5 أبريل 2010

رؤى القدر المحتوم

موقع قصص ما وراء الطبيعة
Music player Here
صحوت فجراً مذعوراً على كابوس فظيع مزق ليلتي و جعلني أستيقظ لأتلفت حولي ثم أرقد لأصحو بعد ثانية صارخاً مرة أخرى ! ، لم يكن كابوساً مرعباً .. بل الأحرى أنه يمكنك أن تعتبره ليس كابوساً على الإطلاق .. فلم أرى في منامي سوى كشافات مضيئة ؛ ككشافات السيارات ؛ تدنو مني ثم تندفع نحوي بسرعة البرق .. الباقي لا أعرفه لأنني كنت أستيقظ فزعاً في كل مرة ! ، عند آذان الفجر كنت قد يئست من ليلتي تماماً .. و أيقنت أنه لا سبيل للاستغراق في النوم بقية الوقت القصير الذي يفصلني الآن عن ميعاد عملي .. أزحت الأغطية و تسللت من الفراش بهدوء محاولاً عدم إزعاج زوجتي المسكينة التي لم تنم إلا منذ ساعتين فقط .. فـ " أشرف " يهوى السهر حتى الساعات الأولى من الصباح ؛ " أشرف " وليدي الصغير و أول فرحة لي في العالم ؛ و بصفتها أمه يتحتم عليها أن تظل ساهرة بجواره و لا تستطيع أن تنم إلا بعد أن يتعطف سيادته و يأذن لها !

تسحبت على أطراف أناملي و المؤذن يرجع الآذان ترجيعاً جميلاً مردداً " الصلاة خير من النوم " .. و حقاً الصلاة خير من النوم خاصة إذا كان نوماً متقلباً مليئاً بالأحلام المزعجة و الكوابيس  ، اتجهت نحو الحمام و بدأت أتوضأ استعدادا لأداء صلاة الفجر .. فتحت الصنبور فتدفق الماء على راحتي يدي .. فجأة داهمني إحساس غريب للغاية .. شعرت كما لو كنت لن أرى هذا الصنبور مرة أخرى و لن أتوضأ من مائه ثانية أبداً .

فزعت لهذا الخاطر الغريب و تجمدت مكاني للحظة عاجزاً عن استكمال وضوئي رغم أن الماء يندفع من الصنبور بقوة فوق راحتي .. و بصعوبة تمالكت نفسي .. استعذت بالله من الشيطان الرجيم و أكملت الوضوء ببطء .. ثم توجهت إلى غرفة الجلوس و فردت سجادة الصلاة الصغيرة الخضراء و أديت صلاة لم أؤدها من قبل .. صلاة طويلة جميلة مفعمة بالأحاسيس التي ترفعك حتى تتعلق في خيوط السماوات فتتدلى لتتفرج على الأرض في سخرية و لامبالاة .. حسرة على من يضيع صلاة الفجر بعد ذلك ، صليت ثم ذهبت إلى الشرفة و فتحتها و وقفت فيها .. و استغرقني التأمل في ضوء الفجر الشاحب و التفكير في الخاطر الغريب الذي داهمني و أنا أتوضأ !

..........................

استيقظت زوجتي بعد شروق الشمس بقليل .. كانت عيناها منتفختين من أثر السهر الطويل و التعب .. و لكنها كانت كما أعرفها طوال عمري .. جميلة هادئة مبتسمة رزينة كأم ما زالت تستمتع بالأشهر الأولى من الأمومة ..

ألقيت على تحية الصباح بصوت مرح مستبشر ثم رأيتها تتوجه نحو المطبخ .. استوقفتها و سألتها عن وجهتها فقالت أنها ذاهبة إلى المطبخ لتعد لي طعام الإفطار .. و لكنني وجدت نفسي أسألها عن الصلاة .. صلاة الصبح هل صلتها أم لا !

لم تكن زوجتي تصلي .. أو على الأصح لم تكن ممن يواظبون على الصلاة .. تصلي يوماً و عشرة لا كما يقولون .. و لكنني لم أكن ألح عليها في هذا الأمر .. كنت أعتبره أمراً يخصها وحدها و لها أن تصلي إن شاءت أو لا تصلي إن أحبت .. و لكنني وجدت نفسي هذا الصباح أطلب منها بإلحاح غريب أن تصلي .. بل تعدى الإلحاح حتى وصل إلى حدود الغضب !

و لم تشأ زوجتي أن تغضبني .. فذهبت إلى الحمام و توضأت .. و تركتها تذهب إلى غرفة الجلوس لتؤدي الصلاة و لكن ليس قبل أن أجعلها تعدني أن تصلي دائماً و ألا تنقطع عن الصلاة ثانية أبداً !

..........................

تناولت إفطاري بسرعة و بدون شهية .. ثم دخلت لأرتدي ملابسي استعداداً للذهاب إلى عملي .. ارتديت البذلة و الحذاء ثم وقفت أمام المرآة لأعقد ربطة العنق و لأتم هندامي .. فجأة وجدت نفسي أتوق لحمام سريع .. صحيح أنني قد توضأت صباحاً و لكن هذا لا يكفي .. أريد أن أستحم ، أريد أن أغسل كل جسمي بالماء .. أريد أن أتطهر !

و بالفعل خرجت من غرفتي و انطلقت نحو الحمام بسرعة .. اندهشت زوجتي عندما سمعت صوت الدش من الخارج .. سألتني من وراء الباب المغلق :

- "هل ستستحم الآن يا أبو أشرف ؟! "

كانت تدعوني أبو أشرف حتى من قبل أن يولد " أشرف " .. و عندما أجبتها بنعم قالت لي :

- " ستتأخر على عملك "

فلم أرد عليها و يبدو أنها استسلمت فلم تعلق ثانية .. وقفت في الحمام أمام المرآة متحيراً .. لم أعرف كيف أستحم بالضبط Kبغتة تذكرت مشهداً حزيناً مر على منذ شهور قليلة .. مشهد تغسيل عمي العزيز الراحل الذي رباني .. كنت أقف عند رأسه و هم يقومون بغسله و تكفينه .. و بدون إرادة وجدتني أقوم بنفس الخطوات مع نفسي .. عصرت بطني برفق و أخذت في صب الماء بكثرة .. ثم تنجيت ثم توضأت جيداً ، و نظفت فمي و أنفي .. ثم غسلت شقي الأيمن ثم الأيسر ثلاث مرات لكل واحد .. و تذكرت الكافور و كنت متأكد أنه ليس لدينا منه في البيت شيء .. فاستعضت عنه بمقدار وافر من المسك سكبته على جسدي بعد أن جففته .. و ارتديت ملابسي و قد شعرت أخيراً بالراحة و أحسست أنه بإمكاني الآن فقط الخروج إلى عملي !!

............................

خرجت من بيتي بعد أن قبلت طفلي مراراً و ضممته إلى أكثر من عشر دقائق متواصلة و سلمت على زوجتي بحرارة غريبة .. ضحكت في وجهها لأخفي عنها الحقيقية التي كنت أشعر بها تدب في عروقي و تزحف في دمائي كزحف الحية .. لن أراها مرة ثانية لا هي و لا أشرف !

لماذا لا أبقى في بيتي إذن و لا أخرج اليوم .. يا أخي و هل سأهرب من قضاء الله إذن ؟!

........................

توجهت إلى موقف السيارات بحثاً عن سيارة تقلني إلى عملي في سوهاج .. تمنيت إن أجد سيارة شبه ممتلئة لئلا أضطر لانتظارها نصف ساعة أخرى حتى تمتلئ .. بالفعل أكرمني الله بسيارة من سيارات سوهاج لم تكن تحتاج إلا إلى راكب واحد فقط لتنطلق .. و كنت أنا هذا الراكب !

.......................

انطلقت السيارة مغادرة الموقف .. أنقبض قلبي عندما تخطت السيارة محل البطاريات و السوبر ماركت الموجودين في مقدمة الموقف .. وجدت نفسي لا إرادياً أستدير في مقعدي و أتبعهما ببصري و هما يصغران و يصغران كلما تباعدت السيارة عنهما حتى صارا مجرد نقطة باهتة في الأفق .. ثم اختفيا مخلفين في نفسي إحساساً كئيباً ثقيلاً .. المحلات و الدكاكين و البيوت و المساجد الصغيرة على الطريق و الكنائس.. حتى الأشجار و الحقول المزروعة و شرائط السكة الحديد و زوجتي .. و أشرف .. كلها كانت تغيب عن نظري و تنأى و تتباعد كلما أوغلت السيارة في طريقها !
...........................

أفقت على صوت يردد في فزع :

- " يا ساتر يا رب .. يا ساتر يا رب ! "

فزعت و اعتدلت لأجد السائق يحاول جاهداً السيطرة على السيارة و الانحراف بها نحو اليسار ليبتعد عن طريق سيارة نقل ضخمة محملة بالثلاجات كانت تتجه نحونا مباشرة .. بدا السائق عاجزاً عن إدارة المقود و ركبنا الفزع و ارتعشت أطرافنا .. و لكن رجل عجوز كان يجلس بجانب السائق مباشرة مد يديه و ساعد السائق بقوة لا تعرف من أين أتى بها في مثل سنه .. و بالفعل نجحا في إدارة السيارة و انحرفا بها عن طريق السيارة الضخمة قبل أن تدهمنا بأقل من ثانية !

أبتلع الناس ريقهم و نظروا لبعضهم طويلاً .. ثم فجأة انطلقوا يضحكون !

......................

وصلنا مدينة سوهاج سالمين و غادرنا السيارة و تفرق كل منا إلى وجهته ، أما أنا فتوجهت إلى سيارة تاكسي متوقفة بالقرب مني وطلبت من السائق أن يوصلني إلى مركز التأمين الصحي الذي يقع على مقربة من مدرسة أسماء بنت أبي بكر ، و لكن السائق لم يعرفه ، فتركته و ذهبت لسيارة تاكسي أخرى بدا على سائقها أنه محنك بما يكفي ليعرف الشوارع الخلفية المؤدية لبيت ( هامان ) ! ، و بالفعل قبل السائق توصيلي و ركبت معه ، وبمجرد أن ركبت بجواره و تحركت بنا السيارة حتى أنطلق يرغي و يحكي لي قصة حياته منذ يوم أن تعرف جده على جدته !

و صرفه الحكي عن الاهتمام بالطريق و ظل يلتفت كل دقيقة لي ليرى وقع حكاياته العجيبة على محياي وألتفت لي مرة أولى و ثانية وثالثة كانت الأخيرة .. لأن سيارة ضخمة جاءت مسرعة نحونا و دهمتنا في ثانية ثم دفعت سيارتنا لأعلى فانطلقت كالصاروخ في الهواء و وثبت في الهواء أكثر من عشرة أمتار .. ثم هوت بسرعة مخيفة لترتطم بالأرض محدثة صوتاً مدوياً .. و تحطمت تماماً !

.......................

لا أذكر سوى الأنوار الخاطفة تنقض علي كالصاعقة .. أضواء عابثة تتلاعب بي و ترفعني لأعلى ثم ترميني لأسفل لأرتطم بالأرض و أتفتت .. أنا حي .. ما زلت حياً .. ما أزال على قيد الحياة !

لابد أنها أضواء المستشفى .. نعم هناك مستشفيات كثيرة في سوهاج لابد أنهم حملوني أنا و السائق بعد الحادث إلى المستشفى .. أجل أجل هذا هو ما حدث بالفعل .. و لابد أن أفتح عيني ليعرف الأطباء أنني ما زلت حياً .. خوفي الأكبر أن يظنوني ميتاً و يحملوني إلى المشرحة .. من يدري ربما شرحوني حياً .. يجب أن يعرفوا أنني ما أزال على قيد الحياة .. يجب أن أخبرهم بذلك .. و زوجتي و " أشرف " سأعود إليهم .. يا رب دعني أعود إليهم !

فتحت عيني بصعوبة لأجد نفسي مغموراً بالأضواء الساطعة النازلة من أعلى .. حولي أطباء و ممرضات و مناضد مليئة بالأدوات الجراحية .. غرفة عمليات ؟!

نعم أنا حي .. حي يا عمي .. حي يا حبيبتي .. حي يا أشرف !

....................

أقترب مني طبيب وسيم صغير السن وهمس في أذني برقة :

- " لا تخف .. أصابتك ليست خطيرة .. ستنجو بإذن الله .. فقط أسترخي ! "

ابتسمت له و مددت له يدي .. قبض عليها الطبيب و وضعها بجواري برفق .. إنه مخطئ .. ليس له أبتسم و لا له أمد يدي .. بل للمخلوق النوراني الجميل الذي تراءي لي من وراءه !


تأليف : منال عبد الحميد

المراجعة والإخراج الفني : كمال غزال

إقرأ أيضاً ...

هناك 4 تعليقات:

  1. القصه جميله منتظر كل جديد

    ردحذف
  2. ما هـو هذا المخلوق الـنـوراني ؟؟

    ردحذف
  3. قصتك مع انها قصيره ولكنها قمه في الروعه،،،، لقد جعلتي دمعتي تسيل.
    اتمنى لك مزيدا من التالق والازدهار

    ردحذف
  4. حزينة :(

    ردحذف