في شتاء 1973، قصد نديم جبال صعدة الواقعة شمال اليمن مع زوجته التي اقترن بها حديثاً ، دعاه والدها إلى قضاء عطلة قصيرة في بيته الريفي هناك؛ بيت قديم يستخدمه متنزّهاً صيفياً للراحة من عناء العمل وضجيج مدينة صعدة.
ومنذ الليلة الأولى، شعر نديم باختناق مباغت، كأن هواء الجبل مثقل بأرواح لم تهدأ؛ قلبه يطرق صدره بعنف، وإحساس غامض يطوقه بأن العتمة لا تكتفي بمراقبته… بل تعرفه.
***
في الصباح، وبينما يغسل وجهه عند حوض المطبخ، اجتاحه غثيان مفاجئ انتهى بتقيؤ حاد ، الغريب أن المشهد تكرر في اليوم التالي، وفي نفس الساعة والمكان.
كأن جسده يُرغم على المشاركة في طقس غير مفهوم، طقس تمليه الأرض ذاتها.
في المساء، جلس حماه يروي لهم قصصاً عن البيت: خطوات تتنقل على الدرج ليلاً، ظلال ضخمة تعبر بين الأشجار، هاتف منزلي ميت يرن فجأة ، لكن أكثر ما أوجس نديم خوفاً، كان حديثه عن وجهٍ يظهر أحياناً في جذع شجرة قديمة تقف على طرف أرضه.
***
وفي الصباح قادتهم خطاهم إلى الشجرة العتيقة، باسقةً في صمتٍ مهيب، جذورها متوغلة في باطن الجبل كأنها تتشبث بذاكرة الأرض، وجذعها العريض متشقّق كجلدٍ حمل ندوب القرون. طال بحثهم عن الوجه المزعوم، فلم يعثروا إلا على خطوط متشابكة في اللحاء تشبه كتابات غامضة بلا معنى. تنفّس نديم الصعداء بشيء من الاطمئنان، بينما ارتسمت على وجه حماه خيبة جلية. غير أن صورة الجذع، بما يختزنه من سرّ، لم تغادر ذهن نديم لحظة واحدة.
***
في صباح الرحيل، عند التاسعة تماماً، وبينما كان يضع حقائبه في السيارة، رفع رأسه نحو الشجرة ، عندها تجمّد في مكانه ، كان الوجه هناك !
امرأة تحدق بعينين مطفأتين، محبوسة في قلب الخشب ، التقط نديم صوراً مرتجف اليدين بينما زوجته ردت ببرود: "مجرد خداع بصري" ، لكنه أحس أنها كانت تنظر إليه وحده.
عاد نديم إلى مدينته، لكنه لم يعد إلى حياته ، كان الغثيان يهاجمه كلما تذكّر الجبل، كأن جسده لم يخرج من هناك.
وفي ليلة رأى في المنام أنه أمام الشجرة ذاتها ، هذه المرة تحرك الوجه، انفرجت شفتا المرأة كأنها تنطق بكلمة، لكن ما خرج كان صرخة مطمورة في اللحاء ، ولما مد يده ليلمسها اجتاحه الغثيان ذاته، استيقظ وهو يتصبب عرقاً، متيقناً أنه لا يعيش أحلاماً بل يُستدعى.
***
دفعه الفضول إلى البحث في تاريخ المنطقة، فاكتشف أن الأرض التي شُيّد عليها البيت لم تكن عادية؛ لقد كانت مسرحاً لصراعات قبلية قديمة، سُفكت فوق ترابها دماء لا تُحصى في حروب نُسيت أخبارها وبقي أثرها في الصخر والجذور. تحت تلك التربة دُفنت نساء وأطفال بلا شواهد، غابت أسماؤهم لكن صرخاتهم ظلت عالقة في ذاكرة المكان. عندها بدأ يقتنع أن الوجه الذي رآه لم يكن صدفة، بل صورة متحجرة من ذاكرة جماعية ما زالت حبيسة في الجذع.
***
بعد أشهر، لم يستطع تجاهل النداء الذي ينخر في أعماق، قرر العودة، هذه المرة بمفرده، خرج إلى الشجرة ، وقف أمامها طويلاً، ثم وضع كفيه على جذعها وأحاطه بذراعيه ، فجأة شعر بحرارة تتدفق إلى جسده، كأن النبض يتسرب من الخشب إلى عروقه، انفتحت أمامه ذاكرة الأرض: دموع، صرخات، وجوه غابت في الظلام، لم يقل أحد له ما رآه، لكنه عرف، ومعرفته هذه منحته سلاماً غريباً.
لكن في لحظة الصمت التالية، بدأت الأغصان تنحني نحوه ببطء، أوراقها لامست كتفيه ثم التفّت حوله كأذرعٍ تحتضنه ، في تلك اللحظة دوّى صوته الداخلي بالرهبة، غير أن ما اخترق السكون كان نداء زوجته التي لحقت به قلقة، ينكسر صوتها باسمه وهي تركض نحوه ، وحين وصلت لم تجد سوى الشجرة ساكنة في صمتها، أما نديم… فقد اختفى كأنه لم يكن.
بقيت الشجرة ساكنة في مكانها، جذعها يتلألأ بوميض غامض في ليل الضباب. ومن يجرؤ على لمسها قد يسمع همساً يخرج من عمق اللحاء: "لقد دعوتني… وأنا هنا."
تمت
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .