لم تكن ملامح هذا الطفل مألوفة .. في الحقيقة لم يعرفه أحد من الجيرة أو أهالي المنطقة .. و قد كان يبدو من مظهره أنه طفل متشرد بلا مأوى و لا أهل له .. لم يعره أحد منا أي اهتمام .. و ما شأن أهالي الأحياء الراقية المترفة بطفل متشرد قذر ظهر في حيهم على غير انتظار .. ما شأن أولئك الباردي القلوب به أو بأمثاله ؟!
كان يقف على مبعدة من أي شرفة أو نافذة ملقياً بصره إلى داخل منازلنا و محملقاً في أطفالنا و هم يلهون و يلعبون و يستذكرون دروسهم أو هم يركضون حولنا و يداعبوننا أو يستلقون في أحضاننا .. في هذه اللحظة الأخيرة بالذات كانت تلمح في عينيه نظرة لا وصف لها في كل لغات العالم .. نظرة غامضة حزينة مترعة بحزن أسود غريب و غيرة و رغبة في المثل !
لم أكن أحفل به بالطبع .. إلا عندما التقيت بصديقتي العزيزة مدام (تيتي) وفوجئت بها تفتح موضوع هذا الغلام الغريب المتشرد و تردد في تأفف :
- " لا اعرف كيف يتركون مثل هؤلاء الأولاد المتشردين يتجولون في حينا دون رقيب ؟!"
و أجبتها أنا تواصلاً معها فيما قالته :
- " لا أعرف من أين جاء هذا الولد ؟! لم نرى أطفالاً متشردين في حينا من قبل ! "
- " و الأدهى أنهم لم يقبضوا عليه بعد ! لابد أنه هارب من ملجأ أو إصلاحية .. لقد طلبت من " عاصم " أن يبلغ الأحداث اليوم ليأتوا و يلموه ! "
أنقبض قلبي عندما قالت ذلك و أحسست بالشفقة على هذا الغلام المسكين .. صحيح أن نظراته لأطفالي كانت تخيفني و تقلقني .. و لكني لم أكن أحبذ فكرة إيذائه .. و لكنني كنت متأكدة أن عاصم بيه لا يمكن أن يتأخر عن فعل الشر !
........................
بعد يومين سمعت أن شرطة الأحداث قبضت على الغلام إياه و سحبته من قفاه و قامت بتسليمه إلى أحد الملا جىء .. حزنت على الطريقة التي تخلصنا بها منه و لكن ما أدهشني الفخر الذي بدا على وجه تيتي و هي تنفخ سيجار هافانا في وجهي مباشرة و تقول بسعادة و كأنها فتحت عكا :
- " لولاي أنا و عاصم لظل يجوب الحي ليلاً و نهاراً دون أن يستطيع أحد إيقافه ! "
و لكن بعد يومين تأكدت أن الغلام عاد إلى الحي .. و تأكدت أن ما فعلناه كان أكبر خطأ ارتكبناه في حياتنا و قد كلفنا غالياً !
.....................
في صباح يوم الجمعة الماضي كنت أقدم الإفطار لأطفالي في الساعة التاسعة صباحاً ؛ و طبعاً فهو يوم أجازة و هم يستيقظون وقتما شاءوا ؛ و بينما كنت أقرب اللبن و الزبد من (ميسي) و أجاهد كعادتي مع ممدوح لأقنعه بتناول كوب من اللبن صاحت (ميسي) مشيرة إلى نقطة ما خلفي :
- " أنظري يا ماما "
فألتفت خلفي لأجد الغلام إياه واقفاً وراء نافذة غرفة السفرة محدقاً في الأولاد بنظراته الغامضة المريبة .. تشاءمت من رؤيته هذا الصباح و طلبت من الأولاد أن يديروا وجوههم بعيداً عن النافذة و لا ينظروا إليه .. ظل واقفاً يتطلع إلينا بنظرات حسيرة كسيرة حوالي ربع ساعة ثم أنصرف .. دأب علي ذلك أيام عديدة متوالية .. يأتي كل صباح ليقف أمام إحدى نوافذ البيت و يظل يتطلع إلينا طويلاً ثم يذهب فجأة تاركاً حيرة و تساؤلات لا تنتهي في عقول الأطفال .. خصوصاً ميسي التي لا تكف عن السؤال عن هذا الولد .. من يكون و من أين جاء !
بعد عشرة أيام فتحت الباب صباحاً لأفاجأ بنفس الغلام إياه واقفاً بالقرب من باب منزلنا ينظر نحوي نظرات حزينة يتيمة مزقت قلبي فأشرت إليه بأصابعي فجاء نحوي على الفور .. و مددت له يدي فقبض عليها بلهفة و شوق و أخذته معي إلى الداخل و أدخلته غرفة السفرة و أجلسته إلى المائدة و قدمت إليه كوباً من اللبن و بيضاً مسلوقاً و خبز و جبن و مربى فألتهمهم بشراهة عجيبة دلتني على مدى الجوع الذي كان يعانيه هذا الغلام المسكين .. في الحقيقة لم أكن أتصرف بإرادتي و لكنها كأنها كانت قوة خفية دفعتني إلى هذا التصرف الغريب الذي لم أتصور نفسي أقبل عليه أبداً !
لم نتبادل كلمة واحدة .. فقط ظللت جالسة أمامه و هو يتناول طعامه بشراهة حتى أنتهي .. ثم نهضت من مكاني و صعدت إلى أعلى و أخذت من دولابي مائة جنية من أوراق فئة العشرة جنيهات و وضعتها في كيس صغير .. و هبطت لأجد الغلام المسكين منكمشاً في مقعده الذي أجلسته فيه محدقاً بفزع في وجه زوجي الذي عاد من الخارج أثناء وجودي بأعلى و صُدم لرؤية هذا الصبي المتشرد جالساً إلى السفرة في بيته و كان واقفاً ينظر للولد بشراسة و كأنه يستعد لابتلاعه !
........................
غضب زوجي للغاية من تصرفي الذي أسماه تصرف غير مسئول و أخذ يصيح و يصرخ في وجهي كالمجنون :
- " كيف واتتك الجراءة على إدخال هذا الولد المتشرد إلى بيتك ! ألم تخشى أن يكون سفاحاً ، فيقتلك و يسرق نقودنا ؟!"
فأجبته باستهانة :
- " رويدك يا فتحي .. سفاح أية و لص أية ؟! ما هو إلا غلام دون العاشرة ! "
و هنا تدخل ممدوح في الحوار قائلاً بصوته الرفيع المؤنث :
- " و ربما يكون حاملاً للعدوى .. فأولئك الأطفال المتشردين ممتلئين بالأمراض و الحشرات .. و هناك قمل في رؤوسهم أيضاً ! ".
لم أحتمل المزيد من كلام ابني السخيف فصرخت في وجهه و أمرته بالصعود إلى حجرته فوراً .. أما فتحي فقد أزداد غضبه بسبب صراخي في وجه ولده المدلل فصاح ينهرني و يهددني بكذا و كذا إذا أدخلت هذا الغلام ثانية إلى البيت .. ثم انتثر و ذهب غاضباً و حانقاً .. و رغم حزني و ضيقي من المشكلة التي بدأت الآن بيني و بين زوجي ؛ و التي اعرف بخبرتي معه أنها لن تنتهي قبل شهر على الأقل ؛ إلا أنني كنت سعيدة للغاية لأنني تمكنت قبل أن يقوم فتحي بطرد الصبي المسكين من البيت شر طردة من المنزل من إعطائه النقود !
........................
مر نحو ثلاثة أشهر لم أرى خلالها الغلام مرة أخرى لا أنا و لا أي أحد في الحي .. و أطمأنت كل المدامات تيتي و ميمي و سوسو و شوشو على أطفالهن و تأكدوا من أن الغلام المتشرد قد غار من الحي إلى الأبد و هو ما أسعدهن كثيراً .. و أحزنني و حز في قلبي و قلب ابنتي ميسي التي كانت تشاركني إحساسي بالعطف و الشفقة على هذا الغلام المسكين الوحيد في الدنيا !
و لكن فجأة عاد الغلام للظهور مرة أخرى .. لم أره و لكنني سمعت عاصم بيه زوج تيتي هانم يردد أنه رآه أثناء عودته ليلاً إلى فيلته .. ظهر فجأة أمام مقدمة سيارته فأفزعه و أفلتت عجلة القيادة من يده و كاد يدهسه .. و لكنه فجأة أختفى و لم يعد يراه !
في خلال يومين كان خبر هذا الحادث الغريب قد أنتشر في الحي بأكمله و سمع به الكبير و الصغير بفضل ثرثرة تيتي هانم و لسانها الزلق الذي لا يحتفظ بكلمة !
ثم مرت فترة هدوء غاب خلالها الغلام عن الظهور لمدة أيام .. ثم عاد للظهور مرة ثالثة و تكرر ظهوره في مناطق مختلفة من حينا و رآه الكثيرون يتجول قرب بيوتهم أثناء عودتهم المتأخرة .. و أستنتج فتحي من أحاديث أصدقائه من سكان الحي أن هذا الولد يختفي أثناء النهار و ربما كان يفترش أي كوبري أو أي سيارة واقفة حتى يحل الليل .. ثم يخرج من مخبئه ليتجول في الحي أمناً من رؤية أي أحد له .. و لذلك فقط أطلقت مدام تيتي على هذا الولد بكل سرور الخفاش !
و في هذه الأثناء حدثت حادثة لن أنساها ما حييت .. فقد حُفرت في قلبي بمداد الحزن و الدم !
....................
بعد ثلاثة أيام استيقظنا بعد منتصف الليل بساعتين على صراخ أنثوي رهيب شق سكون الليل و أفزعنا .. هرعت وراء زوجي إلى الشارع و هناك تأكدنا أن الصوت قادم من فيلة مدام تيتي و أسرعنا نحو الفيلا التي اعتقدنا أنها تحترق .. فوجدنا الباب الرئيسي مفتوح و أنوار الاستقبال مضاءة و عندما دلفنا إلى داخل الفيلا وجدنا تيتي بملابس النوم و شعرها منكوش و الماكياج سائح على خلقتها بشكل جعلها أشبه بجمجمة ملونة .. سقط قلبي عند رؤية منظرها المخيف و أسرعت نحوها أسألها عن المصيبة التي حدثت لهم .. فقالت و هي تبكي و تنف على كتفي :
- " ألحقيني يا (صافي) .. ألحقيني .. البروش الزمرد الفرنسي الذي اشتريته من باريس الصيف الماضي أتسرق .. أتسرق يا صافي .. تصدقي ! ".
لم أصدق بالطبع ما قالته صديقتي الحرونة المجنونة فقد سبق و أن أدعت عشرات المرات سرقة قطع من مجوهراتها و لطالما لامت الحي بأكمله واتهمت هذا و ذاك بسرقتها و لكنها بعد دقائق كانت تعث على القطعة المفقودة في الحمام أو على التسريحة أو حتى أسفل دولاب المطبخ !
و هكذا حاولت تهدئتها و أقنعتها بمعاودة البحث عن البروش الزمرد الفرنسي في كل أنحاء البيت مؤكدة لها أنها ستعثر عليه .. وبالفعل هدأت تيتي و جلست محاولة استجماع أفكارها و تذكر أين وضعت البروش آخر مرة .. و جلست بجوارها لمساعدتها في التذكر .. و لكنني وجدتها تهب فجأة من مكانها و تصرخ بأعلى صوتها كالمجنونة مشيرة إلى النافذة و أخذت تصرخ بطريقة أفزعتني :
- " هذا هو اللص ! هذا الولد المتشرد .. لابد أنه هو الذي سرق البروش .. أمسكه يا عاصم ! "
و بالفعل أندفع زوجها من باب الفيلا المفتوح و جرى نحو الحديقة ليقبض على الغلام المسكين .. كان الغلام قد تبخر من أمام نافذة الفيلا و لكننا سمعنا صوت خطوات عاصم بيه السريعة اللاهثة و هو يركض باتجاه النافذة ثم أنقطع صدى خطواته لحظات طويلة .. انتظرنا عودة عاصم طويلاً حتى أصاب القلق تيتي فاندفعت تتفقد زوجها من النافذة .. بينما طلبت أنا من فتحي أن يسرع وراءه إلى الحديقة .. مرت لحظات صمت طويلة مرعبة .. و أخيراً سمعنا صرخة مدوية آتية من الحديقة .. أنقبض قلبي و أحسست أن شيء رهيب قد وقع .. صرخت تيتي فزعاً و أسرعت جارية حافية القدمين نحو الحديقة .. و عندما وصلنا إلى البقعة التي تقع أسفل النافذة وجدنا زوجي فتحي واقف ممتقع الوجه و عند قدميه يتمدد عاصم بيه .. شاحب تماماً و عينيه مفتوحتين على نظرات غريبة خاوية !
....................
كانت صدمة قاسية على تيتي .. وفاة زوجها المفاجئة الصادمة .. لم يتمخض الفحص الطبي عن أي شيء غير عادي .. فالمرحوم توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة و ضغط عصبي شديد ناتج عن تعرضه لموقف شديد الصعوبة !
مرت أيام قاسية على صديقتي الأرملة و زادت حالتها النفسية سوءً يوماً بعد يوم مما اضطرني للبقاء معها حوالي شهر كامل محاولة تسليتها في أحزانها الفظيعة .. و فعلاً بدأت تيتي تهدأ شيئاً فشيئاً ، و في الحقيقة أنها لم تكن حزينة على عاصم زوجها بقدر ما كانت حزينة على نفسها لأنها أصبحت أرملة من أرامل الحي الكثيرات اللائي تعج بهن الفلل و القصور .. و نُسيت حادثة الليلة و طويت في بحر النسيان .. و لكن ليس إلى وقت طويل .. فقد عاد الغلام المتشرد إلى الظهور ثانية !
......................
كنت أنا التي رأيته هذه المرة .. فذات ليلة صيف حارة أصابني القلق و أخذت أتقلب على فراشي غير قادرة على النوم غير راغبة فيه .. و ظللت أتقلب حتى أزعجت نوم فتحي الذي ألتفتت لي بعينين حمراوين مجهدتين و شخط في بغيظ :
- " إذا كنت لا تريدين النوم فاتركي الغرفة و دعيني أنا أنام ! "
و فعلاً انسللت من الفراش و غادرت الغرفة و ذهبت إلى غرفة أولادي لأطمئن عليهم و أتأكد أن ميسي لم تركل الغطاء و توقعه على الأرض مثل كل ليلة .. و في الغرفة وجدت طفلي نائمين في فراشيهما كالملائكة و لكن كما توقعت كانت ميسي بدون غطاء و أحدى ساقيها مرفوعة في الهواء و كأنها تعوم .. أعدت الغطاء فوقها و أحكمت لفها به ثم هممت بمغادرة الغرفة .. عندها رأيت نوراً أزرق خافتاً ينبعث من نقطة ما وراء زجاج النافذة المغلق .. توجهت نحو النافذة و حدقت طويلاً في نقطة الضوء هذه و سرعان ما تبين لي وجه الغلام المتشرد إياه واقفاً على سطح الفيلا المقابلة لنا وسط نور أزرق خافت يحيط به .. أبتسم لي الغلام و لوح لي بيده فأنقبض قلبي و جذبت الستائر فوق النافذة و ابتعدت عنها بسرعة .. ماذا يفعل الغلام فوق سطوح الفيلا في مثل هذا الوقت ؟!
بل أصلاً ماذا أوصله إلى هناك .. هل تكون صديقتي تيتي على حق في شكوكها و يكون هذا الولد مجرد لص ؟!
شعرت بالغثيان عندما خطرت هذه الفكرة على رأسي .. لص و كاذب ؟!
أأكون قد أخطأت في عطفي عليه !
..................
في اليوم التالي استيقظت صباحاً مفزوعة على صوت صراخ أنثوي طويل ممتد أفزعني من رقادي المتقلب .. صحوت فزعة و هرعت نحو نافذة غرفة نومي و من هناك شاهدت مدام حياة ساكنة الفيلا المقابلة لنا واقفة على عتبة فيلتها تصرخ بأعلى صوتها و تلطم خديها و تحيط بها عدد من النسوة يحاولن تهدئتها دون فائدة .. هبطت إلى الدور السفلي و هناك وجدت الباب مفتوحاً و زوجي واقفاً على المدخل في حالة انزعاج كامل .. سألته في قلق عما حدث فأجابني بصوت منفعل متهدج :
- " أحمد ابن السيدة حياة وجدوه في الصباح ميتاً فوق سطوح الفيلا ! "
..................
أنتشر الذعر في جوارحي و بدأت أشعر بشيء غريب في هذا كله .. هذه ثاني مرة يرتبط ظهور هذا الغلام الغريب بحادثة موت فجائية غير مبررة !
طبعاً لم أذكر شيء لأحد عما رأيته في تلك الليلة .. احتفظت بهذا السر لنفسي .. فإن أحداً لن يصدقني و قد أتسبب في إيذاء بالغ لهذا الغلام المسكين الذي لا ذنب له في شيء .. ناهيك عن أن عقلي ما زال يرفض وجود أي علاقة لهذا الولد بهذه الأمور الغريبة !
و لكن ما أفزعني حقاً هو تكرار رؤيتي للولد أكثر من مرة .. و في كل مرة كان يظهر لي من مسافة بعيدة فلا أستطيع محادثته .. كنت أشير إليه بالاقتراب كل مرة و لكنه كان يكتفي بالابتسام و التلويح لي دون أن يدنو مني .. حاولت نسيان هذا الأمر و تجنب رؤية هذا الغلام الذي صرت أخافه بقدر ما أشفق عليه .. حاولت النسيان و التجاهل و لكنه كان يظهر دائماً و في أوقات يصعب التنبؤ بها .. و في كل مرة كنت أراه من مبعدة دون أن نتبادل أي كلمة .. تجاهل وعي الأمر و حاولت أن أنغمس في حياتي المعتادة متناسية قلقي المتنامي من تكرار الظهور الغريب لهذا الغلام .. و لكن كان هناك أمر يشغلني جداً .. من هذا الغلام ؛ و من أين أتي ؛ و لماذا غاب شهوراً طويلة و عاد لحينا مرة أخرى ؛ و هل من المعقول أن يكون مقطوع تماماً فلا أحد ؛ أي أحد ؛ يبحث عنه طيلة هذه المدة الطويلة ؟!
و على فرض أنه يتيم أو لقيط أو نزيل في الأحداث هل يُعقل أن البوليس أو الأحداث أو مسئولي الملجأ يتركونه هكذا دون أو يحاولوا البحث عنه ؟!
خطرت لي فكرة اعتقدت أنها قد تساهم في حل المشكلة .. و عزمت على تنفيذها في صباح الغد دون إبطاء !
.......................
في الصباح أيقظت ابنتي " ميسي " من نومها في هدوء محاولة عدم إزعاج أخيها الذي لا أريده ؛ لا هو و لا والده ؛ أن يعلما بشيء عن خطتي !
استيقظت ميسي عابسة و أخذت تتثاءب و تسألني عما دعاني لإزعاجها في الساعة السادسة صباحاً .. قبضت على ذراعها و قدتها إلي غرفة اللعب و هناك قلت لها :
- "ميسي حبيبتي .. هل تذكرين الولد المتشرد الذي كان يظهر في الحي هنا منذ فترة ؟! ".
فأجابتني بهزة رأس معناها نعم .. فعدت أسألها هل تستطيع تذكر ملامحه جيداً .. فقالت نعم ، و هنا طلبت منها أن ترسم لي صورة واضحة له .. كانت ابنتي بارعة في الرسم ، في الحقيقة كانت رسامة ممتازة تستطيع أن تصنع نموذجاً مدهشاً لأي شيء تقع عليها عيناها .. تعجبت " ميسي " من هذا الطلب الغريب على ريق الصبح .. و لكنها فجأة ابتسمت ابتسامة خاصة و تركتني لحظة ثم عادت تحمل في يدها ظرف ورقي أبيض و أعطتني إياه .. و عندما فتحته وجدت بداخله صورة مرسومة ملونة رائعة للصبي المتشرد .. هذه الشيطانة البارعة عرفت ما يجول في خاطري ، فحملت ريشتها الصغيرة و ألوانها و صنعت نموذجاً صادقاً بالغ الجمال للولد الذي صار جزءً مهماً من عالمي و عالمها !
لم أعرف ماذا أقول لها .. فقط أقبلت على ابنتي الحبيبة و طوقتها بذراعي و طبعت قبلات حانية كثيرة على وجنتيها الجميلتين !
- " لا تخافي يا ميسي .. لن أترك أحد يؤذي هذا الغلام المسكين ".
.....................
في الساعة العاشرة صباحاً توجهت نحو منزل عمتي ليلى و سألت على ابنها حمدي وكان ضابطاً في قسم مكافحة المخدرات و لا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوع الطفل المتشرد .. و لكنه ابن عمتي و أنا أعرفه شهم و نبيل و رجل بحق و لا يتأخر عن أي خدمة أو طلب يطلبه منه أحد طالما كان في إمكانه ، و لو لم يكن في إمكانه حتى و الله فهو لن يتأخر عن مساعدتك .. قدمت له صورة الولد المرسومة و رجوته بإلحاح أن يحاول معرفة أي معلومات عنه .. أبتسم حمدي و سألني عن سبب اهتمامي البالغ بهذا الولد الذي لا أعرف عنه حتى أسمه .. فقلت له :
- " مجرد عطف و شفقة .. يا أخي ألم يعد فينا رجل رشيد !!"
وعدني حمدي بأن يفعل قصارى جهده ليأتيني بكل المعلومات اللازمة عن هذا الولد في خلال يومين لا أكثر .. و كنت على ثقة بأنه سيفي بوعده !
........................
في نفس هذه الليلة شاهدت الغلام واقفاً بالقرب من باب الفيلا .. كانت هذه أول مرة أراه من مسافة قريبة منذ فترة طويلة .. لا أنكر أنني سررت برؤيته جداً .. وكان أخشى أن يراه فتحي أثناء عودته من عمله فعزمت على إدخاله إلى الفيلا و تقديم الطعام له ثم إخفاءه في أبعد مكان عن أنظار زوجي و ولدي حتى الصباح .. ثم تسليمه في الصباح لأبن عمتي حمدي ليعثر له على ملجأ أو دار رعاية مناسبة .. اختمرت هذه الخطة في ذهني في خلال ثلاث ثواني لا أكثر .. فأسرعت نحو الغلام الواقف بالقرب من الباب الخارجي و أمسكت بيده دون كلمة و قدته إلى الداخل ، نحو المطبخ مباشرة و أجلسته إلى مائدة هناك و قدمت له عشاءً ساخناً من اللحم و البفتيك و البطاطس بالفرن و رجوته أن يأكل قدر طاقته .. أبتسم لي الغلام و لكنه لم يمد يده إلى الطعام .. تعجبت كثيراً لذلك و تعجبت أكثر لصمته و عدم تفوهه بأي كلمة .. و في هذه اللحظة سمعت صوت جرس الباب الخارجي فأجفلت و ذعرت .. كان زوجي و ولداي عند جدتهما في الهرم و لم أذهب معهم لئلا تنتهي ليلتي بالنكد كالعادة .. و خشيت أن يكونوا قد عادوا مبكراً ليفسدوا علي خطتي .. أسرعت بإغلاق باب المطبخ على الولد و توجهت نحو الباب و فتحته بحذر فوجدت عمتي ليلى و أبنها حمدي برفقتها .. سررت لرؤيتهما و سررت أكثر لوجود الغلام عندي لأسلمه لـ حمدي بنفسي .. أجلستهما في الصالون و قلت لـ حمدي أنه من حسن الحظ أن الولد الذي حدثته عنه موجود عندي الآن و سأحضره ليراه بنفسه .. علا الذهول وجه حمدي و قال لي باستغراب :
- " عندك ؟! عندك إزاي يعني ؟!".
لم أفهم سر استغرابه و تركتهم لحظة و هرعت نحو المطبخ لأحضر الغلام .. فتحت الباب لأجد المطبخ غارقاً في الظلام و الطعام موضوع على المائدة دون أن يُمس .. أما الولد فلم يكن له أثر هناك !
......................
لا أعرف ما الذي حدث بالضبط .. فقط لاحظت تغيراً كبيراً في أسلوب تعامل عمتي و ولدها حمدي معي .. كانت عمتي تغمرني بنظرات الشك و الإرتياب كلما رأتني و كأنها ترى في شيء ؛ أو تخشى أن ترى في شيء ؛ غريب .. أما حمدي فقد جلس صامتاً طوال جلسته معنا أثناء زيارتهما لنا و عندما سألته عن المعلومات التي جمعها عن هذا الولد قال لي باقتضاب :
- " ليس بعد .. ليس بعد يا صفية ! ".
و صار كلما رأيته بعد ذلك و سألته نفس السؤال يردد بطريقة آلية :
- " انتظري يا صفية .. اصبري قليلاً ! ".
و انتظرت بالفعل .. انتظرت طويلاً .. طويلاً جداً دون أن يبل حمدي ريقي بجملة واحدة مفيدة تكشف لي عن حقيقة هذا الغلام الغريب .. الغلام الذي صار ظهوره المتكرر كابوس حياتي !
...............
و مر عام و عاد الولد للظهور أمام أبواب و نوافذ البيت كل ليلة و دائماً ما كان يمد يده لي .. في البداية ظننت أنه يستجديني أو يطلب طعاماً أو شراباً أو نقوداً مثلما أعتدت أن أعطيه .. و لكنني بعد فترة أيقنت أنه لا يريد استجدائي بل يريد أن يلفت نظري إلى موقع أو جهة ما .. و الغريب أنه كلما أشار إلى موضع أو بيت تحدث فيه ؛ في الصباح التالي ؛ مباشرة كارثة محققة !
صرت أتشاءم من رؤيته و الحق يقال .. كما صار سكان الحي يخشون رؤيته و يجفلون لدى مروره أمامهم ..و في ليلة رأس السنة حدثت الكارثة التي كشفت لي عن حقيقة الغلام الذي سلب عطفي و اهتمامي .. كما سلب اهتمام و كراهية كل سكان الحي العريق الراقي !
.......................
في ليلة رأس السنة أقيمت في الحي عدة حفلات فاخرة دُعي إليها العشرات و العشرات من الجيران و الأقارب و المسئولين الكبار و المشاهير و نجوم السينما .. بالاختصار كانت هذه الحفلات تضم كل الناس الذين قد تحلم برؤيتهم طوال عمرك .. و كانت أكبر هذه الحفلات مقامة في قصر مصطفى علوان باشا ؛ كما يسمونه ؛ و هو أقدم سكان الحي و أكثرهم ثراء و وجاهة ، كما أن قصره هو أكبر قصور الحي و أكثرها عراقة .. و قد دُعيت أنا و زوجي و أولادي لهذا الحفل ، فاغتبطت لذلك .. و ارتديت ؛ أنا و زوجي و ولدي ممدوح ؛ أحسن و أفخر ما لدينا من ملابس و اقترضت قطعة مجوهرات ضخمة من خالتي شويكار ؛ يقال أنها مهربة من ممتلكات أسرة محمد علي .. أما ميسي فقد رفضت الذهاب للحفل و أصرت على البقاء في الفيلا بمفردها مع الدادة و لم أفهم السبب .. و لكنني الآن ؛ الآن فقط و بعد فوات الأوان ؛ فهمت كل شيء كان يحدث حولي منذ أشهر طويلة مليئة بالقلق و العذاب و الألم !
فرقعت آلاف الألعاب النارية حول و داخل أسوار القصر و انطلقت الآلات النحاسية الضخمة تعزف مارشالات عسكرية إنجليزية عتيقة إيذاناً بقدوم الباشا و زوجته .. و دخل زوج الطواويس فارهي الريش ، و كانت مدام علوان ترتدي فستاناً أبيض لامع و تتحلى بكمية من المجوهرات و قطع الألماس تكفي لفتح صاغة كاملة .. و كان الزوجان يسيران وسط المدعوين بخيلاء و زهو غريب و كأنهما اكتشفا فجأة أنهما بشريان في كوكب من القرود .. و كان علوان باشا يحيي الحضور و الضيوف بهزة رأس لا أكثر ، بينما لم تتعطف المدام حتى بهذه الهزة و استكثرتها علينا .. المهم فقد جلسا في الوسط و بدأ الحفل باستعراض قدمته راقصات روسيات نحيلات لا يرتدين أكثر مما خلعن تصاحبهن موسيقى غجرية تصم الآذان .. استمرت فقرات الحفل أكثر من ثلاث ساعات كاد الملل يقتلني أثناءها و لكن في الساعة الثانية صباحاً رأيت ظلاً خافتاً فوق سطح الفيلا .. في البداية تخيلت أنني أتوهم ذلك بسبب تأثير الإضاءة الفاقعة حول و داخل القصر .. و لكنني عندما دققت النظر أكثر و أكثر تيقنت أنني أرى ظلاً خافتاً يتمشى فوق سطح الفيلا وسط الأنوار الزاعقة .. حدقت طويلاً حتى كادت عيناي تخرجان من رأسي و لكنني كنت مصرة على التأكد مما أراه .. حينما بدأ الظل يتوغل نحو الداخل و بدأ يبتعد عن عيني وقفت في مكاني و شببت على أطراف قدمي محاولة متابعة هذا الظل لأقصى مدى ممكن .. أنتبه زوجي لوقوفي المفاجئ فدهش لذلك و أخذ يجذبني من كم الفستان بهوادة محاولاً عد لفت انتباه الضيوف الآخرين .. و كانت جذباته تزداد كلما ازدادت حركاتي و طالت المسافة بيني و بين منضدتنا .. في هذه اللحظة حانت مني نظرة عابرة إلى مدام علوان فوجدتها تركز نظراتها مثلي على سطوح الفيلا .. ثم فجأة خفضت عينيها و حدجتني بنظرة لن أنساها ما حييت !
و في لحظة واحدة فهمت كل شيء .. كل شيء !
أحسست برعشة غريبة تسري في كياني و انطلقت حمى مجنونة لتعربد في عروقي .. و دون تفكير انطلقت نحو علوان باشا في الوسط وأمسكته من رقبته و أخذت أصيح كالمجنونة :
- " أمسكوه .. أمسكوه .. المجرم القاتل .. لقد قتل الولد .. قتل الولد المسكين !".
هب جميع الحضور و الضيوف و على رأسهم زوجي يحاولون إبعادي عن الرجل الذي أصفر لونه و أنتفخ وجهه و حاول بلا فائدة أن يخلص نفسه من يدي .. و في النهاية تمكن زوجي من انتزاع ذراعي من حول رقبة علوان باشا ثم ألقاني على مقعد و اندفع يعتذر لـ مصطفى علوان و زوجته مردداً أنني مجنونة و مصابة بالهستيريا و أهذي دائماً و أتخيل أشياء لا وجود لها !
أخذ زوجي يردد هذه السخافات بينما صفعته زوجة علوان بعبارة قاسية .. فقالت له بلهجة أرستقراطية متعالية :
- " اللي عنده زوجة مجنونة يغلق عليها الباب بالمفتاح و لا يحضرها معه إلى حفلات الأكابر ! "
و سحبني زوجي معه بعنف و هو يذوب خجلاً و ظل يدفعني و يدفعني حتى وصلنا إلى بيتنا و هناك كاد ينهال علي ضرباً لولا أن يد رقيقة شاحبة برزت من الظلام وقبضت على يده في قسوة بالغة .. ثم رأيت في الظلام الرقيق وجه زوجي يشحب بصورة مخيفة و فجأة .. هوى عند قدمي .. هوى فاقد الرشد .. و الحياة كذلك !
و بعدها عرفت من الذي قتل الولد المسكين بالفعل !
.................
استغرقت التحقيقات أياماً قليلة تكشفت بعدها كل الحقائق .. زوجي العزيز و هو عائد في تلك الليلة المشئومة التي دعي فيها المرحوم عاصم بيه أنه رآه أثناء عودته الليلية و كاد يدهسه بسيارته .. و فعلاً لقد رآه أثناء عودته ليلاً و لكنه لم يكد يدهسه .. لأنه دهسه بالفعل .. فرمته عجلات السيارة أمام باب الفيلا .. كما أنه لم يكن بمفرده حينما وقع هذا الحادث .. بل كان معه زوجي في السيارة .. و هو زوجي العزيز الذي لا تجوز عليه إلا الرحمة ؛ هو من أشار عليه بإلقاء جثة الولد المتشرد في أي خربة تعج بالكلاب المتوحشة لتأكل جيفته و لا يتبقى أي أثر يدل عليه !
و لكن ما لم يعرفه زوجي و لا عاصم بيه و لا مصطفى علوان الذي ساعدهما بسلطته و نفوذه على الإفلات من هذه الفعلة الشنيعة .. ما لم يعرفونه جميعاً أن الولد أُلقي للكلاب المتوحشة و هو ما زال على قيد الحياة !!
..................
تركت الفيلا المشئومة و اصطحبت معي أولادي إلى شقة في الزيتون في نفس العمارة التي تسكنها عمتي ليلى و أبنها حمدي .. الذي كان له الفضل في الكشف عن الحقيقة .. كل الحقيقة !
حزن ممدوح لمفارقة الفيلا الفخمة .. أما أنا و ابنتي فقد كنا سعداء بترك الحي الراقي البارد .. أما روح الغلام الطيب فلن نحزن لفراقها .. لأننا كنا واثقين أنها سترافقنا إلى أي مكان نذهب إليه .. و إلى الأبد !!
تأليف : منال عبد الحميد
المراجعة الإخراج الفني : كمال غزال
إقرأ أيضاً ... - أصوات غامضة تكشف قاتلي الضحايا
- صوت أرشد صائدي الأشباح إلى بقايا عظام
- فيلم Fragile
بصراحه يا استاذه منال
ردحذفملهااااااااااااااااااااش جل
قصه جميله وممتعه جدا
فى انتظار المزيد
قصة رائعة ومشووووقة
ردحذفألف تحية للكاتبة :)
قصة رائعة بكل معنى الكلمة...سلمت يداك
ردحذفقاربت على الانتهاء من قراءة القصص
بانتظار الجديد بفارغ الصبر
(مدمنة ماوراء الطبيعة)
قصة جميلة جدااا
ردحذففي انتظار المزيد من ابداعاتكـ
Dr sara
القصة رائعة
ردحذفقصة مممتعة جداااااااا
ردحذفشكرا :)
very very coool
ردحذفقصة مشوقة تحبس الانفاس في انتظار المزيد على احر من الجمر
ردحذف