غرفته. فتح الباب، فوجد عجوزاً هزيلاً لم يرَه من قبل. كانت عينه اليمنى بيضاء كالحليب، وأسنانه سوداء كأنها رماد محروق.
سأله الملك بصوت مضطرب :
من أنت ؟
أجاب العجوز بابتسامةٍ جافة:
أنا صرختهم... جئت لأنكَ دعوتني.
تراجع الملك مرتعباً وهو يقول:
لم أدعُ أحداً !
ضحك العجوز:
من يقتل مظلوماً يدعوني دوماً. أنا الصوت الذي لا يسكت.
اختفى العجوز، ولم تبقَ سوى آثار قدم مبللة على أرض القصر.
***
بدأ الملك يسمع الأصوات في كل مكان. في الجدران، على الوسائد، في الطعام الذي يأكله. كانوا يصرخون باسمه، ينادونه كما لو أنه أبٌ خان أولاده.
حاول الهرب إلى غابةٍ بعيدة، لكن الصرخات تبعته إلى هناك. وفي لحظة جنون، تناول خنجره وقطع أذنه اليمنى، لكن الأصوات لم تصمت، بل ازدادت وضوحاً، وكأنها كانت تصدر من أعماق جسده.
جلس على ركبتيه، غارقاً في دمائه، وهمس بيأس:
ماذا تريدون مني ؟!
أجابته الأصوات بهمسٍ جماعي كأنه جوقة أرواح متعطشة:
اذهب إلى المحراب الخفي... هناك فقط، تنتهي أو نبدأ نحن.
***
مضى الملك نحو جبلٍ مهجور يُقال إن إلهاً قديماً منسياً أقام فيه معبده الذي أصبح مهجوراً منذ قرون.. لم يكن معبوداً كما تُعبد الآلهة في قصور البشر، بل كان يُخشى، ويُتوسّل إليه بالصمت، لا بالكلمات.
كل خطوة أخذها كانت تبتلعه أكثر في عتمة الذكريات التي حاول دفنها طيلة حياته.
في أعماق الجبل، وجد قاعةً هائلة يتوسّطها محراب من حجرٍ أسود، جاف كالجلد المحروق. لم تكن القاعة تشبه المعابد التي عرفها، بل بدت كأنها نُحتت داخل ذاكرة الكون ذاته، لا داخل جبل.
لكن ما لم يكن يتوقعه، كان النقش المتوهّج أعلى القوس الحجري، يعلو المحراب بلون لا يُرى إلا لمن يعرف الندم : "رَحمَتي سبقت غضبي"
تجمّد في مكانه، وفهم أن الإله الذي كان يُعبد هنا، في الأزمنة المنسية، لم يكن إله نقمة كما ظنّ... بل إله عدالة أسمى، ميزانها الرحمة لا البطش.
وفي تلك اللحظة، سمع صوتاً يهمس من الحجارة نفسها، كأن الجبل قد استيقظ :
" كل من اعتلى العرش بغير قلب، سقط منه بغير اسم… لأن المُلك بغير رحمة، ليس تاجاً، بل قيداً على عنق صاحبه ".
جلس إيثام مضطرباً، منتظراً حكماً لم يفهمه بعد.
ثم بدأت الوجوه تظهر من الظلام - وجوه ضحاياه، وجوه من ظنّ أنه نسيها. اقتربوا منه بصمت قاتل، وكل وجهٍ يحمل ألمًا يختلف عن الآخر.
توسّل الملك، وهو يرتجف :
" اغفروا لي… لقد أخطأت ! "
اقتربت فتاة صغيرة، كانت الأخيرة التي أعدمها، وقالت بهدوء مخيف:
"نحن لسنا هنا لنغفر. نحن هنا لنريك كيف يكون ألمنا."
***
بعد أيام، عاد الحصان الملكي إلى بوابة القصر، دون فارسه. بحث الجنود في كل مكان دون جدوى، وحين دخلوا القصر وجدوا العرش مغطى بطبقةٍ رقيقة من الرماد.
توقف الناس عن ذكر اسمه، لكنهم لاحظوا شيئاً غريباً !
في الليالي الهادئة، إذا وقف أحدٌ قريباً من غرفة الملك القديمة، يسمع صوت أنين مكتوم، كأنه صدى بعيد لصرخة واحدة طويلة لا تنتهي أبداً.
ومنذ ذلك الحين، لم يجرؤ أحد على دخول الغرفة، أو الجلوس على عرشٍ أصبح ملعوناً بالذاكرة، مسكوناً بالندم.
***
لم يُعرف ماذا حلّ بالملك إيثام، لكن الناس تناقلوا سراً روايةً تقول إنهم شاهدوه مرةً واحدة بعدها، يهيم وحيداً في البراري، بلا أذن، ووجهه شاحب كالشبح، وعينه اليمنى بيضاء كالحليب...
يظهر لمن يشعر مثله بالذنب، ويهمس في أذنه : " أنا الصوت الذي لا يسكت، جئت لأنك دعوتني."
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .