1 أكتوبر 2025

غياب الدراما السورية عن عالم ما وراء الطبيعة

المسلسلات السورية وماوراء الطبيعة
إعداد : كمال غزال
رغم أن سوريا تمتلك تراثاً شعبياً غنياً بالأساطير والحكايات الغامضة مثل قصص الجن في الأحياء القديمة بدمشق وحلب، وحكايات المقابر والأضرحة، وأجواء التصوف والكرامات ، إلا أن الإنتاج الدرامي السوري نادراً ما اقتحم مجال الماورائيات بشكل مباشر ويمكن تلخيص أسباب هذا الغياب في عدة محاور:





1- التركيز على التاريخ والدراما الاجتماعية

منذ ثمانينيات القرن الماضي، تميزت الدراما السورية بتركيزها على المسلسلات التاريخية والفانتازيا التاريخية والبيئة الشامية  (الزير سالم، باب الحارة، ملوك الطوائف، الجوارح، الكواسر، باب الحارة ) أو الاجتماعية الواقعية (بقعة ضوء ، مرايا).  

هذا التوجه أبعد المنتجين عن المغامرة في مجالات الرعب أو الفانتازيا الماورائية، بقيت خلف مخاوف -  ربما ليست واقعية - تتعلق بعدم تقبل الجمهور أو ضعف العائد التجاري ، لكن كانت تستحق التجربة.

2- أثر السلطة الديكتاتورية على الأعمال الماورائية

يمكن القول إن حكم آل الأسد وحزب البعث آنذاك لعب دوراً أساسياً وإن لم يكن مباشراً في تغييب موضوعات الماورائيات والأساطير الغيبية عن الدراما السورية، لعدة أسباب:

كانت كل الأعمال تمر عبر رقابة شديدة، لا تسمح إلا بما يتماشى مع "الخط الرسمي". الأعمال التي تحمل بعداً غيبياً أو أسطورياً قد تُقرأ كتعبير رمزي عن الحرية، الموت، الغياب، أو حتى كتشبيه بسلطة قاهرة، مما جعلها غير مرغوبة.

لذلك كان التوجه المفضل نحو "الواقعية الاجتماعية": النظام كان يفضل الأعمال التي تصور حياة الناس اليومية (الريف، المدينة، المشكلات الاقتصادية) لأنها آمنة سياسياً. أما الرعب والفانتازيا، فهي تفتح أسئلة عن المجهول والسلطة الغيبية، وهو أمر حساس في سياق حكم شمولي.

حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي حكم سوريا منذ الستينيات، تبنّى خطاباً تقدمياً اشتراكياً يعادي ما يسميه الرجعية، ويعتبر الغيبيات والأساطير الشعبية عائقاً أمام "النهضة".

كان الهدف تقديم صورة دولة عصرية تعتمد على العلم والتخطيط، لا على المعتقدات الشعبية. وهذا ما جعل كل ما له علاقة بالجن، الأشباح، الأرواح، أو السحر، يُنظر إليه بوصفه "خرافة".

السلطة البعثية -  خاصة في عهد الأسد الأب -  لم تكن مرتاحة لتجليات التدين الشعبي مثل زيارة المقامات، القصص عن الكرامات، أو الأساطير الغيبية. كان يُنظر إليها كامتداد "رجعي" يقف ضد "المشروع القومي" ولهذا جرى تهميشها درامياً وإعلامياً.

نصوص الدراما والمسرح والكتب كانت تمر عبر أجهزة الرقابة، التي لا تسمح إلا بما يعكس قيم التقدم والحداثة والأعمال التي تحمل نزعة روحانية أو رمزية غيبية، كانت مهددة بالمنع أو الحذف ، لذلك التركيز كان على الدراما الواقعية، التاريخ القومي، أو سرديات تمجيد السلطة.

3- محدودية الإمكانيات التقنية

أعمال الرعب والماورائيات تحتاج إلى مؤثرات بصرية وميزانيات مرتفعة ومع أن الدراما السورية أبدعت في الإخراج والديكور التاريخي، إلا أن ضعف الاستثمار في مجال المؤثرات السينمائية حد من قدرتها على إنتاج أعمال قادرة على تجسيد الجن والأشباح والظواهر الخارقة بمستوى مقنع.

4- حساسية الموضوع دينياً وثقافياً

الاقتراب من عالم ما وراء الطبيعة قد يثير حساسيات، خصوصاً عند الخوض في مواضيع الجن، السحر، والظواهر الروحية. لذلك ربما فضل كثير من المنتجين تجنب الدخول في هذا الحقل المليء بالجدل.


ورغم هذا التضييق، وجدت الماورائيات منافذاً تمثلت فيما يلي :

- بدلًا من تقديم أعمال رعب صريحة، لجأت بعض الأعمال السورية إلى التلميح الرمزي لعالم الغيب والروحانيات من خلال شخصيات المتصوفة أو الأساطير الشعبية داخل الحبكة (كما في بعض حلقات بقعة ضوء أو مشاهد عرضية في مسلسلات تاريخية). لكنها لم تتحول إلى أعمال ماورائية متكاملة.

- الأدب الرمزي (كما عند زكريا تامر أو حيدر حيدر) حيث يُقرأ الغيب كتعبير عن القهر.

- الفن التشكيلي، الذي كان أكثر تحرراً، فجسّد الرموز الروحية والأسطورية بشكل تجريدي، بعيداً عن أعين الرقابة المباشرة.

يمكن القول إن عدة عوامل اجتمعت حول غياب الإنتاج السوري عن مجال الماورائيات وما وراء الطبيعة،  ليس لندرة المادة، بل لغياب الجرأة الإنتاجية وللظروف التقنية والاقتصادية والرقابة السلطوية. 

ما وراء الطبيعة :  بين الدراما المصرية والسورية

بينما نجد في الدراما المصرية حضورا لافتا لعالم الرعب والماورائيات، سواء في الأفلام السينمائية (الإنس والجن، الفيل الأزرق، 122) أو في المسلسلات التلفزيونية (ما وراء الطبيعة، المداح، جمال الحريم، أبواب الخوف)، فإن الدراما السورية  تكاد تكون غائبة تماما عن هذا المجال.

في مصر، ساعد تنوع السوق، وحجم الإنتاج، وجرأة بعض المخرجين على اقتحام هذا النوع، بل وتصديره عالمياً كما حدث مع مسلسل ما وراء الطبيعة على نتفليكس.

في المقابل، انشغلت الدراما السورية لعقود بالمسلسلات التاريخية والبيئة الشامية والواقعية الاجتماعية ، والأكشن (البوليسية) في الآونة الأخيرة، بينما ظلت الماورائيات حبيسة الأدب الشعبي أو الفنون التشكيلية، دون أن تجد طريقها إلى الشاشة الصغيرة أو الكبيرة.

لكن هذا الغياب لا يعني استحالة الحضور، على العكس، التراث السوري زاخر بالأساطير والحكايات الشعبية الغامضة، من قصص الجن في أحياء دمشق القديمة، إلى الأساطير الصوفية في حلب وحمص، وهو ما يمنح صناع الدراما مادة غنية يمكن تحويلها إلى أعمال منافسة عالمياً.

ومع الانفتاح الرقمي الحالي، هناك أمل في أن نشهد يوما دراما سورية حقيقية في عالم الرعب والماورائيات، تستثمر الموروث الشعبي وتخاطب الجمهور المحلي والعالمي على السواء.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".


إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .