في قرية نائية على أطراف غابات الأمازون، حيث يختلط صوت الطيور مع خرير النهر، استيقظ الأهالي مع أول خيوط الفجر على قرع الطبول الخافت ، كان هذا اليوم مميزاً، إذ جرت العادة أن يجتمع سكان القرية في الساحة الرئيسية كل عام في مثل هذا الموعد لإقامة طقسٍ قديم يُطلق عليه "صلاة النهر"، وهو احتفال يتوسلون فيه لروح النهر أن يجود عليهم بالسمك ويجنبهم فيضاناته المدمرة.
في ذلك الصباح، توافد الرجال والنساء والأطفال، يحملون القرابين من الفاكهة والأسماك المجففة. ارتسمت على وجوههم رهبة صامتة، إذ كان الضباب كثيفاً على غير المعتاد، يزحف بين الأشجار حتى بدا كأنه كائن حي يتنفس حولهم.
جلس الشيوخ في دائرة وسط الساحة، يتلون أناشيدهم القديمة، بينما وقف البقية في صمت يترقبون بدء الطقوس.
لكن قبل أن تبدأ المراسم، انشق الضباب كستارة مسرح، وظهر رجل غريب يمشي بخطوات ثابتة.
كان في الثلاثينيات من عمره، يرتدي ثوباً أبيض ناصعاً يلتصق بجسده كأنه قطعة من الضوء، وبيده عصا خشبية ملساء.
ملامحه برازيلية أصيلة، عيناه داكنتان لكن فيهما وميض خافت يشبه برقاً بعيداً في سماء مظلمة.
وقف وسط الدائرة، وصوته هادئ لكنه يحمل قوة غريبة، قائلاً: " ابتعدوا عن النهر الليلة... فالماء سيبتلع كل شيء."
ساد صمت ثقيل. لم يجرؤ أحد على سؤاله من هو أو كيف عرف ذلك، فقد كان حضوره وحده كافياً لبث الخوف في القلوب.
بين الحشود، كانت روزا، فتاة في العشرينات، تحدق فيه بعينين متسعتين، تشعر بشيء داخلي يخبرها أن ما يقوله حقيقي.
في تلك الليلة، وبينما استعد بعض الشباب لطقس الصيد الليلي قرب الضفة، انهار جزء من الأرض فجأة، جارفاً الأكواخ القريبة في دوامة مرعبة.
وعندما عاد الناس في الصباح ليشكروا الغريب، لم يجدوا له أثراً، كأنه تبخر مع الضباب، لكنهم وجدوا عصاه مغروسة في التراب، رأسها مائل يشير إلى الشمال، وكأنها علامة أو رسالة لم يفهموها بعد.
في البداية، ظنوا أنها مجرد صدفة أو طقس غريب من طقوس الغرباء، لكن بعد أسابيع قليلة وصل مسافر مرهق، يحمل أنباء مروعة:
قرية تقع شمال قريتهم اجتاحها وباء غامض لم يُرَ مثله من قبل.
كان الطفيلي يتسلل إلى أجساد الناس مثل ظل، فيفتك بهم خلال أيام معدودة.
روى المسافر كيف أن القرية الشمالية تحولت إلى مكان مهجور، لا يُسمع فيه سوى صرخات المحتضرين، وأن عشرات الجثث دفنت في حفر جماعية خوفاً من تفشي المرض.
حينها، أدرك الشيوخ أن اتجاه العصا لم يكن اعتباطياً، بل كان تحذيراً خفياً.
لقد أنذرهم الرجل من خطر النهر، ثم ترك إشارة عن كارثة أخرى تقع خلف حدود معرفتهم، وكأن رؤيته لا تقتصر على مكان أو زمن واحد.
***
مرت ثلاثون عاماً، تغيّرت القرية وتغيّرت الأجيال، لكن روزا، التي صارت امرأة في الخمسين، لم تنسَ تلك الليلة.
في مساء عاصف، عاد الضباب يزحف على الطرقات، كثيفاً حتى بدا ككائن حي يتنفس.
سمعت روزا وقع خطوات بطيئة خارج كوخها، فخرجت مسرعة. وهناك، وسط الظلال، رأت الرجل ذاته... لم يتغير منه شيء، بينما هي تجاعيد وجهها تحكي قصة عمر بأكمله.
اقترب منها ونطق بصوت منخفض: " العاصفة هذه المرة ليست من السماء... بل من قلوب البشر." ثم اختفى كأنه لم يكن.
في اليوم التالي، اندلع صراع دموي بين عشيرتين في القرية، سالت فيه الدماء كما لو كانت نبوءته قد أطلقت الشر الكامن في النفوس.
حينها أيقنت روزا أنه ليس بشراً عادياً، بل كائن يعبر الأزمنة، يحذر، ثم يختفي قبل أن يلتهم الخراب كل شيء.
***
بدأت روزا رحلة بحث عن سر هذا الرجل.
ذهبت إلى القرى المجاورة، تنبش الأساطير القديمة، حتى وجدت مخطوطاً من عام 1780 يتحدث عن "رجل أبيض الثوب" أنقذ صيادين من انهيار أرضي.
وفي حكاية أخرى، ظهر منتصف القرن التاسع عشر لينذر مدينة ساحلية قبل إعصار مدمر.
في كل مرة، يظهر بنفس الهيئة، دون أن يشيخ، كأن الزمن لا يمسه.
ذهبت إلى شيخ عجوز عرفته القرى جميعاً، وحين سألته، أجابها بنبرة غامضة: " اسمه ليس مهماً... لكن البعض يسمونه الحارس".
يُقال إنه يعيش بين طبقات الزمن، لا ينتمي إلى الماضي ولا إلى الحاضر، ويظهر فقط حين تكون خطايا البشر أعظم من احتمال الأرض لها."
***
مع اقتراب نهاية القرن، اجتاحت المنطقة حرائق هائلة، التهمت الغابات وحاصرت القرى.
وسط ألسنة اللهب والدخان، ظهر الرجل مجدداً، لكن هذه المرة بدا منهكاً، في عينيه حزن عميق كأنه يحمل أثقال قرون من الألم.
اقتربت منه روزا، التي صارت عجوزاً هزيلة، وهمست بصوت مرتجف: " من أنت ؟ ولماذا تفعل هذا ؟"
ابتسم ابتسامة حزينة وقال: " أنا مجرد عابر... أحمل ذكريات عصور لا يتسع لها قلب واحد. مهمتي ليست أن أغير مصير البشر، بل أن أترك لهم فرصة اختيار النجاة."
ثم استدار ببطء وسار نحو الضباب المتكاثف، حتى ابتلعه تماماً.
ركضت روزا خلفه، لكن ما إن وصلت إلى المكان حتى وجدت عصاه مغروسة في الأرض، وحولها انتشرت تشققات غريبة تشبه رموزاً قديمة، كأنها ختم على نهاية رحلة.
***
بعد سنوات، ماتت روزا، لكن قصتها صارت حكاية شعبية تتناقلها الأجيال.
قيل إن الرجل الخالد يزور القرى لينذرها ثم يختفي، وإن ظهوره علامة على اقتراب كارثة.
غير أن الشهادات الحديثة حملت رعباً أكبر.
فقد قال بعضهم إنهم رأوه في مدن حديثة، واقفاً في الظل بين ناطحات السحاب، بنفس ثوبه الأبيض، وعينيه اللامعتين، يراقب بصمت كمن يبحث عن من يصغي إليه.
ربما لم تنته قصته بعد، وربما ما زال يعبر بين الأزمنة، يبحث عن القلوب التي تستطيع فهم تحذيراته قبل أن يبتلع الخراب العالم كله.
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .