مفاجأة من العيار الثقيل .. شيء لم يخطر لها على بال .. أمل هائل لم تسمح لنفسها بالتعلق به حتى لا ينتهي الأمر بخيبة أمل مرة !
لكن ها قد تحقق الحلم و دنا الأمل .. و هل هناك أكثر من حصول فتاة أيرلندية قروية فقيرة تخيط الملابس على فرصة للزواج من ملياردير أمريكي ثري حتى الاختناق ؟!
لم تصدق آن نفسها و هنري أدوالد جونز ؛ الثري الأمريكي الوسيم ؛ يقف أمام باب منزلها حاملاً باقة زهور جميلة عليها بطاقة صغيرة مكتوب عليها بخطه الجميل المنمق " تزوجيني من فضلك " !
و بعد ثلاثة أيام بالضبط زُفت آن للثري الأمريكي المجنون الذي لا يعيبه شيء على الإطلاق .. فيما عدا أنه يكبرها بسبعة و ثلاثين عاماً .. و أضحت الآنسة (آن كروسبي) السيدة (آن جونز) .. و بعدها بثلاثة أيام سافرت معه في جولة حول العالم قبل أن تنتقل للإقامة معه في نيويورك !
و هكذا و في ظرف أسبوع واحد تغيرت حياة الفتاة الأيرلندية الفقيرة إلى حياة أخرى بالغة الثراء .. و الخطورة !
........................
من باريس إلى روما .. و من روما إلى فينيسيا .. و من فينسيا إلى لندن .. و من لندن إلى القاهرة .. و من القاهرة طيراناً إلى نيويورك و لاس فيغاس و هوليوود .. هكذا كانت حياة السيدة ( آن جونز ) طوال ستة أشهر برفقة زوجها المحب الرقيق الذي لم ترى منه طوال تلك الأشهر سوى الحنان و المحبة و الكرم البالغ في معاملتها ..
و هكذا عاد السيد جونز برفقة زوجته إلى نيويورك ليبدآ حياتهما المشتركة معاً .. و كانت دهشة آن هائلة و هي ترى القصر الفخم الذي ستعيش فيه مع زوجها .. لم يكن قصراً فقط بل كان أقرب لمجموعة قصور متشابكة لتكون مقراً ملكياً ضخماً لا يقل في روعته عن قصور ملوك أوروبا و ملكاتها .. كان القصر يحمل اسم ( أوريديان ) و يقع خارج مدينة نيويورك على ربوة مرتفعة تطل على الميناء العالمي الشهير ولا يحيط بها أي مباني أو منشآت من أي نوع .. فقد حرص السيد هنري جونز على شراء كل الأراضي بالمنطقة و إغلاقها و جعلها منطقة خاصة به و مقراً شخصياً ممنوع الاقتراب منه لأي شخص إلا بإذن خاص من السيد جونز شخصياً أو من مدير أعماله روسليني .. حتى الطيران كان محظوراً فوق القصر إلا بعد الحصول على الإذن اللازم من سيد المنطقة !!
و هكذا وجدت آن كروسبي ( سابقاً) نفسها قد تحولت من خياطة فقيرة معدمة تعيش على عائدات الحياكة اليسيرة إلى ملكة حقيقية تتحكم ؛ من خلال زوجها ؛ في منطقة كاملة في قلب أكبر وأقوى دولة في العالم .. أي حلم هذا ؟!
........................
بعد عودته بثلاثة أيام أستقبل السيد هنري جونز في قصره مجموعة من الزوار الغرباء .. كانوا ثلاثة من الرجال لم يسبق لزوجته رؤيتهم من قبل .. أولهم كان رجلاً مسناً مغضناً ونحيف الوجه قبيحه ؛ كأنه قرد عجوز ؛ و قامته منحنية غير مستقيمة و يبرز من بين شفتيه طاقم أسنان يزيد منظره كبراً وقبحاً.. والثاني كان شاب صغير وسيم يرتدي بذلة غالية الثمن و يبدو متأنقاً وجيهاً و لكن شيء ما في ملامحه يجعله غير مقبول و لا يعطي انطباعاً بالثقة و الاطمئنان .. أما ثالثهم فقد كان يبدو أشبه بكاهن أو قسيس كبير يرتدي ملابس كهنوتية سوداء بالغة الأناقة ، و لكن له وجه شديد القوة و الخطورة لدرجة أن (آن) لم تستطع أن تكرر النظر إليه بعد النظرة الأولى و وجدت نفسها تتلعثم و هي تصافحه بارتباك مهول .. ثم انسحبت فوراً إلى الأعلى بعد الترحيب بهم .. و صعدت السلم جرياً و هي تحس بنظراتهم الثاقبة تلاحقها .. و لكنها قبل أن تبتعد تماماً سمعت همساً متبادلاً بينهم.. فهناك صوت ميزت فيه صوت الكاهن يقول في تساؤل :
- " أهذه هي ! "
فأجابه صوت زوجها بثقة :
- " نعم إنها هي ! لقد اخترتها بعد بحث طويل ! "
سرت (آن) من هذه العبارة .. لأنها ؛ لسوء حظها ؛ لم تكن تفهم معناها الحقيقي بعد !
........................
في نفس هذه الليلة بدأت (آن) تدرك أن زوجها ليس فقط ثرياً وسيماً محباً رقيقاً .. و لكن هناك شيء آخر يحيط به غير الأتباع و الخدم و أطقم السكرتارية و مصففي الشعر و منسقي الملابس .. شيء غامض مريب .. و ربما مرعب كذلك !
كانت (آن ) جالسة في غرفتها تحدق في مجموعة صورها القديمة التي التقطت لها في أيرلندا عندما دخل زوجها فجأة واقتحم الباب بطريقة غير مألوفة تماماً و كأنها يريد أن يفاجئها و يضبطها متلبسة بعمل ما !
فزعت (آن) لدخوله المفاجئ وأسقطت الصور من يدها وشهقت شهقة عالية .. لكن السيد جونز لم يبدي أي اهتمام بكونه أفزع زوجته بل أقترب منها ببطء و انحنى ليلتقط الصور التي تناثرت على الأرض و جلس بجوار آن على الفراش وأخذ يتأمل الصور و يتطلع إليها قليلاً بشبه استهانة .. ثم فجأة أقدم على حركة لم تكن (آن ) تتوقعها منه أبداً .. فقد فوجئت به يمزق الصور الخاصة بها و يقطعها إرباً بجنون و عصبية .. ذُهلت آن لتصرفه هذا ونأت بنفسها عنه خوفاً .. و لكنه بعد أن انتهى من تمزيق الصور مزقها بقدمه في غل .. والتفت لـ " آن " ورسم ابتسامة معسولة مجنونة على وجهه ومد يديه وأحاط بهما وجهها المذعور و قال لها في هدوء غريب :
- " عزيزتي .. أنت الآن قد صرت زوجتي .. هل تفهمين .. أنت الآن مسز هنري أدوالد جونز .. و لم تعودي آن كروسبي .. فانسي أيرلندا و أيام أيرلندا من فضلك .. انسيها تماماً عزيزتي !! "
و بعد أن انتهي من الكلام أخذ مستر جونز زوجته بين ذراعيه محاولاً تهدئتها و إدخال الطمأنينة عليها .. و لكنها لم تهدأ و لم تطمئن .. لأن جونز بغبائه و تسرعه قد ألقى بأول حجر في المياه الراكدة قبل الأوان بكثير !
........................
في الصباح التالي استيقظت آن صباحاً بعد نوم قلق مضطرب .. لتجد فراش زوجها خالياً .. ظنت أنه ربما يكون قد استيقظ قبلها .. رغم أن ذلك لم يكن من عاداته ، فقد كان يغط في نومه حتى الظهيرة .. و لكنها عندما تفحصت الفراش وجدته منسقاً مرتباً مما يدل على أنه لم يُستخدم أصلاً ، و هذا معناه أن زوجها لم يقضي ليلته في حجرتهما .. فأين قضاها إذن ؟!
هبطت آن السلم لتجد أمامها كبيرة الخادمات بيرني الشقراء المثيرة تسألها هل تعد الإفطار .. لم تجب آن بل سألتها عن زوجها السيد جونز، فقالت بيرني أن السيد جونز غادر القصر منذ نصف ساعة .. و عندئذ همت (آن) تسألها عن المكان الذي قضى فيه ليلته و لكنها تراجعت خجلاً من إطلاع خادمة على هذه الأمور الحساسة ، و لعلها خشيت أن تعتقد الخادمة أن ثمة خلاف بين الزوجين ..
تناولت آن إفطارها و جلست في انتظار عودة زوجها .. و مضت فترة الصباح و الظهيرة و ما بعد الظهيرة و حل وقت الغروب دون أن يكون السيد جونز قد عاد لمنزله بعد .. فأصاب القلق آن و قامت بالاتصال بزوجها عدة مرات على هاتفه المحمول .. و لكن الرقم كان في كل مرة مغلقاً .. فجربت آن كل الأرقام الأخرى فوجدتها أيضاً مغلقة بدورها .. وعندئذ أصابها القلق .. وتصادف أن مرت بها كبيرة الخادمات و هي تجلس في الحديقة تحاول و تكرر محاولات الاتصال بزوجها .. فنظرت بيرني نظرة غريبة ليدي مسز جونز المشغولتين بالاتصال و فتحت فمها لتقول جملة واحدة فقط :
- " يبدو أن السيد قد عاد لطبعه القديم " !
و ابتسمت بيرني ابتسامة غريبة و فرت إلى المطبخ تاركة (آن) غارقة في حيرتها !
........................
عاد السيد جونز بعد منتصف الليل متعباً و مرهقاً بشكل يوحي بأنه كان يقوم بدفن ضحايا الطاعون.. و بمجرد أن دخل صرخ منادياً الخادمة بيرني وأمرها بإعداد العشاء .. ثم جلس في انتظار العشاء .. و بعدها بخمسة دقائق كان يجلس إلى المائدة يتناول عشاءه كالخنزير الجائع .. ثم نهض ليذهب إلى غرفته .. كل ذلك دون أن يلتفت إلى زوجته أو يهتم بإلقاء نظره واحدة عليها .. بل حتى لم يهتم بدعوتها لمشاركته في العشاء .. بل تركها جالسة مكانها في ذهول من تجاهله التام لها وكأنها غير موجودة من الأصل !
ظلت آن جالسة مكانها مضطربة تلاحقها نظرات بيرني الساخرة وهي تقوم برفع بقايا العشاء .. و فجأة هبت آن من مكانها و ارتقت السلم بسرعة رهيبة عازمة إلى الذهاب إلى غرفتها وتقريع زوجها و إيلامه بأشد الكلام جزاء إهماله التام الشنيع لها !
و لكن آن عندما دخلت الغرفة فوجئت بأن زوجها غير موجود بغرفتهما .. عندئذ جن جنونها وأخذت تجوب حجرات القصر معتقدة أنه ربما يكون قد قرر أن يقضي ليلته بعيداً عنها .. و كان هذا شيء ليس لديها أي استعداد للسماح بحدوثه .. ولكن العجيب أن (آن) تأكدت بعد جولة طويلة مرهقة بين حجرات القصر زادت على ستين حجرة ؛ أن زوجها بالفعل ليس موجوداً في أي منها .. عندئذ أصابها الجنون و صرخت منادية بيرني وسألتها بغضب عن مكان مستر جونز .. و عندئذ فوجئت بالخادمة المائعة ترد عليها و هي تلوك العلكة في فمها :
- "مستر جونز لم يعد بعد من الخارج يا سيدتي !"
و أثارت هذه الإجابة جنون السيدة جونز التي أخذت تصرخ وهي تشتم الخادمة اللعينة وأخذت تسألها عمن يكون الشخص الذي دخل منذ نصف ساعة وأعدت له العشاء بنفسها ، بل ورفعت بقايا عشاءه منذ دقائق .. و أخذت آن تصرخ و تصرخ و الخادمة تصرعلى دعواها الغريبة بأن مستر جونز لم يعد من الخارج بعد !
و جذب صراخ مسز جونز مدير أعمال زوجها روسليني الذي تصادف وجوده بالطابق السفلي فصعد على الفور ليستطلع الأمر بنفسه ...وعندما سأل عن المشكلة راحت آن التي أصابها الغضب بحالة من الهستيريا تصرخ و تصيح :
- " هذه الخادمة اللعينة .. تكذبني و تدعي أن مستر جونز لم يعد من الخارج بعد .. مع أنه دخل القصر أمامي و تناول عشاءه ورأيته بعيني و هو يصعد إلى هنا .. الكاذبة اللعينة .. سأطردها من القصر .. أقسم أن أجعل مستر جونز يطردها الليلة !! "
أخذت (آن) تصيح و تصيح و تركها روسليني حتى كفت عن الصراخ و هدأت قليلاً و قال لها بهدوء مثير و هو يحك أذنه اضطراباً :
- " و لكن يا سيدتي أخشى أن أقول أن الخادمة على حق ، فسيدي ما زال في الخارج .. و قد أتصل بي لتوه ليخبرني بأنه أقترب من بوابة القصر الخارجية !"
أطبق الصمت على (آن) بعد تلقيها لهذه الإجابة القاتلة .. و امتلأت عيناها بالدموع وأخذت تجيل النظرات الحائرة بين مدير أعمال زوجها و الخادمة التي أخذت تنظر لها في وقاحة و صفاقة عدوانية واضحة .. ذهلت آن و قبل أن تنطق دق الهاتف المحمول الخاص بمستر روسليني فتناوله و وضعه على أذنه وبعد ثانية ناوله لمسز جونز قائلاً :
- " إنه مستر جونز يقول أنه وصل إلى القصر الآن ! "
ظلت ( آن ) واقفة مكانها تحدق في الفراغ .. حتى وجدت أمامها زوجها مرحاً بشوشاً باسماً يحتضنها في حنان ويقول لها بلهفة :
- " حبيبتي آن .. كم أوحشتني .. أسف لإضطراري البقاء في الخارج و تركك بمفردك طوال النهار .. و لكنه العمل يا عزيزتي كما تعرفين " !
و لم ترد آن على زوجها .. لأنها تهاوت بين ذراعيه مغشياً عليها !
........................
استيقظت آن لتجد نفسها في فراشها و بجوارها يجلس زوجها وعلى ملامحه الكثير من القلق و الخوف .. و بمجرد أن رأى عينيها تتحركان قفز من مكانه وأمسك يديها وأخذ يقبلهما بلهفة وحنان و يردد بصوت تملؤه الرقة و الحب :
- " حبيبتي .. حبيبتي لقد كاد القلق يقتلني عليك .. و لكن الطبيب طمأنني و أكد أنك ستكونين بخير في ظرف ساعة واحدة لا أكثر !"
لم ترد آن .. أو بالأحرى لم تجد كلاماً ترد به .. و مع أنها كادت أن تسأله عن هذا الأمر الغريب الذي حدث الليلة إلا أنها تراجعت حتى لا تزيد المشكلة تعقيداً .. وربما كانت طبيعتها الريفية الطيبة المتسامحة قد عاودتها فعزمت على الصفح عن زوجها .. و لكن المؤكد أن هذه الحادثة خلفت في نفس مسز جونز بدايات شك في قواها العقلية !
........................
بعد مرور أسبوع كانت آن قد بدأت تنسى هذا الأمر الغريب و لكنها فوجئت بزوجها ؛ الذي عاد للاهتمام بها و إسباغ الحنان و العطف عليها ؛ يخبرها أنه يعد حفل استقبال فخم في قصرهما .. و يريدها أن تتولى شخصياً تنظيم هذا الحفل و الإشراف على كل تفاصيله .. ، سبب هذا المطلب المفاجئ ارتباكا مهولاً لـ " آن " التي اعترفت لزوجها أنها لا تدري كيف يمكن الترتيب لحفل مثل هذا .. إنها حتى لا تعرف ما المقصود بحفل استقبال !
و لكن مستر جونز طمأنها وقال لها أن تنظر للأمر وكأنها تعد لاستقبال صديقاتها في منزلها الريفي بأيرلندا ، و الأمر في الحقيقة لا يزيد على ذلك ، وتتحفهم بجو ريفي جميل ويمكنها أن تستعين بمساعدة بيرني إذا أحبت ..
و قد أراح الجزء الأول من كلام مستر جونز بال آن .. و لكن الجزء الثاني سبب لها غيظاً و غضباً بلا حدود .. لذلك فقد قررت أن تعد للحفل بنفسها و تعتمد على قدراتها الشخصية و كأن بيرني اللعينة هذه غير موجودة من الأساس !
و قد نجحت مسز جونز في إعداد ذلك الحفل و تنظيمه على الوجه الأكمل .. نجحت لدرجة أن زوجها قرر التخلي نهائياً عن إقامة أي حفلات في قصره مرة أخرى إلى الأبد !
........................
في اليوم الخامس عشر من ديسمبر وصل خطاب غريب إلى قصر مستر جونز .. كان الخطاب قادماً من أيرلندا و من قرية آن بالتحديد .. تعجبت آن من وصول هذا الخطاب نظراً لأنه لم يكن لها في القرية أو في أيرلندا كلها أحد يمكن أن يفكر بها أو يحاول مراسلتها .. و لكن السيد جونز شجعها على فتح الخطاب لعله يكون من أحد صديقاتها السابقات في قريتها .. و بالفعل فتحت آن الخطاب لتجد به رسالة بالغة الغرابة .. فمرسل الخطاب شخص يدعي أنه عمها و يطلب تحديد موعداً لزيارتها في بيتها الجديد .. وكان التوقيع في نهاية الرسالة باسم فيكتور كروسبي !
زادت دهشة آن من هذه الرسالة الغريبة و أكدت لزوجها أنها لا تعرف المدعو فيكتور كروسبي هذا و لم تسمع عنه على الإطلاق .. و لكن زوجها قال لها أنه ربما يكون عماً من أقربائها البعيدين ، وربما كان مسافراً أو مهاجراً إلى بلد نائي لذلك لم يتسنى لها التعرف به .. و في النهاية شجعها على أن تدعو الرجل إلى القصر و لعل مناسبة عيد الميلاد تكون فرصة سانحة لمثل هذه الدعوة !
و بالفعل أرسلت آن فاكساً إلى الرقم المذكور بالرسالة تدعو فيها فيكتور كروسبي لزيارتها في قصر ( أوريديان ) في ليلة عيد الميلاد !
........................
و هكذا جاءت ليلة عيد الميلاد وجاءت معها احتفالات ضخمة في كل أنحاء العالم .. و احتفالات أكثر ضخامة و صخباً في نيويورك التي تعيش فيها عائلة جونز .. و من داخل قصرها أخذت السيدة آن تسمع أصوات المحتفلين الصاخبين المرحين و هم يحتفلون ويرقصون على إيقاع موسيقى أقرب ما تكون لموسيقى الهمج والغجر و ترى ألاف الألعاب النارية وهي تفرقع في الهواء .. و كانت آن الفتاة القروية الأيرلندية المحافظة تتعجب كيف يمكن أن تكون هذه طريقة الاحتفال بمولد يسوع المسيح ؟!
و لكن آن لم تتصور أن أكثر الاحتفالات صخباً و جنوناً بل وعربدة و مجوناً .. ستكون داخل قصرها نفسه و تحت إشرافها كما هو المفروض !
قام مستر جونز بدعوة عشرات من الأشخاص الغرباء ذوي الطبائع المجنونة وأقام على شرف زوجته حفلاً صاخباً مجنوناً لدرجة أن ( آن ) لم تتحمل التواجد وسط هذا الجو أكثر من نصف ساعة .. أسرعت بعدها إلى غرفتها تاركة زوجها يشارك ضيوفه جنونهم وتبذلهم ويعب معهم كؤوس الخمر حتى كاد أن يسقط على وجهه من الثمل !
و في الساعة الثانية صباحاً شاهدت آن من نافذة غرفتها الضيوف المهرجين وهم يغادرون القصر .. فتنفست الصعداء و سُرت لانتهاء هذا الحفل الماجن وأسرعت بالنزول للطابق السفلي لتطمئن على زوجها الذي اعتقدت أن الخمر صرعته ولابد أن مستلق الآن تحت إحدى المناضد أو المقاعد فاقداً لوعيه .. و أثناء نزول آن على السلم سمعت صوت صراخ مرعب !
........................
في القاعة التي كان الحفل دائراً فيها منذ دقائق كانت البقايا والكوؤس الفارغة و الزجاجات وأعقاب السجائر متناثرة هنا و هناك .. و لكن المكان لم يكن خالياً كما تصورت آن .. بل كان هناك زوجها واقفاً على قدميه بكامل صحته و يقظته وإلى جواره خمسة أشخاص غرباء يرتدون ملابس غريبة .. ليست ملابس كاملة بل أقرب ما تكون لنتف من ملابس .ميزت " آن " منهم الثلاثة الذين سبق لها استقبالهم مع زوجها بعد عودتهم من هوليوود بثلاثة أيام .. أما الاثنين الآخرين فلم تكن أن تعرفهما أو سبق أن رأتهم من قبل .. كان السجاد و الأبسطة مرفوعة عن أرضية القاعة التي ظهر رخامها الفاخر عارياً .. ولكن كان هناك شيء منقوش على هذه الأرضية شيء لم تراه آن من قبل و لا تعرف ما هو كنهه بالضبط .. و لكنه أشبه ما يكون بنجمة عملاقة .. نجمة خماسية الأضلاع .. و لم يكن هذا هو كل شيء .. بل كان هناك حبل غليظ يتدلى من وسط سقف القاعة منتهياً بأنشوطة غليظة قوية ملتفة حول شيء ما .. و لم يكن هذا الشيء سوى جسد بيرني الشقراء الماجنة .. بيرني التي كانت في أشد حالات الصخب والمرح وهي بدون ثياب و معلقة من قدميها في الأنشوطة الغليظة .. وكان الحبل يتدلى شيئاً فشيئاً فوق النجمة الخماسية حاملاً بيرني التي تضحك بجنون .. ذعرت آن واعتقدت أن زوجها و رفاقه يقيمون حفل إباحي في منزلها .. و لكن في اللحظة التالية حدث ما جعل آن تتمنى لو كان الأمر مجرد حفل إباحي ، إذن لأمكنها تحمل الأمر .. و لكن ما يحدث الآن أمامها تجاوز كل الحدود .. فبمجرد أن صارت بيرني على بعد متر و نصف من مركز النجمة الخماسية المرسومة على أرضية القاعة حتى أستل الرجل ؛ الذي اعتقدت آن أنه كاهن ؛ موساً حاداً من طيات ملابسه و تقدم بخطوات بطيئة نحو بيرني .. و فجأة أخذ يمزق جسدها بهذا الموس في ضربات قوية سريعة متلاحقة .. و وجدت آن نفسها تصرخ و تصرخ فزعاً بينما كانت بيرني تضحك وتضحك بجنون و بله و دماءها تتساقط لتغطي النجمة الخماسية .. الغريب أن الرجال الخمسة ؛ بما فيهم الزوج مستر جونز نفسه ؛ لم يبدوا أي رد فعل تجاه صرخات آن وذعرها .. و كأنهم يستمتعون بهذه الصرخات !
........................
لم تفق آن من نومها إلا في عصر اليوم التالي .. فتحت عينيها لتجد نفسها راقدة في فراشها بكامل ثيابها و حتى الحذاء كان ما يزال في قدميها .. لم تستطع آن أن ترفع رأسها إلا بعد جهد جهيد بسبب عنف الصداع و لأن رأسها كان يزن أطناناً .. و بعد مقاومة تمكنت من أن ترفع نصفها الأعلى و تتفحص المكان حولها .. كانت في غرفتها وعلى فراشها ولكن زوجها لم يكن بجوارها .. و هذا سرها كثيراً .. و أخذت آن تتنصت و ترهف السمع ولكنها لم تسمع أي صوت خارج بابها .. فنهضت من على الفراش بصعوبة و مشت ببطء نحو باب الغرفة المغلق و فتحته بحذر فتحة صغيرة .. و أخذت تطل على البهو الواسع لتطمئن إلى عدم وجود أحد .. و لما تأكدت من خلو المكان تسحبت من الباب و بدأت تخطو بصمت تام خلال البهو محاولة النزول إلى الطابق الأسفل دون أن يشعر بها أحد .. كانت آن قد عزمت على الهروب من القصر .. هذا المكان الجنوني الشيطاني البغيض ، و لم يكن لديها أي استعداد لمواصلة الحياة مع هذا الرجل اللعين .. و بالفعل نجحت آن في الوصول إلى الطابق الأسفل دون أن يحس بها أحد و واصلت طريقها في إصرار إلى باب القصر و كادت تصل إليه .. و لكنها فجأة سمعت صوتاً من خلفها فأجفلت و أصابها الرعب الشديد وألتفتت خلفها بحركة حادة لتجد روسليني واقفاً خلفها بالضبط و يبتسم لها في صفاقة بوجهه المعسول البارد :
- " سيدتي .. أين تريدين الذهاب ؟! "
سأل روسليني بصوته العادي فتجهم وجه آن وتلعثمت محاولة التوصل لإجابة مقنعة تجنبها المزيد من الأسئلة ولا تضيع وقتها في الكلام و لكنها لم تجد هذه الإجابة للأسف .. فظلت واقفة في مكانها شاحبة الوجه خائفة وقد وشى منظرها بقلقها و خوفها .. و لكن روسليني تجاهل كل ذلك و عاد ليسألها بثقة :
- " سيدتي .. إذا كنت تريدين الخروج فيمكنني أن أستدعي بيرني لتعد لك مكانك المفضل في الحديقة .. لقد أفسد أولئك الضيوف المجانين كل شيء في القصر ! "
و أبتسم روسليني غير منتبه إلى الذعر الذي أصاب سيدته عند سماعها لاسم بيرني .. ردت آن بتردد :
- " بيرني ؟! ..ألا زالت هنا ؟! "
فحدق فيها روسليني بنظرة غريبة لم تفهم آن معناها .. نظرة غريبة لا تعرف ما إذا كانت نظرة غباء أم خبث أم تعاطف.. المهم أن روسليني غمر مسز جونز بنظرته غير المفهومة هذه للحظة ثم أبتسم ابتسامة بزاوية فمه و قال بسخرية :
- "و أين تذهب بيرني .. إنها هنا منذ بناء هذا القصر .. و ستظل موجودة حتى لو رحل كل أحد آخر في القصر !! "
و قبل أن يكمل روسليني عبارته الغريبة كانت بيرني واقفة في البهو تحمل منشفة في يدها وتقف في دلال و ميوعة و تسأل آن عن أنواع الأطعمة التي تريدها على العشاء !
لم تجب آن .. لم ترد أن تجب .. لم تجد ما تجيب به !
و إن كانت قد تأكدت أن محاولتها الأولى للهرب قد باءت بالفشل الذريع !
........................
استمرت آن في الحياة مع مستر جونز مرغمة .. كانت خائفة منه ، و لم تكن تتحمل لمسه لها .. لم تستطع أن تفتعل السعادة أو الثقة بعد ذلك .. و مع أنه لم يذكر كلمة واحد عن حفل ليلة عيد الميلاد إلا أنه كان ينظر لـ آن دائماً بنفس تلك النظرة الغريبة .. كان يقول لها في صمت ؛ من خلال عينيه :
- " أنا أعرف أنك شاهدت كل ما جرى .. إياك أن تتكلمي و إلا كان مصيرك أسود مما تتصورين "
و بالفعل لم تتكلم آن .. و لكنها لاحظت أن الثلاثة رجال إياهم بدأوا يترددون بصفة دائمة على القصر .. و لم يعد زوجها يبدي أن نوع من احترام مشاعرها فكان يجبرها على الترحيب بهم و الجلوس أمامهم طوال فترة بقاءهم هناك ليحدقوا فيها بنظراتهم النارية الثاقبة .. خاصة الكاهن الذي كان يلاحقها بنظراته السوداء وعيونه المخيفة أينما ولت وجهها ، مسبباً لها خوف و حيرة و ارتباك لا يوصف ..
و مرت أشهر على هذا الوضع .. و فجأة بدأ العمل الحقيقي .. فكل ما مرت به آن حتى الآن كان مجرد بروفة .. بروفة معدة ببراعة من رجال قساة لا يعرفون الرحمة .. و لا يخافون الله !
........................
ذات ليلة استيقظت آن من نومها فجأة لتجد نفسها في ظلام دامس .. كانت قد انقطعت تماماً عن مشاركة زوجها في غرفتهما و استقلت بغرفة منفصلة دون أن يبدي زوجها أي اهتمام بهذا الأمر !
لم تكن آن معتادة على النوم في الظلام الدامس .. بل كانت تستخدم ضوء صغير عند نومها كما تعودت في أيرلندا .. و لذلك فأن الظلام المحيط بها كان أمر بالغ الغرابة وغير منطقي .. في البداية ظنت أن الكهرباء قد انقطعت عن القصر .. وهمت بأن تنهض لتتأكد من وجود التيار الكهربائي .. و لكنها قبل أن ترفع جذعها عن فراشها فوجئت بدخول زوجها المباغت إلى الغرفة .. لم يكن هذا الواقف أمامها زوجها الذي عرفته منذ شهور طويلة ، كان رجل آخر لا تعرفه أبداً من قبل .. كما أنه لم يكن بمفرده .. رغم الظلام الدامس استطاعت آن أن تميز حولها وجه الثلاثة الملاعين رفاق الليالي المظلمة لزوجها و معهم بيرني و أخيراً روسليني نفسه ..
بحركة غريزية شدت آن الغطاء حول جسدها محاولة ستر نفسها عن عيونهم .. و لكن زوجها أشار لـ روسليني إشارة معينة فأنقض مدير الأعمال عليها و سحبها من الفراش بعنف .. صرخت آن وأخذت تقاومه بيد بينما كانت تتمسك بالغطاء باليد الأخرى ..
لم يبدي مستر جونز اهتماماً بصرخات زوجته المستغيثة بل مد يديه وشارك نائبه في سحبها و إخراجها من الفراش .. أخذت آن تصرخ وتصرخ و هم يقومون بجرها جراً على الأرض حتى أخرجوها من الغرفة ثم سحبوها عبر البهو حتى وصلوا بها إلى السلم .. ثم قاموا بحملها حملاً وأنزلوها السلم بالقوة .. و بعد ذلك ألقوها على الأرض و واصلوا جرها حتى وصلوا بها إلى القاعة الضخمة .. القاعة ذات الرخام والنجمة الخماسية العملاقة .. كانت الأرضية عارية والحبل الغليظ معلق في سقف القاعة و متدلي فوق مركز النجمة الخماسية .. أخذت آن تقاوم و تقاوم بشراسة و لكن مقاومتها لم تجدها نفعاً .. لأنهم كانوا مصرين كالشياطين .. و بمجرد أن وصلوا إلى القاعة حتى بدأ الكاهن يحاول تجريد آن من ثيابها .. فأخذت آن تقاومه و تعض يديه و تخمش وجهه محاولة منعه من فعل ما يريده .. و لكنها فوجئت بالخادمة بيرني تمسك بمطرقة حديدية و تهم بضربها بها .. و لكن فجأة توقف كل شيء .. و توجهت أنظار الجميع ؛ بما فيهم آن نفسها ؛ لباب القصر .. الذي أخذ جرسه يرن رنيناً طويلاً ممتداً لا يتوقف !
........................
في الصباح التالي فتحت آن عينيها لتجد نفسها مستلقية على مقعد في غرفة نومها .. وإلى جوارها يجلس الطبيب د / كارل و زوجها و برفقتهما رجل غريب لا تعرفه و لم تره من قبل .. و من العجيب أن هذا الرجل المجهول بالنسبة لها كان يبدي غاية القلق و التوتر من أجلها .. فزعت آن عندما اصطدمت نظراتها بنظرات زوجها الباردة الهادئة ؛ التي لا تدل على أي إحساس أو شعور بالذنب تجاه ما أقترفه بحقها الليلة الماضية ..
استوت آن جالسة على طرف المقعد و غممت متسائلة عن الوقت و المكان .. فأجابها زوجها بصوته الهادىء أنها الساعة العاشرة و النصف صباحاً .. أخذت آن تدير رأسها في ألم و عدم تركيز .. كانت شبه ناسية لأحداث الليلة الماضية من فرط الرعب و الصدمة لذلك فلم تبدر منها أي ردة فعل عنيفة .. تسألت آن عن هوية الشخص الغريب الموجود معهم فأجابها الرجل و هو يمسك يدها في حنان :
- " أنا عمك يا صغيرتي ! عمك فيكتور .. لقد أرسلت إليك رسالة في الخامس عشر من ديسمبر أخبرتك فيها بقدومي لزيارتك .. و لكن يبدو أن ظروفاً قاهرة منعتني من مشاركتك ليلة عيد الميلاد .. فعذراً يا طفلتي ! "
ظلت آن تصغي بهدوء لحديث الرجل حتى انتهى ثم قالت له وهي تسند رأسها المترنح بيدها :
- " لم أسمع عنك مطلقاً ! لم تخبرني أمي قبل وفاتها أن لي عماً ! "
فأجاب الرجل بابتسامة حانية :
- " ذلك لأنهم كانوا يعتبرونني ميتاً ! لقد غادرت الوطن في رحلة عمل على متن سفينة هولندية .. و لكن السفينة غرقت قبل وصولها إلى الميناء المنشود ، و كان من حسن حظي أنني تمكنت من النجاة ووصلت إلى دربان سالماً .. وهناك استقر بي المقام وعملت وكونت ثروة كبيرة .. وكان ذلك قبل أن تولدي أنت بأربع سنوات .. لا عجب إن أحداً لم يخبرك عن عمك فيكتور من قبل !! "
و فجأة ، و بمجرد أن انتهي الرجل من كلامه حتى أستعاد عقل آن الهامد الحياة و تذكرت كل تفاصيل الليلة الماضية و كأنها تشاهدها على شريط سينمائي أمامها .. فهبت من مقعدها و أخذت تصيح كالمجنونة ثم هجمت على زوجها وهي تصرخ :
- " أبتعد .. أبتعد أيها الشيطان ! أبتعد عني .. لقد كنت تريد قتلي .. كنت تحاول قتلي .. كنت تريد أن تفعل بي مثلما كنتم تفعلون مع اللعينة بيرني في ليلة عيد الميلاد ! "
استمرت آن في صراخها الهستيري .. فأربد وجه مستر جونز وبان عليه الاضطراب .. أما العم المزعوم فقد أخذ يحاول الإمساك بـ آن و منعها من مواصلة الهجوم على زوجها .. و بصعوبة بالغة تمكن من إبعادها عنه بعد أن كادت تقطع وجهه بأظافرها .. و أخيراً حملها حملاً وأرقدها فوق الفراش محاولاً السيطرة عليها .. و لم يكد الزوج يتخلص من قبضة آن حتى أخذ يصرخ بضراوة :
- " هذا ما حدثتك عنه ! إنها مجنونة .. مجنونة تماماً .. تتوهم أشياء لا تحدث ثم تصرخ و تتهمنا بفعل أشياء غريبة .. حتى أنني لم أقم حفل عيد الميلاد مطلقاً هذا العام " !
و هنا جن جنون آن و أخذت تقاوم عمها فيكتور بشراسة محاولة النهوض لتهجم على جونز و راحت تصيح بهستيريا :
- " كاذب .. منافق .. جبان .. منحل ! أنت تعبد الشيطان .. لقد رأيتكم .. لقد رأيتكم و أنتم تقيمون حفلاً لعبادة الشيطان و تمزقون جسد بيرني بالشفرات ليلة عيد الميلاد .. لقد رأيتكم ! لقد رأيتكم و أنتم تفعلون ذلك .. و رأيت الدماء وهي تتساقط من جسدها و تغرق النجمة الخماسية في القاعة الكبيرة .. و الليلة الماضية ألم تحاول قتلي لولا أن أنقذني جرس الباب ؟! ، لقد رأيت كل شيء .. و أعرف أن هذه طقوس عبدة الشيطان .. سأفضحك في كل مكان .. و سأبلغ السلطات الأمريكية ليأتوا و يقبضوا عليك أنت و شركائك ! "
ظلت آن تصرخ وتصرخ كل هذا ومستر جونز جالس في مكانه يدخن سيجارته في هدوء كامل و يرمقها ببرود دون أن يظهر عليه أقل تغير .. و بذل العم جهداً خارقاً حتى استطاع السيطرة على آن ومنعها من مغادرة الفراش و لكنها ظلت تصيح و تصيح كالمجنونة مرددة :
- " سأفضحك .. سأفضحك "
و أستغرق الأمر عشر دقائق كاملة حتى بدأت آن تهدأ .. و عندما هدأت بدرجة كافية نهض مستر جونز من مكانه و قال بهدوء :
- " هل انتهيت من الصراخ ؟! الآن سأثبت لك أنك مجنونة ..و أن كل ما تدعينه أوهام لا وجود لها إلا في رأسك المريض .. أتبعوني من فضلكم "
غادر مستر جونز الغرفة و بدأ يهبط السلم بخطوات سريعة .. وراءه جاءت آن تمشي ببطء مستندة على ذراع "فيكتور كروسبي وهبطوا الدور السفلي .. ثم اتجهوا نحو القاعة الكبرى .. و دق مستر جونز الجرس الفضي الخاص باستدعاء الخدم ، فجاءت بيرني بعد لحظة متسائلة عن أوامر مستر جونز .. و هنا قال مستر جونز بهدوء و برود :
- " آنسة بيرني من فضلك .. إن مسز جونز تتهمنا بأننا نقيم طقوس لعبادة الشيطان في هذه القاعة .. و تدعي وجود نجمة خماسية على أرضية هذه القاعة .. كما تزعم أننا قمنا بتمزيق جسدك بالشفرات ليلة عيد الميلاد كنوع من الطقوس الشيطانية ! "
و بمجرد أن انتهي جونز من كلامه حتى ارتسم تعبير غريب على وجه بيرني المائع و قالت بسخرية :
- " ليلة عيد الميلاد .. أنت تعرف يا سيدي أنني لم أكن بالقصر ليلة عيد الميلاد .. لقد كنت أقضي إجازة العيد مع أمي في مونتانا ..و أعتقد أن مسز جونز بنفسها هي من منحتني هذه الإجازة أيضاً !! "
شحب وجه آن شحوباً بالغاً عند سماعها لهذه الكلمات الصادرة من بيرني .. و لكن ما حدث بعدها كان أدهى و أمر .. فقد أشار مستر جونز لـ بيرني إشارة معينة برأسه ، فأقبلت الخادمة على السجادة الفخمة المفروشة على الأرضية و أخذت تطويها طيات سريعة حتى ظهر رخام الغرفة اللامع المصقول .. و أخذت بيرني تطوي السجادة حتى أزاحتها تماماً و أبعدتها و وضعتها لصق الحائط .. فظهرت أرضية الغرفة كاملة .. و لم يكن هناك أي نجوم خماسية أو سداسية فوقها!
نظر مستر جونز نظرة طويلة لزوجته التي كانت واقفة مستندة على ذراع العم فيكتور ؛ الذي هبط إليها من السماء ؛ في حالة من الخوف و القلق .. ولكن زوجها لم يرحمها بل أشار لـ بيرني إشارة أخرى مبهمة .. فأخذت الخادمة ؛ و بدون كلمة ؛ تنزع ملابسها قطعة قطعة بدون خجل أمام كل الواقفين حولها حتى ظهر جسدها الأبيض الأملس لامع كأنه جسد تمثال من البرونز !
هنا نظر مستر جونز لـ فيكتور كروسبي وقال له في هدوء :
- " أحكم أنت يا سيدي ! ها هو كل شيء أمامك .. لا توجد أي نجوم من أي نوع على أرضية القاعة و ليلة عيد الميلاد لم يمض عليها أسبوعان .. و لو كانت مسز جونز صادقة في مزاعمها فأين الجروح التي أحدثتها الأمواس في جسد بيرني .. أعتقد أنه من الصعب أن تكون قد اندملت في هذه الفترة البسيطة !! "
نظر فيكتور كروسبي إلى آن منتظراً جوابها .. و لكن جواب آن أثار دهشة الجميع لأن وجهها شحب فجأة شحوب الموتى و غامت عيناها .. ثم تهاوت على الأرض فاقدة الوعي !
........................
مرت ثلاثة أسابيع لزمت فيهم آن غرفتها .. كانت حزينة مكتئبة ، عازفة عن الكلام والخروج إلى الحديقة و عافت نفسها الطعام ، فلم تكن تأكل إلا أقل القليل من الطعام و بعد ممانعة و رفض وإلحاح شديد من العم فيكتور كروسبي الذي ظل مقيماً في القصر لرعاية آن بناءً على رغبة السيد جونز .. و بمرور الأيام بدأت آن تزداد حزناً و أكتئاباً و أصابها الجنون و الخوف من الجنون .. أما زوجها فقد صار بالنسبة لها عفريتاً مرعباً لا تتحمل رؤيته ولا حتى مجرد سماع اسمه .. و طوال هذه المدة قام ثلاثة من الأطباء بمهمة رعاية مسز جونز في مرضها .. فقد حرص زوج آن على إظهار غاية الاهتمام و الرعاية لزوجته في هذه الفترة الحرجة .. و لا أحد يدري أكان حرصه هذا ناتجاً عن خوفه من تصديق ادعاءات زوجته ضده أم كان حقاً حباً لها و عطفاً عليها ..
و لما بدأت آن تستعيد قوتها عرض عليها عمها فيكتور الذهاب معه في رحلة إلى أيرلندا .. و أسعد هذا الاقتراح آن وأعاد إليها ابتسامتها المفقودة و أنساها حتى نفورها البالغ من زوجها فبدأت تبادله القليل من الحديث ، ولكن أخشى ما كانت تخشاه آن أن يرفض زوجها ذهابها برفقة عمها إلى أيرلندا .. و لكنه لدهشته ؛ وافق على الفور وسعد بالاقتراح .. بل لم يكتفي بالموافقة و أصر على مرافقة زوجته في هذه الرحلة ووعدها بأن يبقوا في الوطن بقدر ما تريد على أن يعهد برعاية مصالحه في أمريكا لنائبه روسليني لحين عودته ..
و أخذت آن تعد أمتعتها لهذه الرحلة المنتظرة و تستعد استعدادا يفوق ما تتطلبه رحلة مؤقتة لن تدوم سوى لأيام أو لأسابيع .. و لا غرابة فقد كانت آن عازمة على ألا تعود ثانية إلى الولايات المتحدة مهما كان الثمن !
و من سوء حظها أنها لم تحسن إخفاء مشاعرها و نياتها الحقيقية عن زوجها المتربص بها .. ففاجأها بما لم يكن في حسابها !
........................
قبل الموعد المحدد للرحلة بثلاثة أيام استيقظت آن من نومها نشطة مستبشرة .. و كان أول ما فعلته أن سألت عن العم فيكتور ؛ الذي أصبح جزء مهماً من حياتها ؛ و لكن الجواب كان صدمة بالنسبة لها .. فقد قال لها مستر جونز أن فيكتور كروسبي قد غادر القصرعقب تلقيه رسالة عاجلة من جنوب أفريقيا تطلب منه الحضور فوراً لأمر في غاية الأهمية !
صدمت آن وذعرت لرحيل عمها المفاجىء و هو الشخص الوحيد الذي تثق فيه الآن .. و أسرعت محاولة الاتصال به للاطمئنان عليه ومعرفة ميعاد عودته التي تمنت أن تكون في أسرع وقت .. و لكن كل محاولات آن باءت بالفشل ، فقد كانت كل الأرقام الخاصة بالسيد فيكتور كروسبي خارج نطاق الخدمة !
و وجدت آن نفسها مجبرة على التحدث لزوجها بشأن الرحلة التي كانت لا تطيق صبرا لبدئها و لا تتحمل تأجيلها .. قالت مسز جونز لزوجها بحذر :
- " و ماذا عن رحلة أيرلندا ؟! "
فلوى مستر جونز شفتيه و قلب كفيه علامة الاستسلام و أجاب ببرود :
- " أعتقد أنه ليس علينا سوى الانتظار ! لن نستطيع أن نبدأ الرحلة بدون عمك فيكتور فقد وعدناه بمرافقته لنا فيها .. و مسز و مستر جونز لابد أن يفيا بوعودهما .. أليس كذلك يا حبيبتي ؟! "
و ظلت آن تنتظر عودة فيكتور كروسبي أو اتصاله بها .. انتظرت و انتظرت طويلاً .. طويلاً جداً .. دون أن تأتي أية أخبار من الرجل أو يظهر له أثر ..
و هكذا أختفى فيكتور كروسبي من حياة آن فجأة .. مثلما ظهر فجأة !
........................
أعقب اختفاء فيكتور كروسبي المباغت عودة السيد جونز لإقامة الحفلات الماجنة في قصره .. و كانت هذه الحفلات تتضمن كل أنواع الموبقات التي يمكن تخيلها و التي لا يمكن كذلك !
و لما شعر جونز بإمكان إقدام زوجته آن على الهرب قام بحبسها في قبو مظلم ملحق بأغوار القصر السفلية التي لا نهاية لها .. و بدأ هو ورفاقه في تعذيبها .. التعذيب الحقيقي الذي كان يتوق لبدئه !
ففي ليلة مظلمة قام مستر جونز وأتباعه ؛ وعلى رأسهم بيرني ؛ بسحب آن عبر سلالم و ردهات القصر وإلقائها في هذا الجب العفن .. و أسند السيد لخادمته العتيدة مهمة إعداد آن وتحضيرها للمهمة التي أختارها لأجلها !
فالذي كانت تجهله آن لحد هذا الوقت هو أن مستر جونز لم يخترها لتكون زوجة له .. بل لتكون ذبيحة و قرباناً !
و تركوها طوال الليل ترتعش من الذعر و من البرد و من الجوع أيضاً !
و لكن في تباشير الصباح أتت بيرني حاملة إليها صحفة عليها طعام الإفطار .. وضعته بجوار آن على الأرض ثم رحلت بدون كلمة .. و أقبلت آن على الطبق الوحيد الموضوع فوق الصحفة و كشفت غطاءه بلهفة .. فقط لتجد فوقه شيء طويل يقطر دماً و له ذيل طويل رفيع و فم صغير أحمر اللون و عينان واسعتان منبلقتان .. و تراجعت آن إلى الوراء مذعورة و أصطدم ظهرها بالحائط من عنف الصدمة و أخذت تتقيأ .. فلم يكن فوق الطبق سوى فأر .. فأر كبير مسلوخ يقطر دماً !
و كانت هذه هي الخطوة الأولى !
........................
و بقيت المسكينة ثلاث أيام بلياليها بدون طعام حتى أوشكت على الموت !
و يبدو أن الرحمة عرفت طريقها إلى قلب جونز وخادمته أخيراً .. ففي اليوم الرابع جاءت بيرني حاملة هذه المرة طعاماً حقيقياً .. لحم مشوي و خضر مطهية في طبق واحد .. و أقبلت آن على الطعام بجنون وأخذت تتناول الطعام كالمسعورة دون أن تبالي بـ بيرني التي كانت واقفة خلف قضبان الزنزانة الخارجية تنظر لها في شماتة كريهة ولا حتى بمستر جونز الذي جاء و وقف إلى جوار خادمته و يشاركها نظراتها الكريهة .. و بعد أن انتهت آن من طعامها أحست بقليل من الراحة و أسندت ظهرها على الحائط لتستريح .. و لكن مستر جونز لم يمهلها .. فقد فوجئت به يفتح الباب فتحة صغيرة و يلقي إليها بشيء ما عبرها ثم يعيد إغلاق الباب بسرعة !
نظرت آن طويلاً إلى هذا الشيء الذي ألقاه إليها زوجها .. ثم تناولته لتفحصه عن قرب .. و لم يكن هذا الشيء سوى كيس صغير من الخيش .. فتحته آن لتجد داخله أقدام و ذيول و رؤوس فئران ..ألقت آن الكيس من يدها بسرعة .. و نظرت نحو الطبق الخالي الذي كانت تأكل منه منذ قليل .. فشعرت بمعدتها تقفز خارج حلقها و أندفع كل ما أكلته خارج فمها و هي تسمع ضحكات زوجها اللعين و خادمته في الممر .. فقد عرفت ما الذي أطعمته لها بيرني بالضبط !!
........................
مرت على هذا الحال خمسة أيام وأضربت آن عن الطعام إضراباً كاملاً .. فحتى إذا حملت إليها بيرني طعاماً جيداً كانت تأبي أن تتناوله و تلقي به بعيداً .. فقد قررت أن الموت خير لها من البقاء في هذا الذل و الهوان !
و تركها زوجها تفعل ما تريد يوماً و أثنين و ثلاثة .. و لكنه عندما تأكد من عزمها الامتناع عن الطعام حتى الموت بالفعل أصابه الذعر خوفاً من أن تموت فيضطر لأن يجوب العالم مرة أخرى بحثاً عن قربان بشري تتوفر فيه كل الصفات اللازمة .. القربان الذي سيفتح له بدمه بوابة الخلود !
و لجأ مستر جونز لتهديد آن لإرغامها على تناول الطعام .. و لما لم يجدي التهديد حاول استخدام القوة معها و جعلها تزدرد الطعام بالقوة .. و لكن اليأس أصابه لأنه و إن كان بإمكانه إجبارها على ابتلاع الطعام ، إلا إنه لا يستطيع ؛ مهما أوتي من قوة ؛ أن يجبر الطعام على البقاء في جوفها !
و كانت النتيجة أن ( آن ) ؛ و بعد مرور أسبوعين على حبسها ؛ بدأت تزوي و تشحب بشدة و هزلت هزالاً بشعاً .. و أصبحت أقرب للموت منها للحياة !
و هنا قرر مستر جونز أن ينهي الموقف بنفسه و لا داعي للانتظار حتى يقرر كاهنه ألفريدو اللعين التضحية بها .. و حمل جونز سكيناً ضخماً مصنوعاً من الفضة أقتناه خصيصاً من أحد أسواق بيرو لهذه المهمة المنتظرة و اتجه نحو الجب العفن الذي قام بحبس ضحيته فيه تتبعه خادمته بيرني كالكلب الأمين .. و عندما فتح باب الزنزانة وجد آن المسكينة راقدة في الركن مكومة على نفسها تئن رعباً و فزعاً .. و لكنها لم يرحمها ؛ فلم يعد في قلب مثل هذا الرجل شيء اسمه رحمة ؛ بل تقدم إليها و سحبها من شعرها في وحشية تساعده خادمته اللعينة .. و حاولت آن المقاومة اليائسة و لكن جسدها المهزول لم يبقى فيه رمق للمقاومة .. و علقاها من قدميها بعد أن جرداها من كل ملابسها ؛ مثلما كانت بيرني معلقة في ليلة عيد الميلاد ؛ و أخرج مستر جونز السكين الفضية ومضى يشحذها في الجدار الصخري بعنف وقسوة و قد قصد أن يفعل ذلك أمام عيني ضحيته ليزيد الأمر قسوة و حشية .. و بينما كان يفعل ذلك كانت بيرني تضحك ضحكتها الماجنة و تردد بخبث و شماتة :
- " أسرع يا عزيزي .. نريد أن نأكل القلب دافئاً ! "
و انتهى جونز من شحذ السكين وتقدم نحو الذبيحة المعلقة من قدميها و سدد لها ضربة حادة .. مزقت الصدر و أنشق نصفين ليظهر القلب و هو يدق دقاته الأخيرة الرتيبة .. وكان آخر ما تذكره آن هو الألم الزاعق الذي شل أطرافها و خدر خلاياها حتى أصبحت تشعر وكأنها لا تشعر .. و تتألم و كأن شخص آخر هو الذي يتألم .. و امتدت رقبتي الجزارين اللعينين و أخرج لسانيهما ليلعقا ؛ في نشوة الحيوان المتوحش ؛ الدم المنساب كالشلال على صدر آن !
........................
فتحت آن كروسبي عينيها لتجد نفسها راقدة على جانب التل الذي يقوم عليه قصر ( أوريديان ) الفخم .. فتحت عينيها بصعوبة بالغة ، فقد كان جفنيها ثقيلين ، و رأسها يعصف به دوار رهيب و يكاد ينخلع من مكانه .. أسندت آن رأسها المتهاوي بيديها و رفعت نفسها قليلاً لتتطلع حولها .. كان كل شيء في التل كما اعتادته فيما عدا تغيير واحد .. تغيير بسيط .. و هو أن قصر ( أوريديان ) قد أختفى من فوق التل و لم يتبقى منه أثر !
........................
رقدت آن فوق الحشية الخشنة مفتوحة العينيين شاحبة .. كانت عيناها مغمضتين لكنها لم تكن نائمة .. بل كانت مستيقظة أكثر مما كانت طوال عمرها .. كانت تفكر و تفكر .. و لكن قدوم هذه المرآة قطع عليها حبل أفكارها الممتد بلا نهاية .. كانت مرآة عجوز مغضنة تبدو طيبة الملامح سمحة الوجه و كانت تحمل في يدها طبق حساء يتصاعد منه البخار .. و كانت هذه المرأة هي نفسها من عثرت على آن ملقاة فاقدة الوعي على الطريق الترابي المهجور في مدخل القرية القديم المسدود .. القرية الأيرلندية العتيقة التي ولدت فيها آن كروسبي وتربت و عاشت فيها طوال عمرها .. و لم تغادرها أبداً .. كما قيل لها !
على مدى ثلاثة أسابيع حاولت آن كروسبي إقناع أهل قريتها بقصتها التي روتها لهم عشرة آلاف مرة دون جدوى .. فقد كانوا مصرين على أنها لم تغادر القرية على الإطلاق .. و لم يحدث أن تزوجت بشخص يدعى هنري أدوالد جونز أو حتى بغيره .. أما سفرها حول العالم و بيتها في نيويورك و قصرها ( أوريديان ) الأسطوري فقد كانت بالنسبة لهم أضغاث أحلام .. و ترهات إمرآة مجنونة !
- " يجب أن تعرفي أنك لم تغادري أيرلندا على الإطلاق .. كما أنه لم يسبق لك الزواج ! "
قال العمدة مشدداً على كلماته التي سبق و أن رددها عشرين ألف مرة دون أن تقتنع آن بحرف منها ..
- " و زواجي الذي شهدت عليه بنفسك ؟! "
- " هراء ! "
- " و عقد القران في الكنيسة !؟ "
- " لم يحدث .. ها هو القسيس آت ويمكنك أن تسأليه بنفسك ! "
- " و هنري جونز الذي أقام هنا ستة أسابيع ؟! "
- " لم نسمع به أبداً ! "
- " و سفري إلى الخارج ؟! "
- " ترهات .. إنك لم تغادري أيرلندا منذ يوم ولدت ! "
- " و جواز سفري الذي حصلت في دبلن ! "
- " لم يحدث ! لا يوجد جواز سفر تم استخراجه باسم آن كروسبي أو مسز هنري جونز منذ خمسة عشر عاماً ! "
- " و إقامتي في نيويورك ؟! "
- " هراء يا امرأة ما تخرفين ! لقد أنكرت السفارة الأمريكية واقعة زواجك بمواطن أمريكي و أكدت عدم وجود وثيقة تثبت زواجك الوهمي ! "
- "و هنري أدوالد جونز ؟! "
- " هراء ! وهم في عقلك المريض .. لا يوجد مواطن أمريكي يحمل هذا الاسم إطلاقاً ! "
- " و بيرني و روسليني وقصر أوريديان و ميناء نيويورك و تمثال الحرية ؟! "
- " وهم .. وهم .. وهم ! أنت مجنونة ! "
صرخت آن فجأة و هجمت على العمدة وأنشبت أظافرها في عنقه ومزقت ياقته العالية المنشاة و لكنه تمكن من تخليص نفسه من بين يديها بعد أن كادت تزهق نفسه .. و أمسكت بها النسوة اللائي يقمن برعايتها في محنتها بينما أخذ العمدة يصرخ في وجهها و قد أحمر وجهه غيظاً و غضباً :
- " أنت مجنونة .. مجنونة كأمك ! أمك ماتت في مصح عقلي و ستكونين مثلها .. ستنتهين مثلما انتهت أمك ! "
........................
و لكن نبوءة العمدة لم تتحقق .. فلا آن دخلت إلى مصح عقلي و لا انتهت كما انتهت أمها .. و لكنها أغلقت بابها على نفسها و اعتزلت كل الناس .. و مضت سنون طويلة و هدأت آن واستردت جزء من توازنها النفسي و العقلي و أقنعت نفسها بأن كل ما حدث ليس إلا وهماً وتجربة وحشية من الشيطان اللعين الذي أراد أن يقهرها ..و لكنها قررت أخيراً ؛ لن تدعه يفعل !
و عادت آن كروسبي لحياكة الثياب و صارت تقضي جل وقتها في الكنيسة تتعبد لله طالبة منه ألا يمتحنها ثانية و ألا يضعها في تجربة .. و كرت الأيام و تغيرت قرية آن ومات أغلب من عاصروا مأساتها أو رحلوا أو اختفوا بأي طريقة كانت ..
و حصلت آن كروسبي على مكانة كبيرة في الكنيسة و مكانة أكبر بين المتدينين و المؤمنين ليس في قريتها وحدها بل في أيرلندا بأسرها ..
و نُسيت قصة آن كروسبي و نُسيت هي نفسها بعد أن توفت عن ثلاثة و ثمانين عاماً تاركة وراءها حكاية غريبة و سر يعلم الله وحده حله ..
و لكن ما لم يعلمه أحد أنه في الليلة السابقة لوفاة آن وبينما كانت تحتضر في منزلها الذي عادت إليه ورفضت أن تموت بعيداً عنه و عند منتصف الليل .. دق باب منزل آن ؛ التي قضت هذه الليلة بمفردها و رفضت أن يرافقها أحد من مريديها و أحبائها فيها ؛ فتحاملت المسكينة على نفسها و قامت لتفتح الباب .. وعند الباب كان هناك شكل آدمي متسربل بالظلام و متواري في ركن مظلم علي يسار الباب .. حدقت آن في الظلام محاولة رؤية شكل هذا الواقف في الظلام الدامس و لكنها لم تستطع .. و رحمها هذا المتلفع بالظلام فتقدم إلى بقعة الضوء التي ألقاها المصباح الضئيل فوق الباب .. و تمخض الظلام عن شكل امرأة مغطاة من أعلاها إلى أسفلها بقماش أسود لامع .. و على وجهها حجاب أسود شفاف .. تلاقت العيون في صمت و ارتفعت أنفاس آن من شدة الانفعال و الإثارة .. و بعد وقت طويل أزاحت المرآة المجهولة النقاب من فوق وجهها .. فظهرت ملامحها العجوز الذابلة المغضنة التي لا زالت ؛ برغم ذلك ؛ تحتفظ بظل لجمال ساحق قديم و دلال لا نهاية له .. تفجر شيء في داخل آن و نطقت بصعوبة هاتفة :
- " أنتِ ؟!! "
هذه الجملة التي كانت آخر ما نطقت به آن كروسبي في حياتها العجيبة !
تأليف : منال عبد الحميد
المراجعة والإخراج الفني : كمال غزال
إقرأ يضاً ..
الحقيقه قصه اكثر من رائعه
ردحذفجديده مثيره
فى انتظار المزيد
شكرا ودمتى لنا استاذه منال
ممكن توضحو طبيعة القصة, انا صابني الجنون منها, معقدة كثير,ولا حدث فيها كان حقيقي, وسؤال لو سمحتم: كيف يمكن كتابة قصة بهذا الشكل , اتمنى ان تفيدوني
ردحذفالأخ العصر الذهبي ..ألم تلاحظ أنك في موقع قصص ما وراء الطبيعة وليس في موقع ما وراء الطبيعة ؟! ، هذه قصة خيالية وليست تجربة واقعية ، ألم تقرأ في أسفلها : تأليف منال عبد الحميد . ومن الجيد أنها أثارتك للتفكير في أحداثها. هذه كالأفلام ذات النهاية المفتوحة فاختر التفسير الذي ترجحه لأحداثها. وهي بالفعل قصة مثيرة جداً.
ردحذفانا بعرف انها قصة مش حقيقة, بس في اخرها الكل كذبها بكل اللي قالتو, يعني كانت تحلم اما شو, وليش لما شافت النجمة وتعذيب الخادمة, وبعد ما اجا عمها ما عاد للنجمة ولا لتعذيب الخادمة اثر.... اشي بجنن بجد.
ردحذفقصة اقل ما يقال عنها انها غاية في الروعة
ردحذفمشكورة يا استاذة منال و دمتي لنا بقصصك المدهشة.
ابداع :)
ردحذفالسلام عليكم
ردحذفصراحة يعجز اللسان عن وصف مدى روعة وجمال وابداع هذه القصة
يعطيكي الف الف عافية يا استاذة منال والقصة برأيي تنفع لفلم رعب سنمائي واحداث القصة مرتبطة بالغموض الدرامي المحير اثارة ما بعدها اثارة
سأجن لو حاولت تحديك في قصصك فعلا شخصيه ممتعه ومؤثره ولا ارى من الغريب ان تنتج فلم او يتم طلب للاخراج على مسرحيه في هوليود لنتظر جديدك بكل التحايا احيك
ردحذفقصة جدا جميله ورائعة
ردحذفقصة مثيرة للغاية
ردحذفشكرا جزيلاااا
wooooooooooooooooooow
ردحذفالقصه بجد تحفه
ردحذفبس يا ترى من الذى اتت بنهايتها
هل هى بيرنى
وهل كل ما حدث معها حلم ام حقيقه
حقا احترت /////SA////// مصريه