5 نوفمبر 2025

حين أزهر الحقل

لوحة عبرت بين عالمين - قصة قصيرة
تأليف : كمال غزال
كانت الغرفة تغفو على رائحة الزيت واللون، والنافذة نصف المشرعة تسمح لوميض المساء أن ينساب فوق وجهها كلمسة حلم راحل.

جلست إيلينا أمام لوحتها كمن يجلس أمام مصيره، تلتقط أنفاسها بين نوبات الألم، فيما عظامها المكسورة تذكرها في كل لحظة أن الجسد قد يُسجن، لكن الروح لا.

منذ الحادث الذي شطر حياتها إلى "قبل" و"بعد"، صار العالم ينساب في عينيها كمرآة مشقوقة، نصفها يرى الواقع، والنصف الآخر يرى ما لا يُرى. وفي تلك الليالي التي تئن فيها الريح من فرط السكون، جاءها هو.

لم يكن وجهاً كاملاً، بل طيفاً من نور وليل ممزوجين. لم تخف منه؛ بل خافت أن يختفي.

كان حضوره يسكّن الألم ويوقظ قلبها في آنٍ واحد. حين يمد يده نحوها في الحلم، كانت الجراح تتراجع، والعجز يذوب كما يذوب الثلج في يد الشمس.

كانت تمشي معه في حدائق غريبة لا وجود لها إلا هناك - أشجارها تشع كالنجوم، والبحيرات فيها لا تعكس سوى ظلال العاشقين. لم يتكلّم قط، لكنه حين يلمس يدها، كانت تسمع في قلبها كلاماً لم يُخلق بعد في لغة البشر.

وذات فجر، حين صحَت على دموعٍ لم تعرف سببها، جلست ترسمه. رسمت وجهه كما تراه روحها، لا كما تراه العين: خطوط من ضوءٍ رمادي، وعينان من نسيج الغياب. وما إن انتهت من اللوحة حتى أحسّت أن شيئاً منها انتقل إليها، كأنها بوابة بين الحلم واليقظة، بين الفقد والوصل.

مرت السنون، وظلّت إيلينا تعيش بين ألوانها كمن يسكن العالم الآخر دون أن يموت. وفي ليلةٍ مبللةٍ بالمطر، لاح ضوء غريب يتراقص حول لوحتها، كأنها تتنفس. شعرت بأنفاسٍ دافئة تلامس وجهها، وصوت يهمس من خلف الغياب:

" لن أعود بعد الليلة... لكن حين يحين وقتك، ستجدينني هناك، عند الحقل."

ارتجفت كطفلة تودع حلمها الأخير، حاولت أن تلمس اللوحة، لكن الضوء تلاشى كنسمة عبرت الزمن.

ثلاثون عاماً انقضت، ولم يبق من إيلينا سوى ابتسامة تلوح في ملامحها الذابلة. جلست على كرسيها المتحرك تحدق في لوحاتها، كأنها تفتش عن باب بين الألوان. وفي ليلة خانقة، حين بدأ الأطباء يتهامسون عن نبضها المتباطئ، امتلأت الغرفة فجأة بعطر من عالم آخر.

رأته... لم يكن ظلاً هذه المرة، بل وجهاً يتكون من ضوءٍ حي، يشبه ذاك الذي رسمته بدموعها قبل ثلاثين عاماً. اقترب منها ومد يده، وقال بصوت يشبه نغمة منسية: " تعالي يا إيلينا... لقد أزهر الحقل بانتظارك. "

ابتسمت كمن يتذكر وعداً قديماً، وأغمضت عينيها بطمأنينة من يعرف طريقه جيداً.

في صباح اليوم التالي، وُجدت اللوحة في مرسمها تضيء من تلقاء نفسها. 

بعض الجيران قالوا إنهم رأوا ظلين يسيران في الممر الطويل خارج البيت -  ظلان بلا عرج، بلا ألم، يسيران نحو ضوء أخضر يشبه الحلم.

ويقال إن الريشة التي سقطت من يدها تلك الليلة، بقيت واقفة على طرف اللوحة، كما لو أن يداً خفيةً ما زالت ترسم...

تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .