21 يونيو 2025

همسات الشيطان

تأليف : كمال غزال
في بيتٍ رمادي يقع على هامش البلدة، حيث تتلاشى ضوضاء العالم ويستيقظ الصمت، عاش توفيق مع زوجته ندى وابنتها لانا ذات الأربعة أعوام من زواج سابق.

من الخارج، كان المنزل يبدو كغيره من البيوت: شجرتان على الباب، نافذة تطل على الشارع، وستارة حمراء تلوّح للمارّين.

لكن الداخل... شيء آخر.

ندى كانت تصارع مرضاً غامضاً ينهشها بلا هوادة. جسدها يضعف، عيناها تذبلان، ونبضها يبهت.  وقف الأطباء حائرين. فقط توفيق كان يعرف ما يجري. كان يحقنها كل أسبوع بدواء "خاص"، تخبره بثقتها: " أنت منقذي."

وهو كان يبتسم… بصمت.

في إحدى ليالي الشتاء، حين كانت الريح تصفّر عبر النوافذ، أُغلقت عينا ندى إلى الأبد.

***

حاول توفيق أن يبدأ من جديد، أن يبعثر ذكريات ندى ويصهرها في قالبٍ من العزلة والصمت.

لكن لانا لم تمنحه تلك الرفاهية.

منذ رحيل أمها، صار الليل كابوساً متكرراً، يتسلل إلى نومها كالدخان، ويستيقظ في صراخها كل فجر.

كانت تشدّ شعرها، تتلوّى تحت الغطاء، وتشير بإصبعها المرتجف نحو خزانة غرفتها، هامسة بصوت مخنوق:

" الشيطان هناك... لا يريد أن يرحل... يقول إنه يحبني."

كان توفيق يبتسم، كعادته .

لكن مع كل ليلة، كان ذاك الابتسام يزداد قلقاً.

وفي محاولة لقطع سلسلة الرعب، عاد في اليوم التالي يحمل بين يديه أرنباً أبيض صغيراً، فروه ناعم كالثلج، وعيناه واسعتان كأنهما تريان ما لا يُقال.

قال لها وهو يركع أمام سريرها :

" هذا صديقك الجديد… سمه ما تشائين. سيبقى معك، ويحميك من كل كابوس."

عانقت لانا الأرنب بفرح صامت، سمّته "لولو"، ثم نامت تلك الليلة وملامح الطمأنينة ترتسم للمرة الأولى على وجهها.
لكن... لم يدم السلام طويلاً.

مرت أيام. الكوابيس عادت.
و"الشيطان"، كما وصفته، صار يتحدث أكثر، يهمس لها في الليل، يُخبرها أن لولو ليس صديقاً بل "جاسوس".

وقالت ذات مساء: " هو يغار منه… يقول إن لولو يسرقني منه."

في اليوم الذي تلت فيه تلك العبارة، انتشرت رائحة كريهة من غرفة لانا، كأن شيئاً ميتاً يئنّ من داخل جدرانها.
توفيق تتبع الرائحة حتى بلغ الدرج الخشبي الصغير قرب سريرها.

فتحه…

وهناك، بين الظلام والرائحة، وجد الأرنب ميتاً، جسده ملتف على نفسه كأن شيئاً احتواه حتى لفظ أنفاسه.
وبقرب الدرج، وُجد المفتاح الصغير… في يد لانا.

حين سألها، قالت ببرود غريب:

" الشيطان قال لي إنه يريد أن يلعب لعبة... أن نحبسه... حتى يسكت."

وصمتت.

كانت تلك الليلة بداية تصدّع ما تبقى من عقل توفيق.

***

الكاميرات التي نصبها توفيق في زوايا غرفة الطفلة، سجلت شيئاً لا يُعقل.

رجلٌ نحيل يخرج من الخزانة ليلاً. نصف وجهه مكشوف، شاحب، وكأنه يغطي تشوهاً بقناع جلدي أسود.
كان يجلس قرب سرير لانا، يحكي لها قصصاً، يضحك، ويُخرج من جيبه قطع حلوى صغيرة.

قال لها بصوت هامس :
" أنا الشيطان… لكن لا تخافي، أنا أحبك."

كانت لانا تصدّقه. وتقول لأبيها كل صباح :

" الشيطان زارني… حكى لي عن أميرة أحبت تنيناً. "

توفيق كان يظنها تهذي. لكن حين شاهد التسجيلات… لم يعد يستطيع تجاهل الأمر.

وفي ليلة، قرر البقاء في الغرفة. انتظر بصمت، حتى فُتح باب الخزانة.

وظهر الرجل.

كانت المواجهة دامية. انهال عليه توفيق بضربات عنيفة حتى فقد وعيه، ثم اتصل بالشرطة. الرجل اسمه "حسين عبادي" - مختل نجا من حريق التهم عائلته، عاش لسنوات في أسطح البيوت والمجاري، يتسلل ليلاً ويبحث عن "دفءٍ ضائع".

قال للمحققين بصوت خافت وعينين زائغتين: " لم ألمس الطفلة بسوء… كنت فقط أحكي لها القصص. كنت أريدها أن تصدّق أنني الشيطان… حتى يبدأ والدها بالشك في رواياتها."

وحين سأله أحدهم: "ولماذا ؟"

أطرق برأسه، وغرق في صمتٍ ثقيل…
لم يُجِب.


***

بعد أن اقتيد حسين مكبّل اليدين، وأنزل القناع عن نصف وجهه المحترق، شعر توفيق لأول مرة منذ شهور بأن الهواء يمكن أن يُستنشق دون أن يقطع حنجرته. ظنّ أن الكابوس انتهى، وأن الغريب الذي تسلل إلى بيتهم وادّعى أنه "الشيطان" قد طُرد من الحكاية إلى الأبد.

وفي تلك الليلة، نامت لانا بسلام…
سلامٌ قصير، كابتسامة ميتة.

في الليلة التالية، عادت الكوابيس.
لكنها لم تعد كما كانت.
لم تكن ترى الشيطان هذه المرة فحسب، بل أمها ندى ...وسط غرفة مشتعلة، تتلوّى وسط اللهب، تصرخ باسمها، وتزحف نحوها، ثم تشدّ على ذراع الطفلة الصغيرة بأصابع متفحمة وتهمس:

" لم أمت مريضة… توفيق قتلني."

في البداية، لم يُصدق توفيق ما تنقله ابنته.
لكن الهمسات… بدأت تلاحقه هو الآخر.

أولاً، كانت مجرد أصداء عابرة، تتسلل كالرطوبة إلى زوايا وعيه.
ثم أصبحت أصواتاً واضحة، تعرف اسمه، تناديه… تُحاوره.
ثم، بلا مقدمات، بدأت تصدر أوامر.

لم يعد يرى وجهه في المرآة وحده.
ندى كانت هناك… دائماً.
تحدّق فيه بعينين ساكنتين كالموت، لا تشتمه، لا تصرخ، فقط تنظر إليه نظرة واحدة تكفي لاقتلاع النوم من جفنيه.

حتى الأرنب الميت الذي تخلّصت منه ابنته، شعر كأنه لم يمت حقاً.
كان يرى وجهه في حلم، وفي كل مرة، كان الأرنب يحدّق فيه بعينين زجاجيتين يملؤهما العتاب.

الليل أصبح سراديب طويلة بلا نهاية،
والنهار فقد معناه،
كل شيء صار مشوّهاً… كأن البيت نفسه بدأ يختنق.

وفي إحدى الليالي، بينما كان جالساً في الصالة، بلا حراك، سمع الصوت داخله بوضوح لا يشوبه التباس، كأنه خرج من عظام جمجمته :

"لانا تعرف…

اقتلها."

كان الصوت هادئاً.
بارداً.
قاطعاً كالنصل.

***

في صباح اليوم التالي، عُثر على الطفلة جثةً هامدة في فراشها،

توفيق كان جالساً قربها، مذهول النظرات، يهمس لنفسه بكلمات لا تُفهم.

الشرطة ألقت القبض عليه، وبدأ التحقيق يُكشف عن ماضٍ مظلم.

توفيق لم يكن ما ظنه الجميع. لم يكن الزوج المثالي، ولا الأرمل المفجوع، بل كان شبحاً لذكرى مدفونة تحت رماد الطفولة.

في ماضيه، كانت هناك أمٌ لا تعرف الرحمة ولا الحياء، تستقبل رجالاً غرباء في غياب الأب، تضحك، وتهمس، وتُغلق الباب على نفسها… بينما كان الطفل توفيق يختبئ خلف الجدران، يستمع لكل أنّة، وكل صرير سرير، ويبتلع صراخه.

وهناك، في ذلك الظلام الطفولي، اشتعلت أولى نيران الغضب.

في التاسعة، قتل قطة.

في الثانية عشرة، خنق جارته العجوز.

ثم… اختفى. ذاب في الفراغ، وعاد بعد سنوات بهوية جديدة، ملامح جديدة، وقناع اجتماعي مشدود بعناية.

زواجه من ندى لم يكن بداية جديدة كما توهّم…

كانت هدنة مؤقتة.

محطة لصياغة الوجع من جديد… لكن هذه المرة ببطءٍ علمي، وبابتسامة هادئة.

الحقن الأسبوعية التي كانت تُطمئن الزوجة… لم تكن سوى قطرات من زرنيخ، تسيل كسماد للصبر حتى يذبل الجسد.

أما ذلك الصوت، الذي سماه بعضهم "وهماً"، فقد كان رفيقه الوحيد طوال الوقت.

صوت الشيطان… لم يصمت أبداً.

***

منذ ذلك الحين، بقي المنزل الرمادي واقفاً في طرف البلدة كندبة مفتوحة لا تندمل.
لا أحد اقترب، لا أحد تجرأ على لمس بابه أو النظر طويلًا في نوافذه المعتمة.

فالأصوات… لم تتوقف.

ليلاً، حين تنام البيوت، يعلو من داخل الجدران صرير خزانة تفتح وتغلق وحدها، خطوات صغيرة تجري عبر الأرض الخشبية، وضحكة طفلة تنفجر فجأة، ثم تختنق… وكأن شيئاً ما يُطبق على عنقها.

الجيران أقسموا أنهم سمعوا أنين امرأة تهمس من خلف الزجاج :

" لا تصدّقوه… توفيق ما زال هنا."

وفي بعض الليالي، يتردد صوت غامض، أجشّ، يشبه الصدى الخارج من قبو رطب:

" أنا الشيطان… لم أغادر بعد."

مرت سنتان. الناس نسوا الأسماء، لكنهم لم ينسوا البيت.

وفي صباحٍ ضبابي، شوهد طفل صغير يقف على عتبة الباب، يمسك بأرنب أبيض أشعث يبدو كأنه أُخرج تواً من قبر.

كان الطفل يتحدث إلى الجدار… كأن أحدًا خلفه يجيبه.
ثم، بهدوء، أمسك بمقبض الباب الحديدي الذي ما عاد يصدأ… وفتحه.

دلف إلى الداخل.

وأُغلق الباب خلفه… من تلقاء نفسه.

ومنذ ذلك اليوم،
لم يره أحد.
ولم يعد الأرنب.
لكن البيت… بات يضحك.


تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .