14 أغسطس 2025

معروض للبيع مع "طابع خاص"

منزل مسكون معروض للبيع
تأليف : كمال غزال
حين لمح لطفي إعلان المنزل على الإنترنت، شعر وكأنه اصطاد كنزاً نادراً: بيت واسع من طابقين، تحرسه حديقة أمامية صغيرة، وسعره أقل بكثير من أي عرض في السوق. 

لم يتردد لحظة، قفز إلى سيارته وانطلق مسرعاً نحو ضواحي مدينة مارتينزفيل في ولاية فيرجينيا الأمريكية ليراه بنفسه.

استقبله البائع هناك، رجل مسن بعينين تلمعان وكأنهما تخفيان سراً، وقال بابتسامة غامضة:

" البيت… له طابع خاص، ستعتاد عليه."

لم يُكثر لطفي من الأسئلة، بل وقّع العقد فوراً وهو يظن أنه عقد صفقة العمر. 

لكن مع حلول أول ليلة، بدأ "الطابع الخاص" يكشف عن نفسه

عند الثالثة فجراً، سمع خطوات هادئة تصعد الدرج، تلتها خشخشة كرسي يُسحب في المطبخ ، نزل بحذر… لم يكن هناك أحد، سوى فنجان قهوته الذي تركه فارغاً وقد امتلأ من جديد !

حاول لطفي تناسي الأمر .

***


ومع مرور الليالي القادمة لم يعد لطفي يهنأ بنوم المريح؛ فكلما غطّ في سباته، هاجمته دغدغة مشبوهة عند أرنبة أنفه، وكأن ريشة مدللة قررت إقامة حفل راقص فوق وجهه. يستيقظ مفزوعاً، يتلفّت حوله فلا يجد إلا الصمت… ثم يحاول العودة للنوم، لتعود الريشة المزعومة في جولة ثانية وثالثة، حتى صار ينام على فترات قصيرة، وكأنه عالق في برنامج مقالب ليلي لا أحد يشاهده سواه ، والمسكين كان يحتاج نوماً عميقاً، ليذهب إلى عمله في الصباح.

عندئذ قرر أن يجد حلاً، فتذكر ما قالته له إحدى الجدات في الحي عن أن الأرواح تنفر من الملح ، فاشترى كيساً كبيراً من الملح وبدأ يرش دائرة حول سريره كل ليلة، وكأنه يقوم بطقس سحري قديم ، كان ينام وهو مطمئن أن الشبح لن يجرؤ على إيقاظه.

وفي إحدى الليالي، وجد الشبح واقفاً عند حافة الدائرة يعبس قائلاً:

" هل أنت جاد ؟  ...هل تعتقد أنني حلزون  ؟! "

***


بدأ لطفي يلاحظ أن الشبح ليس مؤذياً، لكنه… مزعج جداً.

في الصباح، يجد كل صورته العائلية المعلقة على الحائط مائلة بزاوية وكأن أحداً "رتبها" بأسلوبه الخاص.

في الليل، ينطفئ التلفاز فجأة كلما حاول لطفي مشاهدة مسلسله المفضل ، وكأنه يقول له: "هذا سخيف ! "

مرة، كتب له على المرآة بالبخار: " غير نوع معجون الأسنان… رائحته مقرفة"

لطفي ، الذي كان بطبعه يميل للسخرية، قرر التكيف.

كان الشبح مهووساً بإغلاق الأبواب بإحكام، حتى أبواب الخزائن.

فصار لطفي قبل النوم يترك باب الثلاجة مفتوحاً عمداً، وهو يبتسم قائلاً في سره:

" لن يتحمّل هذا المنظر طويلاً…"

وما هي إلا لحظات ويسمع صوت إغلاق باب الثلاجة ، وكأن الشبح قام بواجبه الليلي المعتاد.

وإذا انكسر شيء في المطبخ، كان لطفي ينادي: " أرجوك، هذه المرة من راتبك ! "


***


في إحدى الليالي، قرر لطفي أن يواجه المجهول: جلس على الأريكة ونادى بصوت عال:

"حسناً أيها الشبح، ما اسمك ؟  ولماذا أنت عالق هنا  ؟ْ "

فظهر ظل باهت على الجدار 

الشبح :  " اسمي… في الواقع لا أذكره...لكنني  كنت أعيش هنا، ثم… لم أغادر."

لطفي:  " يعني ماذا ؟ ألم تجد مخرجاً ؟ "

الشبح :  " لا، وجدته، هنا..."

ضحك لطفي، ثم سأله: " ولماذا لا تذهب إلى حيث تنتمي ؟ "
الشبح :  " ومن قال إنني لا أنتمي هنا ؟ "


***


مع مرور الوقت، بدأ الشبح يفرض قوانينه :

كلما أشعل لطفي سيجارة، وجدها تنطفئ فجأة وكأن هواء بارداً مرّ عليها.

كان من عادة لطفي أن يتناول عشاء يتكون من معكرونة بعد العاشرة ليلاً لكنه بات يجد الصحن فارغاً في غمضة عين وكأنه ارتكب مخالفة.

كل صباح أحد، يستيقظ لطفي ليجد جهاز الراديو قد انطلق وحده، يعزف بصوت عال أغاني إلفيس بريسلي وكأن الشبح يحيي حفلة خاصة به.

حاول لطفي الاعتراض، لكن الشبح يهمس له:

" يا فتى، أنا هنا قبل أن تولد…"


***


في إحدى الأمسيات، أتى لزيارته صديق قديم وبينما كانا يتحدثان على مائدة القهوة، قرر لطفي أن يبوح له بسر البيت:

" بالمناسبة… أنا أعيش مع شبح...وأعتقد أنه الآن يعبث في الطابق العلوي"

امتلأ الضيف حماساً، فقد ظن أنه على وشك أن يثبت أن الظواهر الخارقة ما هي إلا خدع، فتوجه إلى أسفل السلم وصرخ متحدياً:

"هيا ! ...هل هذا كل ما لديك أيها الشبح التافه ؟ ..أرِنا شيئاً حقيقياً !"

حاول لطفي تحذيره قائلاً:

"لو كنت مكانك، لما فعلت ذلك…"

لكن الضيف تجاهل التحذير، وواصل صراخه وهو يصعد أول درجة من السلم:

"إن كنت حقاً شبحاً، فأرِنا قدراتك يا مهرج عديم الفائدة !"

وما إن أنهى جملته الأخيرة… حتى سقط سرواله فجأة حتى كاحليه !

انفجر لطفي ضحكاً، بينما وقف صديقه مذهولاً، يحاول بكل ذعر أن يرفع سرواله، ثم اندفع هارباً من الباب الأمامي بأقصى سرعة، رافضاً العودة إلى الداخل أو الحديث عن الحادثة مرة أخرى.

شيئاً فشيئاً، صار ضيوف لطفي يجدون أعذاراً واهية لعدم الحضور، خاصة بعد أن رأى أحدهم باب الغرفة يُصفق بقوة من تلقاء نفسه وكأن يداً خفية أغلقته بعصبية.


***


بعد أربعة أشهر، بدأ لطفي يشعر أنه يعيش مع زميل سكن مزعج لا يدفع الإيجار. 

قال في نفسه :

" خلاص، سأبيع البيت، وليتعامل المالك الجديد مع هذه المسرحية."

كتب إعلاناً مغرياً على الإنترنت، متجنباً تماماً أي إشارة إلى أنه "مسكون بالـ..".


***


بعد أيام، جاءه اتصال من شاب اسمه روبرت، بدا متحمساً بشكل مريب، وأصر أن يرى المنزل ليلاً.

في المساء، حضر روبرت حاملاً كاميرا ضخمة، وبدأ يسأل:

" هل حصلت عندك ظواهر غريبة ؟… أصوات ؟ أشياء تتحرك ؟ "

تلعثم لطفي :

" ممم… أحياناً الكهرباء تنقطع…"

لكن لم يحتج أن يقول أكثر، لأن الشبح قرر هذه الليلة أن يقدّم عرضه الأكبر:

فجأة انفتحت النوافذ في آن واحد.

وبدأت الأضواء تومض بإيقاع كأنها عرض ليزر.

ثم مر ظل طويل ببطء عبر الممر، متوقفاً عند الباب وهو يلوح بيده.

قفز روبرت فرحاً:

"واااو ! هذا مثالي ! أنا أبحث عن بيت فيه نشاط ماورائي لتصوير حلقات قناتي على يوتيوب… سأدفع أكثر إذا وافقت أن تتركني مع الشبح !"


***


لم يصدق لطفي حظه، فوقع العقد بسرعة، وأعطى روبرت المفاتيح بابتسامة واسعة.

في طريقه للمغادرة، شعر أخيراً بالراحة… إلى أن لمح في مرآة سيارته شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقه:

كان الشبح جالساً في المقعد الخلفي وينظر إليه بابتسامة ماكرة.

قال بصوت هادئ، وكأنه يهمس في عقله :

" إلى أين أنت ذاهب ؟… أنا لا أبقى في البيت بل مع صاحبه."

ابتلع لطفي ريقه، وضغط بقوة على دواسة البنزين… حينها سمع قهقهة مكتومة تتصاعد.


تمت

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .