15 أبريل 2012

صريع القمر

تأليف : منال عبد الحميد
كانت " باترك " يحب القمر .. هذا شيء معتاد ومألوف .. أما ما لم يكن مألوفاً أبداً أن يقضي المرء الساعات الطوال ليلاً محدقاً في السماء متتبعاً القمر وهو يتحرك عبر السماء وحتى يسقط ويختفي وسط دماء الليل الحمراء التي سفكتها شمس الصباح المبكرة !


ساعات طويلة كان " باتريك " يقضيها على هذا النحو الغريب منصرفاً عن حياته وبيته وأمه العجوز .. وحتى عن زوجته " بيث " وولديه الصغيرين !

 ........................

ولكن من أين بدأت قصتنا تلك .. أو بالأحر متى بدأت قصة " باتريك تولز " الغريبة مع القمر !

لعل البداية الحقيقية هى منذ مولده المفاجيء في حقل الذرة الذي كان يملكه جده في ليلة غمر فيها نور القمر الأرض وألبسها ثوباً فضياً أنيقاً من تصميمه وتفصيله ..

كانت والدة " باتريك " تتمشي وسط حقل الذرة مع زوجها وولديها الأكبر سناً عندما داهمتها آلام الوضع رغم أنها ما تزال في الشهر الثامن من الحمل .. وأسرع الزوج ؛ الذي عجز تماماً عن تحريكها ونقلها إلى البيت ؛ طالباً النجدة من طبيب ريفي عجوز كان يقيم على مقربة من مزرعتهم ..

ومرت لحظات رهيبة على الزوجة الملقاة وسط حقل الذرة حتى عاد الزوج برفقة الطبيب .. رغم أنه في الحقيقة لم تكن ثمة ضرورة لحضور الطبيب .. فقد كان الجنين قد شق طريقه إلى الخارج دون معاونة من أحد وخرج ملطخاً بالدماء ليغمره نور البدر ببهاءه وليفتح عينيه بعد لحظات من مولده محدقاً في القمر الذي كان يبتسم له من أعلي ويكاد يمد يداً فضية ويهدهده !

........................

- " كان طفلاً غريباً منذ مولده ! "

قالت السيدة " تولز " لدكتور " شتاين " وهى تشرح له تاريخ حالة " باتريك " المرضية العجيبة .. كانت تمسك في يدها قدح شاي يهتز بإستمرار مع إرتعاشة يدها المستمرة .. وكان دكتور " شتاين " طبيباً نفسياً معروفاً كما كان في نفس الوقت زميل عمل لشقيق " باتريك " الأكبر " سلوان " ..

أكملت السيدة " تولز " كلامها ببطء قائلة :

- " لقد فتح عينيه بمجرد مولده .. وهذا شيء نادر ! لا يوجد طفل يفتح عينيه بعد مرور ثلاثة دقائق على مغادرته الرحم .. ولكنه كان طفلاً غريباً منذ مولده ! "

أشار لها الطبيب وهمس بهدوء :

- " استمري من فضلك .. أريد أن أعرف كل شيء "

- " تريد أن تعرف كل شيء حسناً .. لقد كانت طفولته عادية .. لا شيء فيما عدا أنه كانت تصيبه نوبات غضب وبكاء بدون سبب في الليالي التي يختفي فيها القمر ! كان يصرخ بين ذراعي دون أن أعرف ماذا أصابه .. وكنت ألجأ لتجربة كل شيء .. إرضاعه وتحميمه وأدوية المغص والأعشاب الصينية الغريبة من أجل تهدئته ولكن دون فائدة ! "

" في سن الثالثة ذهب إلى مدرسة الحضانة .. فرحت لأنه سيقابل رفاق جدد هناك يخرجونه من حالة الإنطوائية والإنعزالية التي يغرق نفسه فيها منذ نعومة أظفاره .. ولكن خاب أملى يا سيدي ! فقد ذهبت إلي المدرسة بعد أسبوع من بدء الدراسة فيها لأطمئن على سير الأمور معه .. من ناحية الدراسة فقد أثنت المدرسة على ذكاء " باتريك " الغريب وسرعة حفظه العجيبة لكل ما يلقي عليه من أغنيات وأناشيد .. ولكن في المقابل صُدمت إذ أخبرتني المدرسة ؛ وهى تضحك ؛ أن ولدي الصغير يدعي أمام زملاءه أنه ابن القمر .. وأن القمر أبوه !! "

ضحك الطبيب وقال للسيدة " تولز " :
" ولكن هذه خيالات الطفولة يا سيدتي .. كل الأطفال في تلك السن يتخيلون أشياء غريبة ويؤمنون بصحتها إيماناً مطلقاً لأنهم لا يستطيعون التمييز بين الواقع والخيال .. أنا كنت أعتقد أن أبي أمير هندي وأن لديه فيلاً يخفيه في المخزن ! "

لم تضحك السيدة " تولز " لكلام الطبيب بل زاد عبوسها وأطبقت شفتيها لحظة .. ثم فجأة أنفجرت في سيل من الكلمات الغاضبة الملتاعة :

- " نعم يا سيدي .. أفهم .. أتحسبني قروية جاهلة ! أنا أعرف أن الأطفال يتخيلون أشياء كثيرة .. يتخيلون أنهم قراصنة وأن لديهم جزيرة مملؤة بالكنوز المنهوبة .. يتخيلون أن لديهم سنة خفية تحت ألسنتهم مصنوعة من الذهب .. يتخيلون أن الملائكة تأتي ليلاً لتعلب معهم .. لقد قرأت " توم سوير " عشرين مرة يا سيدي ! وأعرف كل خيالات الطفولة وألاعيبها القذرة ! ولكن ليس من الطبيعي أن تدور كل خيالات طفل وكل أوهامه حول القمر .. القمر أبي ؛ أنا ابن القمر ؛ القمر يأتي في المنام ليحكي لي قصته ؛ لن أخبرك بهذا الأمر يا ماما إنه سر بيني وبين القمر ؛ لا تضعي شمعة في غرفتي أنا لا أخاف من الظلام فأبي القمر يحميني منه !! هل هذه خيالات طفل عادية .. أم أنها بدايات جنون وخبال ؟! "

كانت السيدة " تولز " تلقي الكلمات الأخيرة وهى تهتز بحركات عصبية عنيفة تشي بسوء حالتها العصبية وأحب الطبيب أن يهدءها لئلا تصاب بإنهيار عصبي فقال لها وهو يربت على يدها العظمية المعروقة :

- " عموماً أنا سأتحدث إلى " باتريك " الآن .. وستكون كل الأمور على ما يرام .. ستكون كل الأمور على ما يرام .. أعدك بذلك "

..........................

بصعوبة سمح " باتريك " للطبيب دكتور "  شتاين " بأن يدخل إلى غرفته ..

كانت غرفة " باتريك " هى نفسها العلية القديمة التي قام بفرشها وتجهيزها وأزال سقفها ليتاح له متابعة القمر لحظة بلحظة والرقاد في الفراش والقمر يطل عليه من أعلي !

وعندما دلف دكتور " شتاين " إلى الغرفة أدرك حجم الورطة التي هو فيها .. إن " باتريك تولز " هذا مجنون ومعتوه في أشد حالات العته ما في شك في ذلك !!

كانت جدران الغرفة الخشبية مغطاة بصور صغيرة وكبيرة ومن كل الأحجام للقمر !

صور صغيرة للقمر أخذت من صحف أو مجلات وتم وضعها داخل إطارات مذهبة خاصة .. صور متوسطة وكبيرة تم الحصول عليها عن طريق التكبير .. وأخيراً صور عملاقة للقمر واضح أنها مرسومة باليد .. حتى نجوم هوليوود شاركوا في هذه المعمعة .. فكل صورة أو بوستر فيلم أو بوستر دعائي لنجم سينمائي يظهر القمر كخلفية له تم قصه وقطع رقبة النجم وأحياناً أطرافه ليظهر القمر من خلفه دونما شيء في مقدمة الصورة يعوق تقدمه !

حتى "مارلين مونرو " فاتنة الولايات والعالم بأسره قُطعت رقبتها الجميلة وتم تمزيق نصف وجهها لإخراج صورة القمر من وراء رأسها وبقيت عينها اليسري فقط تحدق بفزع في وجه الطبيب المذعور .. رغم أن خلفية القمر خلفها مرسومة وليست حقيقية !!
وهكذا أدرك دكتور " شتاين " عمق الورطة التي هو عالق فيها !

وحتى هذه اللحظة لم يكن " باتريك " قد ألقي نظرة واحدة على وجه زائره غير المرغوب فيه .. بل سمح له بالدخول ليتجنب الضجة التي أثارتها زوجته " بيث " على الباب وهى تطلب منه أن يسمح لصديق الأسرة السيد " شتاين " بالدخول قليلاً .. ثم عاد إلى الشيء الأهم الذي كان يفعله .. وهو مراقبة القمر بمنظار كبير ..

كانت حالة " باتريك " قد ساءت كثيراً في الثلاث أشهر الأخيرة منذ أصر على الإنتقال بمفرده للمبيت في العلية ؛ التي حولها إلى حجرة نوم ؛ حتى صار الآخرون في البيت يخشون الإقتراب منه أو التحدث معه !

ظل الطبيب يتأمل " باتريك " من الخلف وهو مشغول بتأمل ومراقبة القمر .. فبدا له شاب قوي مفتول الجسد بادي الصحة والعافية ؛ وإن إنتاب بشرته شحوب شديد ؛ لعله من أثر بقائه ليل نهار في غرفة مغلقة دون التعرض لأشعة الشمس ؛ لا ضعف ولا هزال ولا خور من الذي يعتبره البعض السبب في إصابة الناس بمركبات النقص ومركبات البوتاسيوم .. وكل هذا الهراء الذي يعزون إليه إصابة الناس بالإمراض النفسية !

ما الذي يدفع شاب بادي الصحة مفتول العضلات يمكنه إحراز الإعجاب في هذه الأماكن الريفية البسيطة لهجر حياته وعائلته وأرضه ليحدق طوال الليل في القمر ؟!!

......................

بعد أكثر من نصف ساعة خرج صوت غليظ غريب النبرات من حنجرة " باتريك " سائلاً الطبيب :

- " من أنت ؟! وماذا تريد ؟! "

فأجاب الطبيب وقد سره أن المريض قد أنتبه لوجوده أخيراً :

- " أنا صديق للعائلة .. وقد أحببت أن أراك وألقي نظرة علي غرفتك إذا لم يكن هذا يضايقك ! "

فرد " باتريك " وهو لا يزال يتطلع إلى القمر بتلسكوبه :

- " حقاً ؟! صديق للأسرة ! هذا جميل .. وطبعاً لا تزال تذكر أننا كنا نلعب معاً عندما كنا لا نزال نحبو .. وربما ذهبنا إلى مدرسة الحضانة معاً .. وبالتأكيد فإن والدتك كانت تشارك في صنع فطيرة التفاح والديك الرومي في عيد الشكر مع أمي .. ربما نكون قد أعتدنا على تناول الغذاء في منزلكم بعد العودة من الكنيسة ظهر الأحد .. يمكنك أن تقول كل هذا وأكثر يا سيدي ! ولكنني سأقول لك : شكراً يا سيدي ولكنني لا أذكر أى شيء من كل هذا ! لذلك فلما لا توفر الأمر على وعلى نفسك وتقول أنك طبيب نفسي أحضروه لمعالجتي !! "

صُدم دكتور " شتاين " من كلام " باتريك " وأدرك أن ورطته مع هذا المريض الغريب أكثر عمقاً مما تخيل بكثير !
في هذه اللحظة ترك " باتريك " التلسكوب من يده .. وضعه على رف قريب في الحائط ثم أستدار لمواجهة الطبيب ..

وروع " شتاين " وفزع .. إنه لم يري مثل هذا الشحوب من قبل ..
كان " باتريك تولز " شاحباً بدرجة أكثر من شحوب الموتي .. ورقة بيضاء تماماً صار وجهه .. ولكن الغريب أن شحوبه كان يلمع .. يلمع كأنه يشع نوراً !!

..............................

أخذ دكتور " شتاين " أكثر من عشر دقائق ليتغلب على الصدمة التي أصابته لرؤية وجه " باتريك تولز " الشاحب المخيف .. حدق في ملامحه الوسيمة التي طمسها الشحوب إلى حد ما كثيراً جداً ..

كان " شتاين " يريد أن يسبر أغوار " باتريك " ويتعرف على طبيعة حالته العقلية بالتأمل الهاديء في ملامح وجهه وهو الفن الذي تعلمه من أستاذه الإسكتلندي العظيم " تشارلز بريسكوت " علامة علم النفس والتحليل النفسي الذي لا يشق له غبار ..ولكن " شتاين " فشل هذه المرة .. والسبب إنه كلما مضي في تأمل ملامح " باتريك " أكثر كلما أحس بالذعر ينمو داخله أكثر !

وهو شيء لم يعرفه من قبل طيلة عمله في مجال الطب النفسي المرهق العصيب !
أخيراً أستجمع دكتور " شتاين " أعصابه ورسم ابتسامة متكلفة عن وجهه وسأل " باتريك " :

- " يبدو أنك تحب علم الفلك ؟! "

فأجابه " باتريك " بصوت منفعل غريب :
- " أكره الفلك ! لا أكره شيئاً في حياتي قدر ما أكره الفلك ! "

- " ولكن الفلك علم عظيم ! "

- " علم العميان  !! " أجاب " باتريك " غاضباً

- " العميان ؟! " سأل دكتور " شتاين " مندهشاً ثم أردف :

- " الفلك علم عظيم لا يقل أهمية عن علم الطب أو الكيمياء أو الجغرافيا أو البيولوجيا .. كلها علوم وسعت مدارك الإنسان ! "
" وأعمت قلبه ! "

هتف " باتريك " محتداً وواصل بصوت مليء بالسخط :

- " أنظر يا بني .. القمر عبارة عن حجارة صخرية وصحراء جرداء معتمة ، والبحر حوض واسع مليء بالماء المالح ، والإنسان مكون من مجموعة من الأجهزة والأعصاب والعضلات والخلايا .. والفأر أصبح فأر لأنه يفتقد خمسة عناصر لم تمكنه من أن يصبح قط !! "

ابتسم دكتور " شتاين " لتعليق " باتريك " الظريف الحاد وهتف قائلاً محولاً تلطيف الجو

-  " يبدو أنك كنت تكره مادة العلوم في المدرسة ؟! "

فأجابه " باتريك " بغل واضح :

- " أنا أول دفعتي في الكلية يا سيدي .. كلية علوم الفلك ! "
ذهل الطبيب لهذه الإجابة المفاجئة .. الأول على كلية علوم الفلك ؟!

إذن لابد أن العلم هو الذي قضي على قواه العقلية هذه المرة !

بدأ " باتريك " يتململ فأدرك دكتور " شتاين " أنه يتوجب عليه متابعة الحوار مع هذا المريض العجيب قبل أن ينصرف عنه ثانية ويغرق في متابعة ورصد حركات القمر ..

وكان أول سؤال خطر على بال دكتور " شتاين " هو :

- " لابد أنك عرفت الكثير من المعلومات عن القمر في كليتك ؟! ها ؟! "

في الحقيقة أن " شتاين " سأل هذا السؤال لسبب بسيط للغاية .. إنه لم يكن يصدق حتى هذه اللحظة أن هذا المخلوق الواقف أمامه هو أول دفعته في كلية علوم الفلك .. بالحقيقة لم يصدق أن هذا المعتوه قد ورد على جامعات أصلاً !

ولكن في اللحظة التالية أنفتح " باتريك " قائلاًَ في سيل من الكلام لمتتابع :

- " القمر يا سيدي ؟! نعم سأقول لك ما قالوه لنا عن القمر ... "

وفي ثلث الساعة اللاحقة استمع دكتور " شتاين " لسيل من المعلومات عن القمر أنهمر على رأسه كماء الدش دون أن يستطيع إيقافه .. معلومات علمية دقيقة جداً وصعبة جداً وعويصة جداً لدرجة تحتاج لعقل عبقري ليستوعب ربعها .. المصيبة أن دكتور " شتاين " وجد نفسه عاجزاً عن إيقاف " باتريك " اللعين هذا عن الإسترسال في سرد معلوماته العلمية المعقدة ..
ولكن في النهاية ألتقط " باتريك " أنفاسه وقال لدكتور " شتاين " في هدوء :

- " هذه هى فقط نصف المعلومات المتاحة عن القمر .. هذا لتتأكد فقط من أنني كنت طالباً في تلك الكلية القميئة .. ولتعرف أننى لست مخبولاً جداً كما يهيئ لك !! "

دهش " شتاين " لقول " باتريك " الآخير وأدرك أنه يجب أن يكون حريصاً جداً في مناقشته معه . إن شر أنواع المخبولين هو المخبول الفطن عالي الذكاء !!

وبعد لحظة صمت سأل دكتور " شتاين " " باتريك " بينما كان الأخير يلتقط أدوات صغيرة غريبة الشكل من فوق إحدي المناضد ؛ المتناثرة هنا وهناك ؛ ويبدأ في تركيبها معاً بخفة ومهارة عالية :

- " هل تؤمن بوجود الرب يا " باتريك " ؟! "

- " نعم "  ، أجاب " بتريك " بسرعة وإخلاص شديد

- " لم ؟! "

 - "  لأنه موجود بالفعل .. ولا جدوي من إنكار ذلك ! "

أجاب " باتريك " وهو يرسم علامة غريبة بيده في الهواء
- " أتعني أنك تربيت على فكرة وجود الإله فلم يسعك بعد إن كبرت إلا أن تقبلها ؟! "

تجاهل " باتريك " سؤال الدكتور الثاني وأتجه نحو الشرفة المفتوحة على مصراعيها وفرد ذراعيه على إتساعهما نحو القمر وهتف بصوت مسرحي :

- " القمر ! القمر قال لى إن هناك إله لهذا الكون وأنا أصدقه ! "

بدت علامات الإنزعاج على ملامح الدكتور شتاين وسأل " باتريك " بصوت حذر :

- " هل تعتقد أن القمر إله ؟!! "

- " لا لا ! " أجاب " باتريك " بسرعة وبلهجة قاطعة :

- " القمر ليس إله .. ولكنه روح سامية .. روح بيضاء نقية تطل علينا من أعلي وترعانا .. القمر يرعاني لأنه يحبني ولأنه يعرف أننى أحبه ! "

أنتهي النقاش عند هذا الحد لأن " باتريك تولز " أمتنع بعدها عن إجابة أى سؤال آخر من أسئلة دكتور " شتاين " وأتجه نحو الشرفة ووقف تلقاء القمر وأتخذ وضع العابد المتبتل حينما يناجي ربه أو العاشق الولهان عندما يناجي معشوقته وأخذ يردد بصوت يملؤه الشجن والإخلاص :

- " حينما أنفصل عن أمه الأرض كان وحيداً صغيراً تائهاً .. ظل خائفاً شريداً حتى جذبته أمه الأرض إلى حضنها وأمسكت بيده الصغيرة وأدخلته إلى مداره وقالت له : هنا مدارك وبيتك يا قمري العزيز الصغير فلا تغادره حتى لا يصطدم بك أحد تلك الكواكب الكبيرة الشريرة .. وأستمع القمر لنصيحة أمه الأرض وبقي في مداره يضيء ويشع نوراً وبهجة .. لكنه لم ينسي تلك للحظة العصيبة حينما أنفصل عن أمه .. كانت لحظة قاسية .. لحظة الضياع والشعور بالوحدة ( ثم وضع " باتريك " يده على قلبه وواصل ) لم يشعر أحد بمشاعرك في تلك اللحظة .. آلامك العزيزة ظلت تهيم في الفضاء .. لم يرها أحد ، لم يسمعها أحد ، لم يشعر بها أحد .. ولكنني رأيتها وسمعتها وشعرت بها .. شعرت بآلامك يا قمري العزيز .. لذلك عندما أموت ستدور روحي حولك .. سأبقي في مدارك وسأدور معك .. سندور معاً للأبد .. وهناك لن أجد صحراء ولا صخور ولا وجه صخري أجرد كما يقول أولئك العلماء الأشرار .. بل سأجد أرض من المرايا وأنوار بهية لا نهاية لها وخيول من النور تقود عربات من النور وتركبها مخلوقات من نور ... "

.........................

أوصي دكتور " شتاين " بدخول " باتريك تولز " مصحة نفسية لمدة خمسة عشر يوماً لوضعه تحت الملاحظة .. وكتب في تقريره أن المريض لا يعاني من مرض نفسي محدد بل لديه مجموعة من الأوهام والضلالات المتعلقة كلها بالقمر ..
وبالفعل دخل " باتريك " المصحة مرغماً ومكث هناك الخمسة عشر يوماً المقررة ثم خرج بعد أن بدأت حالته النفسية تتوازن وتستقر كما أكد دكتور " شتاين " .. وسُمح له بالعودة إلى بيته ..

على أن " باتريك تولز " وقد أعتدل في إهتمامه بالقمر وبدأ يبدي إهتمام أكبر بزوجته وطفليه كان مقدر له أن يحظي بإنتقام بشع من معبوده وحبيبه .. من القمر !!

...............................

حدث هذا بعد عودة " باتريك " إلى البيت بعشرة أيام .. كانت الليلة ليلة إكتمال القمر والبدر المكتمل يطل على الناس من أعلي متباهياً بجماله ونوره الوهاج .. وفي تلك الليلة أصابت أعراض غريبة " باتريك " جددت مخاوف والدته وزوجته من أنت تكون حالته المرضية المتعلقة بالقمر قد عادت إليه ثانية ..
فطوال ذلك اليوم لم يتناول " باتريك " لقمة واحدة من الطعام .. بل شرب أكواباً عديدة من القهوة والنسكافية السادة بدون لبن ؛ رغم إنه لم يكن يشربه عادة إلا ممزوجاً باللبن ؛ وظل طوال اليوم ساكتاً تماماً يأبي أن يحادث أحد أو يحادثه أحد ..
ثم ؛ وفي قرب الساعة السابعة مساء ؛ وعندما أشرق القمر بكامل نوره على الأرض أصيب " باتريك " بحالة حكة غريبة في كل أنحاء جسده .. أخذ يهرش ويهرش في كل أنحاء جسده بطريقة منفرة حتى لكأنه أصيب بالجرب .. ونصحته زوجته بالإستحمام ليتخلص من حالة الحكة هذه .. ولكن ورغم أن " باتريك " صدع بنصيحة " بث " وأستحم ثلاث مرات متوالية .. إلا أن حالة الحكة زادت و تفاقمت ساعة بعد ساعة !

وفي النهاية فوجيء كل أفراد الأسرة ب" باتريك " يغادر مجلسه وسطهم فجأة ويهرع بسرعة عجيبة ؛ وكأن الشيطان يطارده ؛ إلى غرفته القديمة .. العلية التي أزال سقفها ليتمكن من مراقبة القمر .. وهو بالضبط ما كان يخشاه الجميع !!

..........................

ما الذي حدث بالضبط ؟!
لا أحد يعرف .. لا أحد من عائلة " باتريك " يعرف .. ولا حتى " باتريك " نفسه يعرف !
فكل ما يذكره هو أنه أسرع نحو العلية المغلقة المتربة وأقتحمها بعد أن حطم القفل الذي وضعته والدته علي بابها ودخل ليجد طبقة خفيفة من الغبار تغلف صور القمر العزيز وتغلف كل شيء ..
ماذا حدث بعد ذلك ؟!

فتح " باتريك " الشرفة على مصراعيها ليجد القمر الحبيب يطل عليه من أعلي أبيض نقي شفاف كالبللور لامع كالألماس .. ولكن بياض القمر ونوره كان يشوبه شيء غريب .. بقع صغيرة .. بقع حمراء داكنة تبدو كأنها بقع طلاء .. أو بقع دم !!
وماذا حدث بعدها ؟!
لا شيء إلا أن " باتريك " قرر أن ينام الليلة في حضن القمر العزيز !
وهكذا أحضر وسادة وملاءة وجهز لنفسه فراشاً في الشرفة في مقابل القمر .. ثم أستلقي ووجهه في وجه القمر .. القمر الحبيب المخلص .. الغيور !!

.........................

- " حينما أنفصل عن أمه الأرض كان وحيداً صغيراً تائهاً .. ظل خائفاً شريداً حتى جذبته أمه الأرض إلى حضنها وأمسكت بيده الصغيرة وأدخلته إلى مداره وقالت له : هنا مدارك وبيتك يا قمري العزيز الصغير فلا تغادره حتى لا يصطدم بك أحد تلك الكواكب الكبيرة الشريرة .. وأستمع القمر لنصيحة أمه الأرض وبقي في مداره يضيء ويشع نوراً وبهجة .. لكنه لم ينسي حينما أنفصل عن أمه .. كانت لحظة قاسية .. لحظة الضياع والشعور بالوحدة لم يشعر أحد بمشاعرك في تلك اللحظة .. آلامك العزيزة ظلت تهيم في الفضاء .. لم يرها أحد ، لم يسمعها أحد ، لم يشعر بها أحد .. ولكنني رأيتها وسمعتها وشعرت بها .. شعرت بآلامك يا قمري العزيز .. لذلك عندما أموت ستدور روحي حولك .. سأبقي في مدارك وسأدور معك .. سندور معاً للأبد .. وهناك لن أجد صحراء ول صخور ولا وجه صخري أجرد كما يقول أولئك العلماء الأشرار .. بل سأجد أرض من المرايا وأنوار بهية لا نهاية لها وخيول من النور تقود عربات من النور وتركبها مخلوقات من نور ... "

أخذ " باتريك " يترنم في نومه بينما كان يري القمر الحبيب يهبط أسفل فأسفل حتى صار يراه أمامه بكامل نوره وبهائه وسلطانه .. وغضبه ؟!

نعم كان القمر غاضباً جداً من " باتريك " الذي هجره شهراً تقريباً تاركاً إياه يهيم في مداره وحيداً دون رفيق .. لذلك فلم يكد " باتريك " يقترب من وجه القمر حتى ابتسم له القمر إبتسامة غادرة وتلقاه بين ذراعيه .. ثم برزت من جنبه يد شفافة بيضاء تشع نوراً وأخذت تداعب وجه " باتريك " .. " باتريك " الذي أخذ يضحك ويزقزق تماماً كما كان يزقزق حينما وضعته أمه بغتة وسط حقل الذرة في ليلة قمرية كهذه .. وضعته في ليلة القمر وفي الشهر الثامن من الحمل ؛ وهو الشهر الذي يسيطر عليه القمر ؛ وتحت رعاية القمر !
ولكن فجأة بدأت يد القمر الناعمة تخدش وجه " باتريك " .. تخدش وجهه وجلده بوحشية وشراسة لا يملك لها دفعاً !
وتعالت صرخت " باتريك " في البيت .. وأيقظت كل النيام !

...........................

أمام منزل عائلة " تولز " كان سيارة إسعاف تولول سارينتها وتدور إشارتها الحمراء حول نفسها صارخة مولولة حتى كأنها أصيبت بالسعار .. أو كأنها تشارك عائلة " تولز " في مصيبتهم الفادحة !

الجيران من ناحيتهم لم يستطيعوا مشاهدة أى شيء يروي فضولهم .. اللهم إلا رؤية محفة خارجة من داخل المنزل وعليها يرقد جسد مغطي بملاءة عليها بقعة كبيرة مخيفة من الدم الأحمر الطازج ..

- " هذا  باتريك تولز ! "

قال أحد الجيران ذلك في ثقة .. ولكن هذه كانت آخر مرة يري فيها أحد من جيران آل " تولز " أبنهم الأصغر " باتريك " أو يسمع عنه بعد ذلك !!

........................
وهكذا مضي " باتريك تولز " ؛ بعد هروبه من المصحة التي تم إيداعه فيها عشرة أعوام متواصلة ؛ يجوب الولايات ويعمل في مختلف الحرف ليكسب رزقه القليل .. ورغم بشاعة وجهه والتشويه الفظيع في ملامحه إلا أن الناس كانوا يحبونه لبساطته وصدقه وأمانته .. والأهم مسحة الجنون والخبال التي كان يتميز بها وتميزه عن كل الآخرين

وفي نهاية اليوم كانت " باتريك " يأوي إلى أى مكان بسيط يتاح له ولا يجد فيه من يرفضه أو يشمئز منه بسبب عاهته وتشوهه الفظيع .. لم يكن مهم المكان الذي يبيت فيه .. المهم أن يكون مفتوحاً على السماء ليتمكن من رؤية معبوده القمر .. كان " باتريك " يستلقي على فراشه كل ليلة ووجهه في وجه القمر ليسأله لماذا غدر به .. ولماذا.. لماذا  فعل به هذا ؟!

إقرأ أيضاً
- ليلة إكتمال القمر 

- من أعمال منال عبد الحميد :

- الفجر الأزرق
- دم وملح
- الماعز الشيطاني

هناك 26 تعليقًا:

  1. أخيراً عدت للموقع أستاذة منال
    غيبة طويلة والله
    حمدلله على السلامة وشكرا على القصة الرائعة

    ردحذف
  2. قصة جميلة جدا
    شكرا لكي :)

    ردحذف
  3. شكرا على القصة الرائعة

    ردحذف
  4. منال عبد الحميد14 مايو 2012 في 2:26 ص

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أصدقائي الثلاثة الغير معرفين
    أشكركم جزيل الشكر وأحمد الله أن القصة قد نالت إعجابكم
    تحياتي
    منال عبد الحميد

    ردحذف
  5. بسراحه القصه مش شيقه جدا , موضوع القصه تافه و مصنوع له قصه كامله , عموما أنا لا أقصد أى أهانة

    ردحذف
  6. amazing story,,,I offer t0 you aLl ma greating

    ردحذف
  7. بسراحه القصه مش شيقه جدا , موضوع القصه تافه و مصنوع له قصه كامله , عموما أنا لا أقصد أى أهانة

    ردحذف
  8. بما اني اهتم وانوي دراسة علم الفلك ان شاء الله الا اني اجدها قصة جميلة فعلا ومشوقة اشكرك ع جهودك استاذة منال

    ردحذف
  9. القصصه جميلة وشيقة الى حد ما
    مع ان انا احب الفلك ولكن ليس لدرجةة تتبع القمر هكذا
    مشكورة ع جهوودك البالغةة

    ردحذف
  10. ابداااااااع بكل النعاني اختي العزيزة
    واصلي عملك الى الامام دوما
    ولا تهتمي لما يقولون عنك وتذكري لاترمى بالطوب الا الشجرة المثمرة

    ردحذف
  11. أحبك جدا ابدعتي معجبه فيك ياقمري

    ردحذف
  12. أحبك جدا ابدعتي معجبه فيك ياقمري

    ردحذف
  13. القصة رائعة جدا

    ردحذف
  14. قصة جميلة ومشوقة

    ردحذف
  15. منال عبد الحميد
    انت انسانة عظيمة بمعنى الكلمة
    انا احبك من قصصك ♥
    اتمنى ان تقرائي تعلقي:)

    ردحذف
  16. شكرا علي الابداع

    ردحذف
  17. القصه جميله اناايضا احب القمر احب السماء والنجوم قرات كل قصصك واضفت تعليقى شكرا اتمنى لكى الافضل دائما SA اتمنى ان ترى تعليقاتى وتردى عليها

    ردحذف
  18. منال عبد الحميد2 أكتوبر 2012 في 10:53 م

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الأخ العزيز الغير معرف
    أشكرك جزيل الشكر على تعليقاتك الطيبة وأعذرني إذا كنت لم أرد على تعليقاتك السابقة فورا ففي الحقيقة قلما أدخل الموقع في الأشهر الأخيرة لظروف خاصة
    تحياتي لك وألف شكر لك وهذا عنوان صفحتي على الفيس بوك حيث يمكنك التواصل معي دائما
    http://www.facebook.com/profile.php?id=100000440607897&ref=tn_tnmn

    ردحذف
  19. عفوا استاذه منال انا فتاه لا استطيع التواصل معكى لان ليس لدى صفحه او اى شئ خاص بى لان اخى لايوافق ولكن استطيع التواصل معكى هنا SA

    ردحذف
  20. ابداع جميل

    ردحذف
  21. منال عبد الحميد9 أكتوبر 2012 في 9:46 م

    بسم الله الرحمن الرحيم
    عزيزتي sa
    هل يمكنك التواصل معي عبر الإيميل ؟
    إذا كان ذلك بإمكانك فيمكنك مراسلتي على البريد الإليكتروني
    [email protected]
    تحياتي لك حبيبتي الغالية

    ردحذف
  22. كتبت التعليق عند قصة الرفيق وانتظرك هناك ****SA

    ردحذف
  23. القصة إنتهت وهي باقي ما إنتهت
    وين التكملة بعدين باتريك بنت ولا ولد

    القصة مرة مشوقة

    ردحذف
  24. قصة رائعة تاخدا الى العالم تاني الحقيقة اعشاق مثل هده القصص شكرا لك

    ردحذف
  25. حقيقة أنت مبدعة ما كنت أنوى التعليق صدقينى
    لكن روعة القصة أجبرتنى على قول الحقيقة
    وتهنئتك وتمنى مزيد من التوفيق لك .. ^_^

    ردحذف