8 يناير 2013

لكن السند يبقى

تأليف :  رقية أبو الكرم
صوت انفلاق القذائق وهي ترتطم بالأرض، يوقظ ذاكرتي ذات شباط، ما بين غمائم الدخان الأسود، ورائحة البارود، وزمجرة الدبابات، وجلجلة الراجمة؛ بعد أن تقضي ليلةً تنفث فيها رماد حربٍ؛ تزغرد بنادقها فوق السواتر، وأتقاسم أنا ورفاقي الخوف والفزع.


كان الطريق طويلاً بما يكفي؛ لينام المسافرون على متن قطار يشق المسافة بين بغداد والبصرة، حاملاً جنوداً سيقوا إلى محافل الموت. لم تكتسِ أجسادهم بتلك البزات الرثة، ولا اعتمّت رؤوسهم بقبعات الخوف؛ إلا هرباً من خوفٍ أكبرَ، كان يطاردهم بتهمة الجبن والخيانة، والتخلف عن خدمة الوطن... التي تودي إلى الموت لا محالة.

ألقي بجسدي على مقعدٍ في المقطورة الرابعة، لقطار الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. صوت (علي) يمخر رأسي، وهو يقص عليّ قصص بطولاتنا مع الراجمة، يَعُدُّ لي كم قذيفة ناولني، وكم هدفاً أضعناه في لغط الخوف والمفاجأة. صوت آخر يتردد في أذني، إنها دعوات أمي، ورشقات الماء ما زالت ترطب ظهري وهي تودعنا؛ كلما حانت لحظة الرحيل إلى جحيم الحرب، صوب الحدود الملتهبة.

أنزل متباطئاً من المقطورة، تتسرب خطواتي إلى محطة أخرى، أحمل حقيبة تضم بعض الثياب؛ ترحل معي نظيفة، عبقة برائحة الحنان، ثم أعود بها مثقلةً بغبار العصف، ورائحة البارود النفاذة، حينما يوقـّع لي آمر الكتيبة إجازةً تحت الإنذار.

أصعد إحدى الناقلات العسكرية، التي تنتظر رعيل الجند القادم، لتقلّهم عبر العراء إلى الجبهة، يشتغل محرك الناقلة، تبدأ اهتزازات الطريق تقلّب أجسادنا، وتذيقنا طعم الغبار المتسرّب بين الشفاه، بعد أن يثور؛ إثر اختراق عجلات الناقلة العسكرية لكثبان الرمل على الطريق، حينها أنتقل إلى عالم آخر كأنني في رهان مع الحياة؛ على جسد قد يعود محمولاً على قدميه، أو جثة محمولة في تابوت.

كانت همة علي تعيد إليّ الأمل بالرجوع حياً، كلما حدثني عن حبيبته ووعده الذي قطعه لها، حين يعود مكللاً بنصرٍ مؤزّر، يحمل سلاحه فارغ الذخيرة إلا من آخر رصاصة، ليطلقها في بهجة العرس، ويُلبسها قرصه الذي حمله وتدلى من رقبته طوال أيام الحرب. إنه هويته؛ إن ضاعت ملامحه بين فوضى الأشلاء.

تودعنا الدعوات وتستقبلنا الطلقات، ترطب ظهورنا مياه ترشقها الأمهات على أمل الرجوع سالمين، لتستقبلنا رشقات الرمل والتراب على إثر قذيفة سقطت على مقربة منا، ريثما نصل الخندق، نلقي بأجسادنا إلى حفر الخنادق كأننا في سباق مع الموت، ما إن يهدأ القصف المدفعي، معلناً انتهاء شوط من المعركة، وخلو الساحة، حتى ينتفض عليّ من مكانه في الخندق، يجر بيدي صادحاً على الرفاق:

- هل ثمة ما نأكله، بطني خاوٍ، سيقتلني الجوع.

ينتفض المقاتلون، وقد اختلط بينهم الآمر والمأمور، فثمة من خلع نجومه ودفنها تحت التراب؛ خوفا من ساعة الهجوم المباغت. نجتمع في مكان واحد، تتعالى أصوات الضحك، يشتد العناق والترحيب بعد الإجازة، أتفقد البعض:

- أين محمد وخليل وأحمد ؟

يربت أحد الرفاق على كتفي، يصعقني بجواب قاتل:

- عمرك أطول من أعمارهم.

أجيبه بسخرية :

- هم السابقون ونحن اللاحقون.

يستقبلون جوابي بأفواه ضاحكة، وعيون باكية، وقلوب وجلة. تحل ساعة الغروب، تعكر السماء صفوها، تصفر الريح وتنذر بساعة الصفر، نرص بطوننا بمشاجب الرصاص، نتوسد الخوذ ونحتضن البنادق. عيوننا نائمة وقلوبنا تترقب، ينقلب الليل إلى حفل صاخب، الفوضى تعمّ المكان، تنهال علينا الأوامر. ننفر من أماكننا لنهم بالمواجهة والقتال. أقف أمام الراجمة أحشوها بقذيفة تلو قذيفة، تنطلق في عباب السماء، تتطاير الشظايا من حولِنا، لا نسمع أصوات المستغيثين من رفاقنا.

تنتهي عاصفة الليل، يحل الهدوء مع غسق الفجر، تشرق الشمس علينا بنهار جديد، نلم به أشلاء من تناثروا، نبحث بين كثبان الرمل التي تشربت دماء من فاضت أرواحهم إلى عليّ السماء، باحثين عن دليل نثبّت به قلوبنا، كي نصدق أن فلان قد مات، وهو من الشهداء.

ظلمة الليل الحالكة، صوت القنابل، فوضى الهجوم المباغت، كل ذلك أنساني (سندي علي)، كنت أظنه في غفوة، يستريح بعد ليل قضيناه في مواجهة الخوف والعدو. لم أدرك أن شظية بطول إصبع قد اخترقت صدره، واستقرت في قلبه، وتوقف دفقه بالحياة.

كانت عيناه تحدقان إلى السماء، ورأسه يشمخ عالياً، بدا وكأنه في غفوة الحياة لا الموت؛ مبتسماً. أتلمس يديه الباردتين، مروراً بكتفيه، أعرّي صدره لأسحب القرص الملتف على رقبته، لأتبيّن اسمه المنقوش على القرص (علي).

رفعنا جسده مع أجساد أخرَ وبعض الأشلاء التي ضاع وصفها، كلما حانت لي الفرصة، أتجه صوب تابوته، أتلمسه، تتردد في رأسي كلماته بعد كل إطلاقة قذيفة، صوته يدوي (الله أكبر).

مرت ثلاث ليالٍ، ومازلنا نثابر، كان سندي الجديد قد حل مكان علي. رافقني ألم فراقه وغياب صوته، حتى منتصف الليلة الثالثة بعد فراقه، حين اشتدت ساعة الصفر، وانهال علينا العدو. كنت أنادي على سندي بصوت غاضب:

- ناولني القذائف.

فيناول ويناول... التفت إلى سندي، الذي بدأ يناولني بهمة ؛ أسرع من قدرتي على الالتقاط. وجدت (علي) يقف بجنبي ببزته الرثة وشعره الأشعث، ووجهه الحزين الهائم. ما إن ظهر حتى تاه السند الجديد (بديل علي) في غيبوبة؛ من هول المفاجأة. حرت جواباً، لم أجد سوى الدموع تنهال على وجنتي بهدوء، يناقض ما حولي من صخب الحرب.

انتهت المواجهة، بعد آخر قذيفة تناولتها منه. هبت عاصفة دخان مع صوت طائرة يمخر الآذان، انبطحت على الأرض منكباً على وجهي، قمت بعد ان هدأ المكان، بحثت عن علي فلم أجده.

انفلق الفجر، ركضت وكلي أمل أن أجد علياً خارج الصندوق، لم أجد سوى جثة هامدة في مكانها، داخل الصندوق، بمظهره الذي جاءني به الليلة.

توجهت إلى آمر الكتيبة لأقص عليه الأمر، دخلت موضع الآمر، ولهاثي يسبقني، قلت متلعثماً بعد أن أذن لي :

- كان برفقتي ليلة أمس ناولني القذائف.

سألني باستغراب :

- من هو؟

- سندي علي يا سيدي.

عقد حاجبيه، احمرت وجنتاه غضباً، رحت أروي له أحداث ما بعد منتصف ليلة أمس مع علي. قبل أن أنهي كلامي قاطعني بنبرة آمرة:

- يكفي رفاقك ما يصيبهم من إحباط وخوف، نحن نعيش الآن ويلات الحرب، ولا أريد أن تصلهم ويلات الموت لنزيدهم خوفاً.

كان كلامه يقنعني بأن أحفظ أمر سندي، وتقف صورته أمام عيني، تذكرني كل ذات شباط؛ لأقف يومها أمام قبرٍ احتوى جسده، وأعيد ترتيب بعض الصور التي التقطناها في لحظات النصر، هو يقف على برج إحدى الدبابات رافعاً يديه عالياً، متوشحاً بابتسامة، يخفي وراءها سكرات الموت.

مددت يدي في جيبي، أخرجت قلم الرصاص، وثقت الصورة. كان قلمي يتلكأ عند تعبير أصف به شعوري آنذاك، إحدى الصور التي التقطها مصور الكتيبة، يظهر فيها علي يساندني على الراجمة، هي ما أثارت حفيظتي لأكتب عليها (لكن السند يبقى). ثم دونت التاريخ أسفل الكلمة، الثامن من شباط 1986. في هذا اليوم، وقف علي يساندني بالعزيمة بعد الموت.

حين انتهت الحرب، وشاعت الأخبار عن النصر، لم تكن فرحة النصر ما يرفع معنويات المقاتلين في الجبهة، بل كانت ثمة فرحة مواربة، تقف وراء فرحة النصر، هي الخلاص من جحيم الموت.

ملاحظة
هذا إخراج فني قامت به الكاتبة رقية أبو الكرم وهو مستند إلى وقائع تجربة واقعية سبق أن نشرت على موقع ما وراء الطبيعة وتحمل عنوان شبح سند الراجمة.

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .