29 مارس 2010

في سابع أرض

دق جرس التليفون في البيت فأسرعت والدة مدحت بالرد عليه .. و كان على الطرف الآخر يوسف  صديق المدلل  مدحت  .. و كل أصدقاء مدحت  على شاكلته .. مدللين تفوح منهم روائح البارفان و العطور الغالية .. خائبين لا يجيدون شيء سوى السهر و الشرب و التفاخر بالأنساب .. و الشم أحياناً !

كانت الليلة موعد لقاء الشلة المباركة الأسبوعي في شقة أكثرهم تناحة أمجد  ذو الأنفين و الرأسين و الصدغين البارزين !

ردت والدة  مدحت على الهاتف فأجابها يوسف طالباً منها أن يتحدث إلى  مدحت .. على أن يوسف  في الحقيقة لم يكن عليه أن يتجشم هذا العناء كله ليطلب من مدحت الحضور .. فقد كان  مدحت  في طريقه بالفعل إليهم !
اجتمعت الشلة الميمونة و بدأوا في ممارسة طقوسهم اليومية .. و إن زاد عليها الليلة حضور رجل غريب مدهش المنظر أقرب ما يكون لإنسان الغابة في مظهره و حجمه حاملاً إليهم قطعة حشيش بحجم اللوفة البلدي .. و أكد لهم أنها من نوع جديد سيعلق البلد كلها ما بين السماء و الأرض من شدة قوته .. و بالفعل انطلت عليهم الخدعة ، كما تنطلي عليهم كل مرة ، و دفعوا في التحفة النادرة كل ما يحملونه معهم من نقود .. و لكن الرجل الغريب لم يغادرهم بعدها بل أصر على أن يظل معهم و يشاركهم في تعلية المزاج !

و بقي الرفاق يشربون و يحششون لقرب الفجر دون أن يعكر صفوهم شيء .. و لكن قبل الفجر بنصف ساعة حدث شيء لم يكن في الحسبان !

كان مدحت منزوياً في ركن بمفرده يعب السجائر المحشوة بهذا السلاح الفتاك الجديد .. و دخل الرفاق معاً في وصلة رذالة و تناحة من التي يسميها الشباب دائماً ( خفة دم ) و أهملوا أمر " مدحت " تماماً .. و لكنهم عندما انتبهوا لتغيبه عن مشاركتهم في استظرافهم و التفتوا إليه .. كان  مدحت مكوماً في الركن فاقد الوعي أزرق الوجه !

أسرع الرفاق و تجمهروا حول مدحت الراقد بلا حول و لا قوة محاولين إفاقته و إسعافه .. و صرخ إنسان الغابة الذي كان يرافقهم بصوت غليظ كصوت الماشية :

- " الولد أفرط في الجرعة .. رشوا على وجهه ماء "

و رشوا على وجهه ماء .. و قال آخر أجلسوه في وضع معين فأجلسوه .. و شمموه بصلة فشمموه .. و لكن في النهاية حفر اليأس خطوطه الغائرة على وجوههم و انعقدت ألسنتهم خوفاً من أن تنطق بالحقيقة الرهيبة التي يخشون جميعاً النطق بها .. و لكن إنسان الغابة بالنيابة عنهم قالها دون أدنى تردد :

- " مدحت .. مات  ! "

................................

مرت لحظات رعب رهيبة على مجموعة الرفاق هؤلاء .. فهم الذين لا عمل إلا المتعة و التسلية و العبث بكل ما وسعتهم الطرق .. يجدون أنفسهم فجأة أمام جثة ؟!

بعد أن مرت لحظات الذعر الأولى و السباحة في عالم الأمنيات و الأحلام التي لم يعد اجترارها يفيد الآن هبط الأصدقاء إلى أرض الواقع ليجدوا أنفسهم في انتظار مصيبة ستقع على رؤوسهم فوراً !

فهم إذا ابلغوا عائلة  مدحت ستنفتح قضايا و تحقيقات و سين و جيم لن تنتهي إلا بعد أن يُصفدوا جميعاً في الأغلال بعدة تهم .. أهونها تعاطي المخدرات !

و إذا تركوا الجثة في مكانها و لاذوا بالفرار فستتعفن الجثة و تجلب على أمجد ؛ و عليهم من بعده ؛ مصائب لا حصر لها .. و إن ألقوا بالجثة في أي مكان فسيعثر عليها بالطبع فاعل خير بالصدفة .. ففعلة الخير يتواجدون دائماً في أماكن إلقاء الجثث !

إضافة إلى أنهم لن ينجوا من مطاردات و إلحاح أسرة مجدي لمعرفة ما حل بولدهم الوحيد المدلل .. و لا يمكنهم عندئذ الإنكار ، فالأم بنفسها هي التي أخبرت " يوسف " بأن ولدها في طريقه إليهم !

كيف السبيل للخروج من هذا المأزق !

غاص الأصدقاء كلهم في بحر التساؤلات و التنقيب عن حلول دون أن يخرجوا سوى بالخيبة و الخسران !

و هنا هبط الوحي على رفيقهم الغريب فقال لهم بصوته المزعج :

- " دعوا لي الأمر .. و لكم علي ألا يظهر لمدحت هذا أثر طوال العمر ! "

هنا سكت الباقين .. فصوت الحكمة و الخبرة الإجرامية يتكلم !

و قبل شروق شمس اليوم الجديد كان جسد مدحت  البارد الساكن يرقد تحت أكوام من الطين الأسود المتعفن و الأقذار في أرض خربة لا يعلم طريقها بعد الله إلا إنسان الغابة الذي يدعى " مرزوق " ..و الذي حصل على مقابل جهده المشكور عشرة آلاف جنيه في يده الغليظة !

.............................

لم تكن الدنيا بهذا السواد من قبل .. سواد في سواد .. ليل قطعه متجاورة كالقالب المتماسك .. ثم بدأ القالب

يتمزق قليلاً قليلاً و برز من ورائه ضوء أبيض لا متناهي كالعدم .. انفتحت رئة  مدحت  فجأة فتنفس بنهم محاولاً جر الهواء جراً إلى داخل صدره الظامئ الخاوي .. و لكن الهواء أندفع إلى داخل الصدر فخنقه بدلاً من أن يوسعه .. أندفع الهواء الثقيل المسمم إلى رئتي مدحت  محملاً بأطنان من التراب و حبيبات الطين .. سعل  مدحت  بعنف و كافحت رئتاه طويلاً لتستطيعا طرد ما تسرب إليهما من قذارة و لكن دون جدوى .. فالطين و التراب أستمرأ يتدفقان إلى صدر مدحت و مجاريه التنفسية .. و أنسد منخري  مدحت و أطبقت الأتربة على صدره ، فأخذ يسعل حتى أشتعلت رئته اليمني و كادت اليسري تنشق .. و تدفق الدم من أنف " مدحت " و بآخر ما لديه من يأس أخذ يضرب بقبضته الميتة على التربة السمجة التي تحيط به .. و ظل يضرب و يضرب حتى لم يعد قادراً على الضرب .. و بعد ثانية أغمض عينيه مستسلماً لأسوأ ميتة تخيلها في حياته !

.........................

في هذه المرة لم يكن هناك سواد .. بل كان هناك نور أبيض شفاف رائق سبح فيه  مدحت  و أحس للضوء بملمس ناعم على جلده و كأنه صابون رغوة البانيو .. و ضحك " مدحت " في خفة و هو يعلو فوق طبقات الضوء الرقيقة .. و يعلو و يعلو حتى أقترب من جسم لامع مضيء كالشمس يعلو هامته بقامتين و مد يده حتى كاد يلمسه .. و لكن الجسم المراوغ أبتعد عنه مقدار يسير فأسرع مدحت  يلاحقه و قد أستخفه الطرب كطفل يجري وراء كرته .. و أنطلق " مدحت " مطارداً الجسم النجمى

الجميل مصراً على اللحاق به .. و ظل الجسم يبتعد عنه

و مدحت  يطارده في إصرار و تشبث غريب حتى ساقه إلى قدمي العرش .. حيث يقبع الملك !

................................

الرعايا الجدد على اليمين !

و لما كان  مدحت  من الرعايا الجدد فقد تنحى ناحية اليمين .. بصحبة زملاءه من الرعايا الجدد و الذين لم يكن عددهم كبيراً جداً .. أما العجائز المخضرمين فقد وقفوا على اليسار ينظرون بقرف لهذه المخلوقات المقززة التي كُتب عليهم أن يقبلوها في مملكة ( هيلا ) السفلية العظيمة !

كان هذا هو موعد مرور  موليك  متفقداً أحوال رعاياه .. (الخارديون موليك)  السكيثي العملاق الذي كان أول بشري يُدفن حياً .. فحصل بذلك على حق السيادة على عالم المدفونين أحياء !

وصل (الخارديون)  فارتجت القاعة بصدح نغمات الاستقبال الفخيمة .. و أرتجف مدحت الذي كان يسمع هذه النغمات الرهيبة لأول مرة في حياته و أقشعر جلده رهبة .. فهذه أول لحظة ينبغي عليه فيها أن يواجه الحقيقة و يعترف بأنه مات !!

دلف (موليك)  إلى القاعة و حيا الصف الأيمن بإيماءة من رأسه العملاق بينما لم يهتم بإلقاء و لو نظرة عابرة على الصف الأيسر الذي كان يضم الموتى القدماء الذين مل موليك " رؤيتهم !

رفع الخارديون كفه فصمتت نغمات الاستقبال مرة واحدة .. و فتح فمه ليتكلم و تهيأ " مدحت " لسماع صوت هذا المخلوق الوحشي العجيب .. و لكن شفتي  موليك المفتوحتين لم ينبعث من بينهما أي صوت !

تدفق تيار من حبيبات الضوء من بين شفتي موليك  صانعاً قناتين طويلتين تجري فيهما الحبيبات اللامعة مكونة أشكالاً و خيالات غريبة .. و كان القدماء المخضرمون يتابعون تدفقات الأمواج الخارجة من فم الخارديون بكل دقة و ترتسم على وجوههم علامات الفهم العميق .. بينما كان رفاق مدحت  على اليمين واقفين يحدقون في هذه العجيبة غير فاهمين أي شيء !

.............................

الرفاق الجدد على اليمين !

تغير الإشارة دليل على تغير المكانة .. و هكذا أرتفع " مدحت " و زملاءه من مرتبة ( الرعايا ) إلى مرتبة ( الرفاق ) و هي ، لو علمتم ، مكانة لا يُستهان بها في مملكة ( هيلا ) !

بعد خمس و عشرون عاماً من أعوام الأرض أصبح مدحت  و دفعته من سكان ( هيلا ) الرسميين المقبولين في زمرة ( المدفونين أحياء ) .. و هم الوارد الجديد الذي أنضم لرعايا المملكة مؤخراً !

و كان هذا هو النظام المتبع في مملكة ( هيلا ) ..

أولاً يتم استقبال المدفونين أحياء الجدد استقبالا فاتراً و يتم إلحاقهم بزمرة ( الرعايا الغير مرغوب فيهم ) .. و هؤلاء يقضون في مكان دفنهم فترة لا تقل عن عشرة أعوام أرضية .. ثم ينقلون إلى المملكة ليصبحوا من ( الرعايا ) فقط بدون أي ألقاب أو مميزات .. و بعد مدة كافية يُصعدون لرتبة ( رفاق ) و هي تعني انضمامهم لمجموعة قدام الموتى المحترمة المبجلة .. و يعني أيضاً بدء الاستعانة بهم في مهمات خاصة بالمملكة .. و التي من أهمها الانتقام من اللاحقين !

........................

بعد أن غمر الظلام أطباق النور السبعة حول أرض ( هيلا ) أرسل الخارديون موليك  في استدعاء  مدحت و ثلاث من رفاقه للمثول بين يديه .. و عندما جاءوا طلب منهم أن يؤدوا مهمة صغيرة للمملكة و العرش .. و لم تكن المهمة الصغيرة لتستغرق سوى ثلاث ساعات من نهار .. لذا فقد وجد مدحت  نفسه بعدها عاطلاً بلا عمل ما لمدة سبعة أرباع عام .. و لكن بعد انقضاء هذه المدة وجد " مدحت " ما يشغله لقرون قادمة !

.......................

في القرن السابع عشر وقعت في النرويج حادثة بشعة .. فقد تعرض سكان منطقة ( فارد ) الفقراء لوشاية من أحد صائدي الساحرات الأشرار انتهت باتهام عشرات النساء الفقيرات بتهمة ممارسة السحر الشيطاني و عبادة الشيطان .. و عليه فقد حكم أسقف المنطقة بكل ورع على 88 شخصاً ؛ أغلبهم من النساء ؛ بالحرق أحياء .. و كان دليل الاتهام الدامغ و بينته هو أن احدى هؤلاء النساء التعيسات همست لصديقتها في الشارع بسؤال واحد لا غير : ما هو معنى سبت الساحرات ؟!

و سيقت النسوة إلى المحرقة أولاً و ألقين طغمة للنيران دون أي تردد .. و من سوء الحظ أن شقيقة واحدة منهن كانت حزينة للغاية على أختها البريئة البلهاء فأخذت تصرخ في ميدان المحرقة و تطالب بإطلاق سراح أختها .. و عندما حل الدور على أختها و رأتها و هي تساق للمحرقة أمام عينيها جن جنونها و لم تتمالك نفسها فسبت الأسقف و كرادلة البابا و البابا نفسه !

و كان العقاب الرادع لهذه المارقة .. الدفن حية !

و كانت هذه المارقة الجميلة الساحرة تدعى " لوبيلا " .. و هي نفسها رفيقة " مدحت " العزيزة المخلصة في عالم ما بعد القبر !

........................

قالت " لوبيلا " لمدحت و هما جالسين بجوار بعضهما :

- " تلك يا عزيزي قصتي ! "

فأجاب " مدحت " على قولها :

- " قصة مؤثرة للغاية .. فهل التقيت بشقيقتك بعد الموت ؟!"

فابتسمت " لوبيلا " ابتسامة ساخرة ثم أخذت تضحك بصوت عالي حتى استلقت على ظهرها .. و دهش مدحت  لضحكها المتواصل و تعجب لهذا الأمر .. و ظل محدقاً في وجه لوبيلا  حتى هدأت و انحسرت عنها نوبة الضحك ثم سألها عن سبب ضحكها الغريب فردت عليه و هي تكاد تعود للضحك :

- " أختي ؟! لقد نجت ! فبعد أن حملني الجند بعيداً إلى الأراضي المنعزلة حاولوا إحراقها و كلما حاولوا انطفأت النار من تلقاء نفسها .. فذهل رجال الكنيسة و خامرهم الشك في أن تكون أختي البلهاء قديسة ! قديسة بحق .. فأطلقوا سراحها و دفنوني أنا حية !! "

و ذهل  مدحت  لهذا الأمر و سأل لوبيلا  غير مصدق :

- " أو لم تسأل عنك أختك بعد أن أُطلق سراحها ؟! "

فأجابت " لوبيلا " بابتسامة حزينة :

- " تسأل عني ؟! لم تهتم أختي العزيزة المخلصة بالسؤال عني إطلاقاً بعد أن أفلتت من المحرقة .. بل لقد أسعدها كثيراً أن أتنحى عن طريقها لعل " جانوس " خطيبي الوسيم يتزوجها من بعد موتي .. و هذا هو ما حدث بالتمام !! "

ثم بعد فترة صمت سألها " مدحت " بقلق :

- " أما زلت تفكرين في الانتقام ؟! "

- " الانتقام ؟! و من لا يفكر في الانتقام ! على أنني قد تناسيت هذا الأمر الآن فقد كبرت و تقدمت في الأيام و صار لي زمن ميتة .. و هذا كاف وحده لاكتساب الحكمة ! "

و أراحت إجابتها قلب  مدحت  فأقترب منها و مسح على شعرها برقة .. ليشعرها بمدى حبه و اهتمامه بها !

.......................

بعد خمسة أرباع العام دوي صوت بوق مزعج في أنحاء ( هيلا ) و أفاق مدحت من غشيته الصباحية على صوت البوق الغريب الذي لم يسمعه منذ وصوله إلى مملكة الموتى العتيقة .. و خرج من حفرته سريعاً و شاهد تجمع من الموتى القدماء فأتجه إليهم و سألهم عما يحدث .. فأجابه أحدهم بصوت مرتعش :

- " نذير السوء ! شيء رهيب قد حدث بالتأكيد ! "

و اتجه  مدحت مثل غيره إلى قاعة عرش الخارديون .. و هناك فوجئ بتجمع هائل حول القاعة ، و فوجئ أيضاً بأن حراس  موليك  قد منعوا الجميع من دخول القاعة ما عداه هو !

سحب الحراس مدحت  سحباً على السحاب السفلي و جروه إلى داخل القاعة و ألقوه أمام قدمي العرش .. ثم غادروا القاعة مسرعين تاركين إياه وحده أمام الخارديون  موليك  !

أنفتح فم موليك  مصدراً سلسالاً من الحبيبات النارية المتوهجة سارت في قناتين متوازيتين .. و وقف مدحت  محدقاً بكل تركيز في الحبيبات المندفعة من فم الخارديون لعله يفهم ما يقوله .. و بالفعل فهم و ليته ما فهم .. كلمات الخارديون العجيبة كانت تقول بإيجاز بالغ :

- "اللعينة  لوبيلا  رفيقتك لقد سرقت الأثير .. أثير الكيوكوبا  العظيم .. سرقته و لاذت بالفرار و جنودي عاجزون عن إيجادها .. ألست صديقها الدائم ؟! ، أعثر عليها و أستعد الأثير منها .. إلا فالويل لكما ! "

خرج مدحت  من حضرة الخاريون و قد شعر أنه مات للمرة الثانية .. و الأدهى كان ينتظره بالخارج .. فقد همس له أحد الموتى القدماء متشفياً :

- " لقد أكتشف الخارديون أيضاً أنها ليست ميتة حقيقية ! خدعته و خدعتنا معه خمسمائة سنة من سنوات ( هيلا ) .. إنها ساحرة شيطانية قادرة .. و إذا لم تعد بالأثير فهناك ما هو أكثر من الموت بانتظارك ! "

..........................

حينما انشقت الأرض أخيراً بفعل المعول الضخم و انكشفت الحفرة كان جسد مدحت ليس بارداً جداً كما كان في السابق .. ذُهل " مرزوق " المتوحش و هو يرى الجثة الهامدة نصف مفتوحة العينيين و تحاول جاهدة التنفس .. أصابه رعب جعله ، و هو المجرم العتيد

يرتعش فزعاً و يكاد يبلل ثيابه من الذعر .. أما أصحاب  مدحت فكان حالهم أسوأ .. جروا " مدحت " من داخل الحفرة و أجروا له تنفساً صناعياً و غمروه وجهه و رأسه بالماء .. و مضى " أمجد " يبكي و يشهق و يتدفق الماء من أنفه و هو يردد مقسماً بأغلظ الأيمان :

- " ظنناك ميتاً .. و الله لم نكن نعرف أنك ما زلت على قيد الحياة .. ظنناك أفرطت في الجرعة و مت .. أنا لا ذنب لي .. هم الذين قرروا أن يدفنوك .. هذا الرجل ( و أشار إلى " مرزوق ) هو الذي قادني إلى هذه الخربة و دفنك بيديه .. "

و مضى كل منهم يبرئ نفسه من تهمة الدفن .. و لكنهم اتفقوا على اتهام " مرزوق " بأنه صاحب الفكرة و أنه هو من نفذها .. و هو أيضاً من أقنعهم بموته و ضرورة التخلص من المسئولية !

لم يهتم  مدحت  بشيء من كل هذا الكلام الفارغ .. بل بمجرد أن أفاق قليلاً و أسترد صوته سألهم بصوت هادئ :

- " كم بقيت مدفوناً في الحفرة ؟! "

فأنطلق يوسف  يؤكد و يحلف و يقسم بكل ما عزيز عليه أنه لم يبقى أكثر من عشر دقائق على الأكثر .. فقد دفنوه و هموا بمغادرة المكان .. و لكن  أمجد  لمح ذرات التراب تتطاير من الأرضية التي تعلو الحفرة و كأن هناك من يضرب الأرض من أسفل .. فأسرعوا و نبشوا الحفرة و وجدوه حياً فأخرجوه سريعاً .. ولم يستغرق الأمر سوى دقائق !

........................

أستغنى  مدحت تماماً عن صحبة أولئك الرفاق و تخلى عن صحبتهم التي لا تجلب إلا المصائب و المخازي .. و بقي ما بقى له من عمر يعتقد أن ما رآه في قبره المؤقت لم يكن هذيان أو تخيلات سببتها المخدرات و غيبوبة الموت .. بل إنه رأى رؤية من عالم آخر أنكشف لبصره في لحظة فريدة .. لحظة لا يجود الزمان بمثلها إلا مرة واحدة في العمر !!

تأليف : منال عبد الحميد

المراجعة والإخراج الفني : كمال غزال





إقرأ أيضاً ...
- الموت السريري وعودة الحياة
- قصص واقعية عن تجارب الموت الوشيك
- محاكمة وإعترافات ساحرات غيرنسي

هناك 3 تعليقات:

  1. قصة رائعه حقآ!

    ردحذف
  2. قصة رائعة جداً عزيزتي
    أذهلتيني بأسلوبك الشيق
    ما شاء الله مبدعة

    استمري (:


    ل.

    ردحذف
  3. جميييلة

    ردحذف