27 مارس 2010

السهاد

لم أعد أستطيع النوم .. فلم يعد لأي دواء منوم أو حتى مخدر أي تأثير علي !
منذ يوم أن رحل رضيعي تاركاً إياي وحيدة في عالم لا أحب فيه و لا يحبني فيه أحد و أنا لا أنام !

لم يكن الأمر فقد وليدي فقط .. بل حرماني من الأمل في الأمومة إلي الأبد .. فلم يتبقى لي إلا الجنون أو الموت !

..............................
تركني زوجي أبيت بمفردي و كان هذا منة عظيمة منه .. فما أحلى الساعات التي أقضيها بمفردي بعيداً عنه !
اخترت غرفة الأطفال التي كنت قد أعددتها لولدي لأبيت فيها .. حسرتي علي الأثاثات اللطيفة و المفروشات المبهجة التي انتقيتها له بعين قلبي ثم لم يُكتب له أن ينام فيها ليلة واحدة !

قضيت الليلة علي فراشه المزين بصور الشخصيات الكرتونية المحببة أحدق فيما أعددته لطفل لن يكون له وجود في حياتي أبداً .. غلبتني دموعي فأجهشت بالبكاء نحو نصف الساعة .. تركت دموعي تكوي أحزاني و تقفل جروحي المفتوحة .. البكاء هدأني ؛ و إن زاد حزني و لوعتي ؛ و سلب اليقظة من عيني .. فمضيت أحس بتثاقل جفني شيئاً فشيئاً حتى كدت أغيب في النوم !

..............................

استيقظت على صوت غريب خارج نافذتي .. في البداية اعتقدت أنه غصن شجرتنا العتيقة يضرب الزجاج .. تجاهلته و أغمضت عيني محاولة الاستغراق في النوم !

مرة أخري عاد الصوت فطار كل نوم من عيني .. انتفضت من على الفراش و أسرعت نحو النافذة و أغلقتها بالمزلاج بعنف .. عدت للفراش و تناولت ست حبات منومة دفعة واحدة بدون ماء و ألقيت نفسي في الفراش لأجبر نفسي على النوم و لو دوناً عنها !

بالفعل تسلل إلى هدوء غريب و أحسست باطمئنان لم أعرفه طوال عمري و أغمضت عيني ..

بعد ثانية شعرت بشيء لطيف يلمس وجهي فانتبهت .. في الظلام شاهدت ظلاً خافتاً بجوار فراشي .. ظلاً لا آخر و لا أول له بل أندمج في الظلام المحيط به فلم يعد من الممكن تمييزه عنه !

كان من المفروض أن أصرخ .. أركض .. أنادي زوجي .. أصيح طالبة النجدة .. و لكن شيء من ذلك لم يحدث !

لم أصرخ ؛ لم أركض ؛ لم أنادي زوجي ؛ لم أصيح .. بل لم يخطر لي أن أسمي باسم الرحمن الرحيم حتى !

فقط ظللت أحدق في الظل الذي أقترب من دائرة ضوء النافذة أكثر فوضحت معالمه و ملامحه العجيبة .. كان مخلوقاً عجيباً لا سبيل لوصفه و لا ضرورة لذلك لأنك لن تجد له شبيهاً في رؤاك البشرية .. أقترب هذا المخلوق مني أكثر و مد يداً قصيرة فيها زوجين من الأصابع النحيلة و ربت علي جانب وجهي و شعري بحنان .. ثم مد لي يده داعياً إياي للذهاب معه .. ترددت قليلاً .. ثم لم ألبث أن شعرت بقوة غامضة تنتزعني بلطف من فراشي و تعلقني بذراع هذا المخلوق الفريد .. و ذهبت معه دون خوف !

..............................

في الصباح لم أنتبه لصوت زوجي و هو يوقظني إلا بعد أن ظل يناديني ربع ساعة أو أكثر ؛ كما قال لي ؛ استيقظت شاعرة بأني كنت أحلق في سماء زرقاء شديدة الصفاء و أطفو في سحاب لامع يغمره ضوء هادئ يبعث الاطمئنان في النفس .. انتزعني صوت زوجي الجهوري المزعج من هذه الدنيا الرائعة التي كنت أمرح فيها فصحوت ساخطة عليه لانتزاعي من أحلامي البديعة .. و لكن سخطي عليه لم يمنع أحاسيس السعادة و الصفاء التي كنت أشعر بها .. و غادرت الفراش مسرعة وكان أول شيء فعلته هو أن ذهبت إلي زوجي مسرعة و عانقته بلا مقدمات !

..............................

بعد أشهر ثلاثة اكتشفت أنني حامل .. وقف الطبيب مذهولاً و هو يحدق في نتيجة التحليل غير مصدق ما يراه .. قال لي و هو يخلع و يلبس نظارته مراراً في حركات عصبية غاضبة :

- "مستحيل .. هذا مستحيل .. لابد أن طبيب التحاليل هذا مجرد حمار ! "

و لم يهدأ الطبيب إلا بعد أن وعدته بإجراء أشعة تليفزيونية فوراً .. لكن نتيجة الأشعة لم تريح الطبيب المسكين الذي كاد يفقد عقله .. لأنها جاءت معضدة لنتيجة التحليل !

..............................

بعد خمسة أشهر وضعت غلاماً لطيفاً أسعدني و أضاء الدنيا من حولي .. أصبح طفلي شغلي الشاغل و أهم شيء في حياتي .. بعد مولده مباشرة تم الطلاق بيني و بين زوجي بناءً علي رغبتي .. لا أستطيع أن أخدعه و لا أن أحمله مسئولية طفل أشك في كونه طفله !

استقلت من عملي و تفرغت لرعاية طفلي الذي يكبر بصورة عجيبة .. و من أجله كنت أظل طوال اليوم بجواره لألبي له كل احتياجاته .. من أجله تركت عالمي كله و عشت مع والدتي في بيت منعزل بعيداً عن وجوه الناس و تعليقاتهم و نظراتهم الغريبة لطفلي الذي لا يماثل أطفال باقي الناس .. و من أجله أظل ساهرة به طوال الليل بجوار النافذة لعل الطيف المراوغ يظهر ؛ كما يظهر أحياناً قليلة ؛ ليعبر كالبرق أمام النافذة ملقياً نظرة سريعة علي الطفل الراقد في حجري .. و الذي ينتظر هذا الطيف كل ليلة و لا ينام إلا عند رؤيته !

تأيف : منال عبد الحميد

المراجعة والإخراج الفني : كمال غزال




إقرأ أيضاً ...
- الملامح المشتركة لتجارب الإختطاف من قبل المخلوقات

هناك تعليقان (2):

  1. روعه روعه روعه
    اديبه موهوبه بجد
    وققص حضرتك كلها فى غايه الروعه

    ردحذف
  2. قصة تترك الكثير من الاسئلة

    مثلا

    كيف هو شكل الطفل؟؟؟وكيف تشك بأن زوجها ليس والد طفلها؟؟ هناك فحوصات خاصة من اجل ذلك
    وكيف تركها زوجها بسرعة؟ وتخلى عن ولده؟

    اعتقد هذه التساؤلات تركت لمخيلة القارئ

    ففي النهاية هي قصة قصيرة... جميلة جدا ورائعة

    اشكرك استاذة منال...قصصك دائما في القمة

    (مدمنة ماوراء الطبيعة)

    ردحذف