في عام 2024 ظهر على الساحة السينمائية فيلم غامض حمل عنوان Mr. K ليقدم تجربة بصرية وسردية خارج المألوف، تمزج بين الواقعية العبثية والفانتازيا الذهنية ، الفيلم إنتاج أوروبي مشترك بين هولندا وألمانيا وبلجيكا، لكنه صُوّر باللغة الإنجليزية، ما جعله يقترب من الجمهور الدولي دون أن يفقد طابعه الأوروبي الغرائبي.
يبدأ الفيلم على نحوٍ بسيط: السيد K، ساحر عروض ألعاب خفة متنقل يعيش حياة هامشية، يصل إلى فندقٍ كبير في ضواحي مدينة أوروبية لقضاء ليلة واحدة قبل أن يتوجه إلى عرضٍ جديد. لكن ما يبدو في البداية إقامة عادية يتحول تدريجياً إلى كابوس وجودي.
منذ دخوله الغرفة، تبدأ علامات الغرابة بالظهور:
الأبواب تغير أماكنها، الممرات تتضاعف، النوافذ لا تُفتح على الخارج، والزمن يبدو عالقاً في حلقة لا تنتهي. كلما حاول السيد ك أن يخرج من الفندق، يجد نفسه يعود إلى نقطة البداية. النزلاء غريبو الأطوار، والموظفون يتصرفون وكأنهم جزء من طقسٍ دائم لا بداية له ولا نهاية.
تتحول الليلة الواحدة إلى إقامة قسرية بلا مهرب، فيما المكان يضيق وينكمش حرفياً كما لو أن جدرانه تبتلع الداخلين. لا وجود لشرحٍ منطقي لما يحدث، بل فقط إحساس متزايد بالاختناق والضياع، كأن الفندق كائن حيّ يُعيد تشكيل نفسه ليحتجز زواره في متاهته الخاصة.
كافكا والفندق الكابوسي
يُقال إن عملاً ما «كافكاوي» حين يتجلى فيه تأثير الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883–1924)، صاحب الروايات الرمزية مثل المحاكمة والقلعة، حيث يعيش الإنسان العادي في عالمٍ يحكمه نظام غامض، غير عادل، وغير مفهوم ، في هذا العالم تتلاشى القوانين العقلانية، ويُترك الفرد في مواجهة عبث لا يمكن تفسيره أو الهروب منه.
تجلي الروح الكافكاوية في Mr. K الفيلم يقدم نسخة حديثة من هذا الكابوس الكافكاوي:
- شخصية معزولة: السيد K رجل بسيط، يجد نفسه في مواجهة سلطة المكان الذي لا يفسر شيئاً.
- نظام عبثي: الفندق يتصرف كما لو كان بيروقراطية ميتافيزيقية، تضع قواعد لا تُفهم ولا تُكسر.
- فقدان السيطرة: كل محاولة للفهم تُفضي إلى مزيد من الفوضى.
- تكرار بلا منطق: الأبواب والممرات تعيد إنتاج نفسها، والزمان يبدو حلقة مغلقة.
في إحدى المقابلات، أكدت المخرجة شواب أن الاسم «K» ليس صدفة، بل إشارة واعية إلى عالم كافكا، قائلة: “الصلة مع كافكا واضحة منذ الاسم وحتى الرموز البصرية… الفندق في الفيلم هو قلعة كافكا الجديدة.”
وهكذا يصبح الفندق رمزاً للحياة الحديثة، وللأنظمة التي تُربك الإنسان وتسلبه المعنى، تماماً كما جعل كافكا من القلعة والمحاكمة رمزين للعالم الذي يُحاكم الإنسان دون أن يعرّف له جريمته.
التشويش المكاني: حين يفقد المكان منطقه
يُعتبر فندق Mr. K أكثر من مجرد موقع للأحداث؛ إنه شخصية بحد ذاته، تنبض وتتقلص وتعيد ترتيب ممراتها، لتخلق نوعاً من «التشويش أو الخلط المكاني» (Spatial Disorientation) ، فكرة المكان الذي يرفض الثبات ليست جديدة في السينما، لكنها هنا تأخذ بُعداً نفسياً وفلسفياً:
- المكان كمرايا للعقل: يتغير الفندق بقدر ما ينهار وعي السيد K.
- انهيار البوصلة: لا يستطيع تحديد موقعه أو اتجاهه، كما لا يستطيع فهم القوانين التي تحكم العالم.
- تلاشي الخارج: لا يوجد “خارج” واضح؛ كل باب يفتح على داخلٍ آخر، كما لو أن العالم بأسره طيٌّ واحد متكرر.
يحول هذا التشويش المشاهد إلى شريكٍ في تجربة البطل، إذ يشعر هو أيضاً بفقدان المعالم والإحساس بالزمن. وكأن الفيلم يقول: الواقع الذي نعيش فيه قد يكون فندقاً آخر من فصول هذا الحلم العبثي.
البنية البصرية والمناخ النفسي
الفيلم يعتمد على لغة الصورة أكثر من الحوار ، الألوان باهتة، الضوء خافت، والممرات الطويلة تذكر بلوحات السريالية. تتكرر لقطات المرايا والممرات في رمزية إلى تكرار الذات داخل دوائر مغلقة ، الموسيقى التصويرية تراوح بين الهسيس والهمهمة، لتخلق حالة قلقٍ مستمر تشبه الكوابيس التي لا تصحو منها.
في بعض المشاهد، نرى الفندق يتقلص فعلاً، كما لو كان يبتلع أجنحته بنفسه : صورة بصرية تعكس انكماش العقل على ذاته عندما يفقد المعنى.
فيلم السيد ك (Mr. K) ليس عملاً للمتعة السريعة، بل تجربة تأملية تجمع بين الغرائبية والكابوس والعزلة الوجودية. إنه يذكرنا بأدب فرانز كافكا في تجسيد الإنسان المحاصر في نظامٍ لا منطق له، وبالسينما الأوروبية التي تبحث في هشاشة الواقع والعقل.
الفندق الذي يتقلص في الفيلم ليس مجرد بناء، بل استعارة عن العالم الذي يتآكل من الداخل ، عالم نعرفه جيداً، لكنه في لحظة ما قد يغدو مثل فندق السيد K: مألوف المظهر، غريب الجوهر، بلا باب يفتح على الخلاص.
معلومات عن الفيلم
كتابة : تالولاه هازيكامب شواب
تمثيل : كريسبن غلوفر - سوني ميليس - بيورن سندكويست
سنة الإنتاج : 2024
شاهد برومو الفيلم
نبذة عن كمال غزال
باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .