1 أغسطس 2010

الأرض التي تحب الصمت

هل ذهبتم إليها من قبل ؟!

الأرض العجيبة الغريبة .. الأرض التي لا تسمع فيها صوتاً واحداً يتكلم .. الأرض التي تحب الصمت...

حسناً .. أنا ذهبت إليها وعرفت عنها كل شيء .. وسأحكي لكم كل شيء رأيته هناك ...

* لم يكن في هذه البلاد أي شيء غير عادي .. كل شيء هناك كان طبيعي وعادي .. الشوارع كاملة النظافة .. المنازل كلها بيضاء وصغيرة ولها نفس الشكل ..المدارس كأنها الجنة ، والأو لاد والبنات كلهم حلوين ومؤدبين وشطار ، الأسواق والمحلات مفتوحة 24 ساعة وكل شيء فيها بدون نقود ..ببلاش يعني ..الناس كلهم طيبين ؛محترمين ؛ صادقين ؛ أمناء ؛ متواضعين وموهو بين ..لا يخدعون ولا يغشون ولا يسرقون ولا يكذبون ولا ينمون ولا يحقدون ولا يستكبرون..

لا وجود هناك للصوص أو السجون أو القتلة أو المجرمين أو القيود أو السلاسل الحديدية .. حتى مراكز الشرطة لا وجود لها هناك....

أليس ذلك شيء عادي وطبيعي للغاية ؟!

شيء واحد .. شيء واحد لم يكن عادياً في هذه البلاد .. شيء بسيط ولكنه عجيب .. فسكان هذه البلاد لم يكونوا يتكلمون ..إطلاقاً .. لم يكونوا صُماً ولا بكماً .. ولكنهم – مع ذلك – لم يكونوا يتكلمون أبداً .. لأنه لم يعد أي داعٍ للكلام !

.......................

أخذ يوسف الصغير يتلفت حوله في تعجب واستغراب وهو يسير في الشارع .. لم يكن يوسف الصغير من أهل هذه البلاد العادية ، بل كان ينتمي لبلاد عجيبة حقاً .. بلاد كل شيء فيها غير عادي وغير طبيعي .. فالشوارع في بلاد يوسف قذرة ومليئة بالقمامة .. والمنازل فيها لا يشبه كل منها الآخر وكلها قبيحة .. المدارس تشبه علب السردين ، والأو لاد والبنات أغلبهم ليسوا حلوين ولا مؤدبين ولا شاطرين ..الأسواق والمحلات مفتوحة 24 ساعة ولكن كل شيء فيها له ثمن..وثمن غالي لا يقدر عليه الفقراء المساكين .. والناس كلهم ليسوا محترمين ولا صادقين ولا أمناء ولا متواضعين ولا موهو بين ..يخدعون ويغشون ويسرقون ويكذبون وينمون ويحقدون ويستكبرون....

كانت بلاد يوسف ممتلئة باللصوص والسجون والقتلة والمجرمين والقيود والسلاسل الحديدية .. وفي كل شارع هناك مركز للشرطة ..هذه كانت البلاد التي جاء منها يوسف الصغير !

ولكن لماذا جاء يوسف الصغير من بلاده العجيبة إلى هذه البلاد العادية؟!

ذلك كان سر .. سر دفين .. حرص يوسف على أن يخفيه عن كل الناس في بلاده العجيبة .. كل الناس الذين سألوه وكرروا سؤاله مرات كثيرة ..ولكن يوسف الصغير لم يخفي سره عن أهل هذه البلاد العادية بعد أن جاء إليها .. لسبب بسيط .. أن أحداً هناك لم يسأله عن سره ولا من أين جاء ولا ماذا يريد ولا حتى عن أسمه ..

وهذا هو السبب الذي جعل يوسف الصغير يتلفت حوله في تعجب وهو يسير في الشارع.. كان يوسف يمشي في شارع طويل كل ما فيه نظيف وجميل .. وعندما وصل

يوسف إلى منتصف الشارع شعر بالعطش الشديد .. وتلفت حوله فرأى محل عصير ومشروبات كبير..

ودخل يوسف المحل فوجد في داخله ماكينات مشروبات كثيرة وعلى كل منها بطاقة مكتوب عليها نوع المشروب الذي تحتويه .. وعدد كبير من الأكواب الزجاجية اللامعة النظيفة .. ولكن لم يكن هناك أي أحد في المحل على الإطلاق.. لا زبائن ولا حتى بائع..

وتحير يوسف وأخذ يبحث في المحل عن أي أحد يكلمه فلم يجد أحداً .. وأخيراً يئس من العثور على أي أحد يتحدث معه.. فأخذ كوباً وملأه من أحدى الماكينات بعصير الفرأو لة وشربه كله مرة واحدة .. ثم وضع الكوب على رف زجاجي وهم بالخروج..

ولكن يوسف فوجئ بصفارة عالية ترن في أنحاء المحل وبعدها أُغلقت الأبواب تماماً وأخذت الأنوار كلها تشتعل وتنطفئ مرات كثيرة....فخاف الولد المسكين وأخذ يتلفت حوله في حيرة وخوف وجرب الضغط على كل الأزرار الموجودة أمامه ليتمكن من فتح باب المحل والخروج .. ولكن الأبواب ظلت مغلقة والصفارة ما زالت ترن بصوتها المزعج .. وأخيراً أدرك

يوسف سبب كل هذا اللخبطة ..

وابتسم يوسف ثم أخذ الكوب الذي شرب فيه العصير وغسله في حوض الماء الموجود أمامه وجففه جيداً ..وفي نفس اللحظة صمت صوت الصفارة وانفتحت كل الأبواب.. فأبتسم يوسف ووضع الكوب في مكانه .. ثم خرج من المحل !

.......................

مر على يوسف في هذه البلاد العادية سنة ونصف .. التحق خلالها بمدرسة داخلية رائعة وتعلم الحساب العلوم والتاريخ والرسم والموسيقى .. وكان المنهج يحتوي بالإضافة إلى ذلك علم الخُلق واختيار الكتب وتنمية المواهب وتنسيق الزهو ر ورعاية الحيوانات الأليفة!

ولم يكن بالمدرسة مدرسين .. بل كان كل فصل كان مجهز بعدد كبير من الحواسب الألية وهناك جدول إليكتروني مضيء على الباب .. وعندما يدخل التلاميذ ؛الذين لا يزيد عددهم في الفصل عن خمسة ؛ تعمل الحواسب الإلية بمفردها ..ويبدأ كل حاسب في عرض وشرح الدروس المسجلة عليه – حسب الجدول – ويعيد الحاسب الدرس مرات كثيرة حتى يفهم جميع التلاميذ الدرس جيداً ..عندئذ يتوقف الحاسب الألي تلقائياً !

أما الطعام الذي كان يُقدم ليوسف وزملاءه في المدرسة فقد كان رائعاً كثير الأنواع .. وكانوا ينامون في غرف واسعة نظيفة جميلة مليئة بالزهور والورود ونباتات الظل ....

* ومضت عدة سنوات وأصبح يوسف الصغير تلميذاً في الصف الخامس ..وعرف الكثير عن العالم الذي يعيش فيه، وأكتسب الكثير من عادات وطباع أهل تلك البلاد العادية ....



ولكن شيء ..شئ واحد أتعب يوسف منذ أن جاء إلى تلك البلاد.. ومازال يتعبه وهو الكلام .. فقد ظل يوسف يحلم بالعثور على شخص واحد يتكلم معه..إنسان مثله يبادله الحوار ويتبادل معه الحديث .. فقد كان كل زملاء يوسف في المدرسة – مثل سائر أهل تلك البلاد – لا يتكلمون إطلاقاً .. وكانت هذه هي مشكلة يوسف الوحيدة في حياته....



وظل يوسف الصغير سنوات طويلة يبحث عن حل لتلك المشكلة العويصة .. ولما مضت به السنون دون أن يجد حلاً لها يئس يوسف تماماً وقرر أن يتقبل الوضع كما هو عليه.. ولكن فجأة هبط الحل عليه بمعجزة إلهية .. ووجد يوسف أخيراً من يتكلم معه ..إلا أنه كثيراً ما تمنى ؛ بعد ذلك ؛ لوأنه لم يكن قد وجده !

.......................

* هناك بعض الناس يشبهو ن المصائب .. يهبطون على رؤوس إخوانهم من البشر كالكابوس المخيف .. ويلصقون كدودة العلق ويحولون حياتهم إلى جحيم مخيف .. هؤلاء الناس لا حل لهم ولا خلاص منهم إلا بكل نفس ذائقة الموت ولا مهرب منهم إلا إلى أحد طريقين .. إما أن تترك لهم الدنيا بما فيها وتفر بجلدك منهم إلى أبعد مكان في الكون.. وإما أن تهرب منهم إليهم.. أي أن تتقي شرهم وتدفع مصائبهم بالتقرب منهم والارتماء في أحضانهم !

هكذا كان منذ البداية .. وهكذا يكون الآن.. وهكذا سيحدث في المستقبل !

...

لم يكن " كنعان زبير " هذا الذي هبط فجأة على تلك البلاد العادية سوى نصاب محترف.. يجوب البلاد رامياً بلاه على العباد .. ولم يكن له عمل في الحقيقة.. ولكنه كان يدعي قدرته على القيام بجميع الأعمال.. كان " كنعان زبير " يعتبر نفسه طبيباً ومهندساً وصيدلانياً وأديباً ورساماً وشاعراً ومطرباً وملحناً ومدرساً وعالم وكيميائي وخطيب ومؤلف.. وكل ما يخطر على بالكم أو لا يخطر.. ولم يكن له وطن معروف.. بل كان يحمل جنسيات كل دول العالم.. حتى أسمه لم يكن مؤكداً .. بل كان عنده عشرات وعشرات الأسماء.. وقد دخل " كنعان زبير" إلى هذه البلاد مستخدماً أحد جوازات سفره الكثيرة.. وظل يجوب كل مدنها بحثاً عن شخص واحد.. شخص واحد يكلمه.. فلم يجد !

ومضى على كنعان في هذه البلاد العادية ثلاثة عشر يوماً كاد خلالها يفقد عقله ويجن من الغيظ والقهر.. حتى أنه كان يُحدث نفسه ليلاً ونهاراً من شدة الغيظ.. فكيف بالله عليكم يستطيع نصاب محترف أن ينصب على مجموعة من التماثيل الخشبية التي لا تنطق ؟!

وظل كنعان مقيماً في البلد متمتعاً بالخيرات واللوازم الوفيرة التي يحصل عليها دون ثمن.. ولكن سعادته لم تكن كاملة.. لأنه تعطل عن العمل.. عمله المفضل وهو النصب على الناس وابتزازهم والضحك عليهم وإيقاعهم في شباكه .. ومع أنه لم يكن هناك سبب يجعله ينصب على الناس في بلد كل ما فيه بدون نقود.. إلا إن غريزة النصب عند شخص مثل كنعان أقوى من الأسباب والمبررات !

.........................

كان صديقنا يوسف الصغير سعيداً في حياته بالمدرسة ومستمتعاً بدراسته .. وقد تناسى موضوع الكلام مرغماً.. وفي الأحيان القليلة التي كان يحن فيها إلى الكلام.. كان ينفس عن نفسه في الحمام ! كيف ؟!

مجرد أن يذهب إلى الحمام ويغلق الباب على نفسه ويصيح ويزعق ويهذي بأي كلام يخطر على باله أو يغنى.. كان ذلك كفيلاً بأن يريح يوسف الصغير ويخرجه من كآبته ويجعله يعود سعيداً منطلقاً.. كما كان !

وكان للتلاميذ في مدرسة يوسف يوم حُر في كل أسبوع .. يخرجون فيه إلى الحدائق والملاهي أو يذهبوا إلى أحد المسارح المتنقلة ليشاهدوا تسجيلات للمسرحيات القديمة التي كانت تُمثل قبل أن يستغني كل سكان البلاد عن الكلام.. أي قبل سنة ...3م !

* وصل السيد " كنعان زبير " –النصاب – إلى المدينة التي يعيش فيها يوسف الصغير.. في ذات صباح كئيب بارد مثل وجهه ..وتوجه إلى أحد المقاهي وجلس إلى طأو لة بمفرده وأخذ ثلاثة عشر نوعاً من المشروبات – الساخنة والباردة – من ماكينات المشروبات.. ورصها أمامه على الطأو لة.. وأخذ يشربها وهو ينفخ في ضيق وملل.. وفجأة لمح كنعان شيئاً جذب انتباهه بشدة .. فقد رأى -من موضعه داخل المقهى- رجل عجوز أنيق يركن سيارته الإليكترونية أمام المقهى ويتركها ويذهب لمكان غير معلوم.. وأحس "كنعان " – وهو يتطلع إلى السيارة الصغيرة اللامعة أمامه - أنه مستعد أن يفقد حياته في مقابل أن يسرق هذه السيارة من صاحبها.. رغم أنه قد حصل على أربعة وعشرين سيارة مثلها منذ أن دخل هذه البلاد !

وفي لحظة أتخذ كنعان قراره وخرج من المقهى بسرعة.. وكانت السيارة الصغيرة لا تزال في مكانها .. فأخذ كنعان يتلفت حوله ؛ كما يفعل اللصوص ؛ ليتأكد من خلوالشارع من المارة، فلما تأكد من ذلك أقترب من السيارة الصغيرة وضغط الزر الأخضر الصغير في مؤخرتها .. فانفتحت أبواب السيارة الأربعة وهم

كنعان بركون السيارة .. ولكنه وجد صاحبها أمامه فجأة !

وأرتبك كنعان وشعر ؛ لأو ل مرة في حياته ؛ بالخجل.. ولكن صاحب السيارة لم يشعر بأي شك نحوكنعان* بل أبتسم له برقة وأشار له ليُفهمه أن هذه سيارته هو .. فقد حسب الرجل المسكين أن صاحبنا كنعان أخطأ وأعتقد أنها عربته.. وكان من المفروض أن يخجل كنعان من نفسه ويتظاهر بأنه أخطأ دون قصد..

ولكن الغريب أن دماثة خلق صاحب السيارة وابتسامته الرقيقة أثارت غيظ وغضب وجنون كنعان.. الذي فقد سيطرته على نفسه فطرح صاحب السيارة على الأرض .. وأخذ يلكمه في فمه وأنفه حتى تفجر الدم من فم الرجل وتحطم أنفه وأسنانه !

آخر مرة وقعت فيها حادثة سرقة في هذه البلاد قبل- تطبيق النظام الجديد - كانت منذ 12..سنة !

...........................

* مثل " كنعان زبير " أمام المجلس الأعلى للدولة والذي قرر دعوة المحكمة – التي لم تنعقد منذ ..5 سنة – لمحاكمة كنعان على فعلته العجيبة التي تصدرت أخبارها عنأو ين جميع الجرائد الإلكترونية التي تصدر في الدولة.. وهي تزيد عن ثلاثة ملايين جريدة ومجلة !

ومَثَل كنعان أمام المحكمة المكونة من رئيس الدولة ونائبه وسبعة وسبعون شخصية عامة.. وطلبت المحكمة منه أن يدون كل أقواله وكل ملابسات الحادثة ودفاعه عن نفسه في كراسة إلكترونية أُعطيت له.. وحمل الحاجب الألي الكراسة والقلم الفسفوري إلى داخل القفص الإلكتروني المحبوس كنعان في داخله .. ولكن كنعان بدلاً من أن يأخذ الكراسة والقلم من الألي ..تحرك بسرعة وطرح الألي المسكين على الأرض.. ثم غادر القفص في سرعة البرق وركض عبر قاعة المحكمة.. وخرج من الباب وفر .. قبل أن يستطيع أي شيء أن يوقفه !

.........................

في يوم الاثنين ؛ وهو اليوم الحُر المخصص للتلاميذ في مدرسة

يوسف ؛ غادرت مجموعة من التلاميذ المدرسة وذهبوا إلى أحد المسارح المتنقلة في وسط المدينة.. وكانت هذه المجموعة تضم طلاباً في أعمار متفأو تة وسنوات دراسية متفأو تة .. وسارت المجموعة في هدوء حتى عبروا بوابات المدرسة الثمانية.. ولكن بمجرد أن صاروا خارج أراضي المدرسة ؛ حتى انطلقوا يركضون بجنون ويضحكون في صخب بأصوات عالية ..ثم دخلوا المسرح المتنقل وأتخذ كل منهم مقعداً له ..

وبعد ثلاثة أرباع الدقيقة بدأ عرض المسرحية ، وأنهمك يوسف وأصدقائه في مشاهدة أحداث المسرحية .. وكان يوسف - دوناً عن زملائه ورفاقه – يشعر بلذة خاصة ومتعة لا مزيد عليها وهو يسمع أصوات الممثلين وهم يتكلمون .. ويتابع حركات شفاههم أثناء نطق الكلمات .. أما رفاقه فقد كانوا يتابعون أحداث المسرحية بدون تركيز كبير..وقد ظهر على ملامحهم الملل والزهق .. وقبل أن تنتهي أحداث المسرحية انسحب رفاق يوسف واحداً وراء الآخر وغادروا المسرح.. بينما بقي يوسف في المسرح بمفرده !..

وبعد انتهاء العرض استعد يوسف لمغادرة المسرح.. وحمل حقيبة النزهة ملكه .. وغادر مقعده واستدار نحو باب الخروج .. عندما لمح شخصاً غريباً مختبئاً خلف صفوف المقاعد ! ، فأحس يوسف بالدهشة والخوف وهم بأن يصرخ طالباً النجدة ..ولكن الشخص الغريب خرج بسرعة من مخبئه ونظر له نظرة مخيفة وهو يضع سبابته على شفتيه محذراً ! فازداد شعور يوسف بالخوف والرعب حتى أنساه خوفه كل ما تعود عليه في هذه البلاد لسنوات كثيرة.. فتكلم فجأة وسأل الغريب دون وعي :

- " من أنت .. من تكون أنت ؟! "

وعندئذ.. قفز الرجل الغريب من مكانه وأمسك يوسف من كتفيه بلهفة مجنونة وسأله وهو يهزه بقوة:

- " أنت تتكلم .. أنت تتكلم .. إليس كذلك ؟! "

ولكن يوسف الصغير عجز عن النطق بكلمة واحدة من شدة خوفه ودهشته .. ولما لم يرد جن جنون الرجل الغريب وأخذ يهزه ويهزه ويهزه بعنف وجنون .. وسالت الدموع من عيني الرجل الغريب .. دموع اليأس والجنون .. فتكلم يوسف الصغير الذي أحس بالشفقة على الرجل الغريب المسكين أخيراً وقال ببطء :

- " نعم .. أنا أتكلم ! .. وأنت هل تتكلم أيضاً ؟! "

ثم صمت يوسف قليلاً منتظراً إجابة الرجل الغريب .. فلما لم يجب الرجل بكلمة ..واصل يوسف كلامه وهو يتلفت حوله:

- " ولكن من أنت .. ما هو اسمك .. ولماذا تختبئ هنا ؟! "

فقال له الرجل :

- " لو أردت أن تعرف من أنا ولماذا أنا مختبئ هنا فتعالى معي .. أتأتي معي ؟! "

وبعد أقل من دقيقة كان يوسف الصغير يخرج من المسرح المتنقل برفقة الرجل الغريب .. الذي لم يكن إلا صاحبنا القديم ..

" كنعان زبير " !

....................

أثار غياب يوسف الصغير عن مدرسته قلق المدير المسئول عن المدرسة.. فأرسل تقريراً عاجلاً لإدارة التعليم العليا بمجلس الدولة ، وذكر في التقرير أن أحد تلاميذ المدرسة مدرسته قد غادر المدرسة برفقة بعض زملائه في اليوم الحر المخصص للطلاب ، وقد ذهبوا لبعض الأماكن المحددة والمعروفة .. ولكن التلميذ يوسف لم يعد إلى المدرسة مع زملائه الذين عادوا في الساعة السادسة من نفس اليوم .. وردت الإدارة العليا للتعليم طالبة من المدير المسئول عن المدرسة تزويدها بكل المعلومات اللازمة وبيانات وصور الطالب الغائب ....

ولما مر على غياب يوسف عن مدرسته خمسة أيام انقلبت الإدارة العليا للتعليم رأساً على عقب .. وتم إعلام رئيس الدولة بالأمر..وتفرغ جميع المسئولين في البلاد للبحث عن التلميذ الغائب ، وأيضاً لمطاردة المجرم الهارب " كنعان زبير " ! .. و لم يكن أحد يعرف أنهم إذا عثروا على الأو ل .. فسيعثرون حتماً على الثاني !

......................

لم يفكر يوسف الصغير كثيراً قبل أن يذهب مع كنعان .. بل إنه ؛ في الحقيقة ؛ لم يفكر إطلاقاً .. فقد أسعد يوسف أن يعثر بالصدفة على شخص مثله يتكلم ..وأعتبر أن هذا من حسن حظه .. لذلك فقد قبل العرض الذي عرضه عليه كنعان فوراً ..وذهب معه دون أن يدرك أنه هارب من العدالة ..ونصاب !

وذهب يوسف في البداية مع كنعان إلى فندق صغير في أطراف المدينة وظلا فيه لمدة يوم واحد.. ثم ذهبا إلى مدينة صغيرة ؛ بعيداً عن العاصمة وعن السلطة والشهود والمحكمة ؛ وحصلا على منزل جميل – دون مقابل طبعاً - في شارع هادئ صغير وعندئذ .. وبعد أن أحس" كنعان بأنه بعيد عن المطاردة وعن أيدي رجال السلطة وبأنه في أمان ..عاد كنعان إلى عادته القديمة !

......................

كان سكان هذه المدينة الصغيرة - التي أقام فيها يوسف الصغير و كنعان – ناس بسطاء للغاية .. يؤدون أعمالهم في هدوء ويعودون إلى بيوتهم ليرعوا أسرهم وأو لادهم .. وكانوا يعيشون في مستوى علمي وتكنولوجي مرتفع ، ولكنهم كانوا ما يزالون يحتفظون بشيء من البساطة والبدائية في الحياة .. وكان القليل منهم مازالوا يستخدمون الكلام – سراً – ويتكلمون في بيوتهم أو في الأماكن المغلقة بعيداً عن عيون الآخرين .. وفي هذه المدينة الهادئة البعيدة بدأ " كنعان زبير " يمارس ألاعيبه السيئة مرة أخرى ، ولكن بطريقة مختلفة !

فكنعان وقد وجد نفسه في مجتمع صغير سكانه يتمتعون بالطيبة ويحنون إلى الحياة الطبيعية وإلى تبادل الكلام.. شجعه هذا الأمر على تطوير أساليب وطرق النصب والغش والخداع التي ظل يمارسها طوال عمره .. وقد بدأ كنعان هذا التطوير بتغيير شكله وهيئته الشخصية ، فأدخل عدة تغييرات على أسلوب ارتدائه للملابس ومشيه وتعبيرات وجهه.. وأسلوب كلامه .. خصوصاً كلامه ! فقد أدرك ثعلب كبير مثل كنعان أن سكان هذه المدينة يتعاطون الكلام ويمارسونه سراً ..حتى ولو تظاهروا بعكس ذلك ! ومن هذه النقطة بالذات بدأ كنعان لعبه على أهل هذه المدينة المساكين !

وعلى الناحية الأخرى كان يوسف الصغير يراقب كل تصرفات وأفعال كنعان عن قرب.. ويري كل محاولاته لخداع أهل المدينة وإقناعهم بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان ..

فقد أستغل كنعان حنين أهل المدينة إلى الحياة الطبيعية ورغبتهم في العودة إلى استخدام الكلام .. وهو ما يخالف نظام الدولة العام وقوانينها غير المكتوبة، وبدأ في استمالتهم إليه وإقناعهم بقدراته الخارقة ..والمصيبة أن كنعان وجد من يصغي إليه ويصدق خرافاته وكلامه الفارغ ..فقد أجاد النصاب اللعبة وأحسن اختيار من يلقي عليهم شباكه من أهل المدينة.. ولذلك لم يمضي شهر واحد على وجود كنعان في هذه المدينة حتى كان أغلب سكانها قد صاروا في جيبه وخاتماً في إصبعه .. ومن أجل أن يكمل كنعان سيطرته على عقول سكان المدينة صار يعقد لهم اجتماعات سرية كل أسبوع يلقي فيها بعض الخطب الفارغة التي لا معنى لها ويعرض عليهم بعض الألعاب والحيل التي كان يمارسها عندما كان يجوب البلاد والمدن .. وكان الناس الذين يحضرون هذه الاجتماعات يتزايد عددهم يوماً بعد يوم..لأنهم كانوا يجدون فيها فرصة للكلام والثرثرة ومشاهدة أشياء غريبة عليهم .. فرصة ليحيوا الحياة الطبيعية التي حُرموا منها منذ أن تم تطبيق النظام الجديد في الدولة.. منذ أن تحولوا من يتكلمون ويضحكون ويحبون ويكرهو ن ويغضبون إلى آلات لا تنطق وتؤدي عملها في صمت دائم مؤلم !

ولكن ما دور يوسف الصغير في كل ذلك ؟!

هل كان يقف ويشاهد ما يحدث أمامه دون أن يتدخل أو يفعل شيئاً طيبا؟

لا ، طبعاً!

فقد كان القدر يدخر هذا الصبي الصغير لمهمة كبيرة ودور عظيم يعجز من هم أكبر منه سناً عن القيام به !

.........................

في يوم الخميس – الثامن عشر من الشهر – عقد السيد " كنعان زبير " – الذي صار ملك غير متوج على المدينة – اجتماعاً لأنصاره من سكان المدينة في قاعة مجلس المتابعة الثقافية بوسط المدينة .. وجلس كنعان على كرسي عالي فوق المنصة بين شاشات العرض العكسي .. وجلس معجبيه في صفوف طويلة بأسفل المنصة ..بينما جلس يوسف الصغير في صف بمفرده في آخر القاعة !

وفي تمام الساعة التاسعة أكتمل وصول أنصار كنعان ومعجبيه وامتلأت القاعة عن أخرها بهم !.. وبعد خمس دقائق بدأ كنعان يخطب في الجمع المحتشد حوله قائلاً :

- " مساء الخير يا أصدقائي .. أرجوأن تكونوا في تمام الصحة والسعادة اليوم ".. [ ثم ضحك كنعان باستظراف وواصل ]..

- " مساء جميل.. ألا توافقونني على هذا ؟!....وبالمناسبة فإن هناك شيء مهم أو د إخباركم به .. شيء عظيم حدث معي منذ سنوات طويلة وفي ذات مساء يشبه هذا المساء تماماً ...... "

وأخذ كنعان يحكي ويزيد ويعيد في روايات مملة وحكايات سخيفة ويتباهى بشجاعته الفائقة في مواقف لم يرها أو يشهدها أحد .. وظل كنعان يكرر ما يقوله حتى أُصاب الملل يوسف الصغير.. الذي ظل – طوال الثلاث ساعات التي قضاها كنعان في خطبته التي لا معنى لها – وهو يتطلع متعجباً إلى الناس البلهاء المساكين المنبهرين بما يقوله نصاب محتال دجال يدعي العلم بكل شئ.. وهو في الحقيقة لا يعلم أي شيء عن أي شئ ..وفي الساعة الواحدة صباحاً بدأ كنعان في عرض بعض ألعابه وحيله السحرية السخيفة.. وارتسم الإعجاب والانبهار على وجوه الحاضرين وهم يتابعون كنعان وهو يخرج الأرنب من القبعة ، ويحول الوردة إلى كوب زجاجي ، ويجعل من الشريط الطويل ثعبان .. ويُدخل البيضة في فمه ويخرجها من أذنه ..وغيرها وغيرها وغيرها .. وبعد ساعة أخرى عاد كنعان يواصل خطبته العظيمة .. فجلس بعظمة على المقعد المخصص له وقال في فخر رداً على تحيات الناس له :

- " شكراً .. شكراً لكم يا أصدقائي ..أرجوأن تكونوا مستمتعين بسهرتنا الليلة .. أعتقد أنكم لم تسهروا لهذا الوقت منذ قرون طويلة فالنظام الجديد يمنع المواطنين من السهر أو البقاء خارج بيوتهم لوقت متأخر من الليل .. إليس كذلك ؟! "

ثم رسم كنعان القرف والاشمئزاز على وجهه وأضاف :

- " نظام عقيم .. نظام قاسي لا إنساني ! .. لقد تحولتم بفضل هذا النظام البارد إلى آلات .. مجرد آلات تؤدي عملها في صمت كالتروس..كالمسامير.. "

وهنا بان الحزن والتأثر على وجوه الحاضرين وتبادلوا النظرات

- " لقد قضى هذا النظام الفاشل على أهم ما لديكم ..أهم ما تملكونه.. أرواحكم أيها الناس.. ماذا بقي من أرواحكم .."

همهم الحاضرين بعبارات ساخطة

- " ماذا بقي من أرواحكم يا أصدقائي ؟!.. لا شيء ! .. لقد ضاعت أرواحكم وضاعت معها إرادتكم الحرة ولحظاتكم الخاصة الجميلة .. أيها الناس .. يا أصدقائي الأعزاء .. حتى متى تصبرون على هذا الوضع .. حتى متى تظلون صامتين ومغلقين أفواهكم ومنطوين على جراحكم وآلامكم .. ثوروا .. ثوروا على أو ضاعكم السيئة ثوروا على الصمت وعلى السكون وعلى السماء الباردة الخالية من حرارة النجوم ! "

وهنا حدث انقلاب في القاعة وأخذ الناس يصرخون بأعلى أصواتهم ..يسبون ويلعنون النظام الجديد والقائمين عليه .. وكاد الناس يفقدون أعصابهم فيحطمون القاعة أو يحرقونها بما فيها.. وأخذ "كنعان " ؛ من ناحيته ؛ يزيد من ثورتهم وغضبهم ويصيح فيهم دون توقف :

- " ثوروا .. ثوروا .. كفاكم سكوتاً وموتاً! "

وكاد الأمر يتحول إلى كارثة لولا العامل الوحيد الذي أهمله كنعان .. العامل الوحيد الذي لم يحسب له

النصاب حساباً ولم يهتم به أو يفكر حتى في وجوده .. يوسف الصغير .. رفيقه اللدود الذي رافقه أسابيع طويلة ورأى وسمع وعرف عنه كل شيء.. عرف ورأي حيله الوضيعة ونصبه ودجله وادعاءاته وكذبه وخداعه وتلونه ..ولم يرضى عن شيء من هذا كله .. ندم يوسف على هروبه من المدرسة برفقة نصاب كذاب .. ندم على تسرعه وغضب من تصرفات وأفعال كنعان وقرر الانتقام منه في الوقت المناسب ! وهذا هو ؛ بالضبط ؛ الوقت المناسب!

فجأة وقف يوسف الصغير في آخر القاعة وصاح في الناس الثائرة الغاضبة وصرخ بأعلى صوته قائلاً:

- " لا تصدقوه .. لا تصدقوا هذا النصاب !"

فصمت الناس والتفتوا ناحية يوسف الذي واصل وهو يشير إلى كنعان بسبابته :

- " أيها الناس .. لا تصدقوا هذا الرجل .. إنه نصاب.. إنه مجرم وهارب من العدالة .. هذا الرجل يخدعكم ويغشكم ويخبركم بالأكاذيب .. إنه دجال محتال ولا وطن له ولا أرض تقبله .. إنه . "

كان صوت يوسف الصغير يرن في أرجاء القاعة مخبراً للناس بكل شئ.. كل شيء عرفه ورآه وسمعه من هذا النصاب .. بينما كان النصاب " كنعان زبير " في نفس اللحظة ؛ يعبر باب القاعة الخلفي جرياً محاولاً الهرب.. ولكنه وجد نفسه محاطاً برجال المحكمة !

وبعد لحظات خرج يوسف الصغير من القاعة ؛ تتبعه جماهير الناس ؛ وأتجه ناحية " كنعان زبير "..الذي أحاط به رجال المحكمة وكونوا حلقة من حوله..

ونظر كنعان ؛ الذي اصفر وجهه كالليمون ؛ إلى يوسف الصغير نظرة غريبة .. أما يوسف فقد مد يده لمصافحة أحد رجال المحكمة الذي ابتسم في وجه

يوسف طويلاً.. وفجأة تحدث إليه !

فوجئ يوسف حقاً عندما قال له رجل المحكمة ببساطة ودون إنذار :

- " شكراً لك أيها الصبي الشجاع .. فلولاك لما تمكنا من الوصول إلى هذا النصاب ! "

بعد لحظات تم وضع القيود في يدي " كنعان زبير " وركب ؛ برفقة رجال المحكمة ؛ في سيارة كبيرة ..وبقي يوسف الصغير مع أهل المدينة الذين أحاطوا به وأخذوا يحدثونه بلطف ويبتسمون له .. أما هو فلم يكن يشغله سوى تصرف رجل المحكمة غير المتوقع.. فبعد أن تكلم مع يوسف تركه ومشي قليلاً.. ولكنه استدار ونظر ليوسف نظرة غريبة .. ثم غمز له بعينه!

قصص أخرى للمؤلفة
- أوريديان
- رؤى القدر المحتم
- الغاسلة
- سأعود إليك في الربيع


إقرأ أيضاً ...

هناك 8 تعليقات:

  1. mafhamt walo

    ردحذف
  2. القصة اخدتنى لعالم تانى..انا كمان بحب السكوت والهدوء والسكون بس مو لهالدرجة


    ريم سوريا

    ردحذف
  3. ما فهمت ايش المقصود بهذا العالم !
    ومن هو يوسف ؟
    ومن هو كنعان زبير ؟
    وهل هذه القصة مُطبقه على عالمنا الواعي
    لكن مشفرة ؟

    ردحذف
  4. قصة ممتعة جدا

    ردحذف
  5. ما أجمل أن يعيش ألانسان بهدوء وسكينة وصمت

    ردحذف
  6. حتى هون بتشيرو لاعور الدجال

    ردحذف
  7. رواية جميلة استمتعت بقراءتها

    ردحذف
  8. القصه جميله اوى هوه ده العالم الى بتمنى اعيش فيه طوال حياتى ولكن مع القليل من الكلام والاعتماد على لغة العين ولكن اذا كان امتنعنا عن الكلام سبب وجود الخير والحب والامان والسعاده فبلاها الكلام بجدالخير قل اوى وكل حاجه كدب وخداع وظلم وغنى فوق وفقير مداس تحت الرجلين فى الحاله دى لازم نتكلم ونشكى لاما هنموت من الخنقه بس للاسف مفيش حد امين نشتكيلوه غير ربنا وفى الحاله دى هنشكى بقلوبنا ودموعنا مش بكلام SA****************************

    ردحذف